الصفحة الأساسية > البديل الوطني > استنهاض الحركة الجماهيرية: مواقف وإشكالات (مقتطفات)
استنهاض الحركة الجماهيرية: مواقف وإشكالات (مقتطفات):
استنهاض الحركة الجماهيرية: مواقف وإشكالات (مقتطفات)
كانون الأول (ديسمبر) 2002

يعتبر البعض أنّه من "الخطإ الجسيم" اليوم رفع شعاري "العفو التشريعي العام" و"حرية التنظيم بدون قيد أو شرط" زاعما أنّ ذلك من شأنه أن يخدم القوى الأصولية والظلامية، مطالبا بحصر العفو التشريعي العام في "القوى الديمقراطية" والاقتصار على المطالبة بحرية التنظيم لها أيضا. وبعبارة أخرى فهذا الموقف يعني اكتفاء الثوريين والديمقراطيين بالمطالبة بإطلاق سراح المناضلين الديمقراطيين المحبوسين وتمتيعهم بعفو تشريعي عام وبالتالي الصمت عن الآلاف من التونسيين الذين يلاحقهم البوليس السياسي بعنوان انتمائهم للحركة الأصولية، وينكّل بهم في السجون بشكل جائر (تلفيق تهم، عدم احترام حقوق الدفاع...) ويعرض عائلاتهم لشتّى ألوان القهر والعذاب ويحرم من يغادر منهم السجن من أبسط الحقوق المدنية (مثل العمل والدراسة والسفر وحتى التنقّل داخل البلاد...).

ليس لحزب العمال أيّ وهم أو شكّ بصدد الطبيعة الرجعية للحركة الأصولية ببلادنا. وقد كنّا أول من حلل هذه الظاهرة تحليلا علميا وموضوعيا. لكن من ليس لنا عليه أيّ وهم أيضا هو نظام بن علي ذو الطبيعة الدكتاتورية المعادية للشعب والوطن. فهذا النظام لم يشنّ حملته على حركة النهضة وأتباعها دفاعا عن الديمقراطية وعن التقدم الإجتماعي، بل سعيا لتأبيد احتكاره للحياة العامة وقمع كل نفس معارض. ومن هذا المنطلق عمّ القمع آلاف المواطنين، من بينهم من ليست له صلة بـ"حركة النهضة" أو هو يناصرها من بعيد. ومن المعلوم أنّ الطغمة النوفمبرية قد اتخذت من "مقاومة الخطر الأصولي" ذريعة لقمع كل العائلات الفكرية والسياسية بما في ذلك حزب العمال ولبسط هيمنتها على كل الفضاءات الإعلامية وعلى الأنشطة الفكرية والأكاديمية والرياضية وحتى الخيرية. وعلى هذا الأساس لا يمكن بالنسبة لكل ديمقراطي ومن باب أولى وأحرى كل ثوري أن لا يطالب بإطلاق سراح كل المساجين السياسيين بمن فيهم أنصار "النهضة" وسن عفو تشريعي عام يعيد للجميع حقوقه المدنية والسياسية. وهذا الموقف المبدئي لا يعني بأيّ صورة من الصور مهادنة فكرية وسياسية للحركة الأصولية، ولكنه موقف ينكر على الدكتاتورية طغيانها وجبروتها وانتهاكها لأبسط الحقوق الفردية بينما الموقف الذي يريد أن يستثني هذا أو ذاك من العفو التشريعي العام، إنّما هو يشرّع في الحقيقة ما تمارسه تلك الدكتاتورية من قمع شامل ويعول عليها كي تحسم التناقض مع الحركة الأصولية بمثل هذا القمع ويشجعها على المضي فيه قدما حتى شلّ كافة القوى الحية للمجتمع. ويقول بعض الإنتهازيين (بعض عناصر "الكتلة" المطرودين من حزبنا) أنه ليس مطروحا عليه أن يطالب بعفو تشريعي عام يشمل "النهضويين" لكنه بالمقابل يطالب السلطة بأن لا تعذّبهم وبأن لا تلفق ضدهم القضايا وبأن توفر لهم حق الدفاع عن النفس. لنفترض جدلا أن صاحبنا قام بذلك ولكن السلطة عذبت ولفقت ولم تحترم حقوق الدفاع وهو ما حصل مع تسعة أعشار إن لم نقل مع كل الموقوفين في قضايا "النهضة" إذ لم يفلت أي منهم من التعذيب ومن تلفيق التهم إن جزئيا أو كليا ولم تحترم إطلاقا حقوقهم في الدفاع عن أنفسهم (تكليف محامي، زيارة المحامي وإعداد الملف...) علما وأن "صاحبنا" على علم بوقوع ذلك كله، في هذه الحال ماذا يكون موقف الديمقراطي الحقيقي المتماسك؟ يلوذ بالصمت بدعوى أنه "قام بالواجب" أم أنه يطالب بإلغاء جميع النتائج المترتبة عن التعذيب والتلفيق والمحاكمات الجائرة؟ الجواب واضح. ولكن الإنتهازي قادر لتبرير انتهازيته، أن يتنكر لأبسط متطلبات الحس السليم. لنواصل.

وما دمنا نتحدّث عن العفو التشريعي العام فلا بدّ من إبداء ملاحظة أيضا في خصوص الذين يريدون استثناء بعض القضايا منه وبالذات قضية باب سويقة وكل قضية "يثبت فيها بعد محاكمة عادلة استخدام العنف". ولئن كان حزبنا لا ينكر بالطبع ما لجأ إليه أتباع "النهضة" في بعض الحالات من أعمال عنف ذات طابع إرهابي ورجعي، فإنّنا لا نعزل مطلقا هذا العنف عن العنف الذي تمارسه الدكتاتورية الدستورية على الأغلبية الساحقة من المجتمع والذي يمثل تربة خصبة لتنامي كل أنواع ردود الفعل بما فيها ردود الفعل الإرهابية، وهذا العنف أنواع: عنف بوليسي، عنف سياسي في شكل قوانين زجرية واعتقالات ومحاكمات جائرة، عنف اقتصادي واجتماعي في شكل استغلال ونهب فاحشين وتفقير وتجويع لملايين الناس، عنف إيديولوجي يتجلّى من خلال البرامج الدراسية والإذاعة والتلفزة والصحافة إلخ... لذلك فإن من يتباين مع العنف "الإخواني" عليه أن يتباين مع عنف الدكتاتورية الدستورية. ومن يدين هذا، عليه أن يدين ذلك، بنفس القوة والحزم.

أما بالنسبة لقضية "باب سويقة" فإن الذين تابعوا أطوارها يدركون جيدا خفاياها، أيْ ما كان يجري من صراع ميداني بين "لجان اليقظة" وبعض المجموعات "الاخوانية" في المدينة، كانت عملية باب سويقة تجليا من تجلياتها. فالعنف كان يجري إذن بين الطرفين، بين نوعين من "الميليشيات"، أبرزت وسائل الإعلام الرسمية واحدة منهما، لتتخذ ذلك ذريعة للإجهاز على الخصم "النهضوي". وليس خافيا على أحد أن حكم الإعدام الصادر على البعض من المورطين في أحداث باب سويقة لم يكن نابعا عن موقف قانوني، بل عن ضغط سياسي مارسته الشعب الدستورية بعد صدور الحكم الأول عليهم بالسجن المؤيد. فما كان من بن علي إلاّ أن رضخ لذلك الضغط اجتنابا لأي تململ داخل "الدساترة"، وأمر بإعادة المحاكمة وتسليط حكم الإعدام وتنفيذه على ثلاثة من المتهمين. وهكذا وبالنظر إلى ملابسات هذه القضية وإلى عدم توفر شروط المحاكمة العادلة فيها، فإن حزب العمال لا يستثنيها من العفو التشريعي العام الذي يطالب به دون أن يعني ذلك إهدارا لحقوق ضحايا عملية باب سويقة التي يضمنها لهم القانون، كما لا يعني الصمت حيال الذين أعدموا، الصمت على حق كل واحد منهم في مراجعة قضيته بناء على الوقائع كما جرت لا كما قدمت رسميا.

أما في خصوص مطلب "حرية التنظيم دون قيد أو شرط"، فإنّ ما لا يفهمه، أو ما لا يريد فهمه المعترضون على إدراجه بهذه الصورة في البرنامج الأدنى لحزب العمال، هو أن الدكتاتورية الدستورية تضرب اليوم ألف قيد وقيد على حرية التنظيم السياسي إلى درجة نفيها على كل معارضيها بل وعلى كل من ليس معها. وقد حوّرت أخيرا الفصل الثامن من الدستور لإدراج جملة الشروط الفكرية والسياسية والمادية الواردة بقانون الأحزاب وإعطائها صبغة دستورية، وهي شروط تجعل من غير الممكن وجود حزب أو أحزاب خارج الديكور، وجود حزب أو أحزاب معارضة بالفعل للدكتاتورية. ومن المعلوم أنها حوّرت منذ سنوات قانون الجمعيات أيضا لتضيف إليه فصولا تحول الجمعيات بمختلف أصنافها إلى هياكل تتحكم وزارة الداخلية في بعثها وتسييرها ومراقبة أنشطتها. وعلى هذا الأساس فإنّ حزب العمال عندما يطالب بحرية التنظيم دون قيد أوشرط، يقصد رفع كل تلك القيود والشروط التي تقيمها في وجه الشعب وفي مقدمته الطبقة العاملة، وفي وجه كل القوى المعارضة وفي مقدمتها القوى الديمقراطية والثورية كي لا تتمكن من تنظيم صفوفها ووضع حدّ لحالة الاستعباد التي هي عليها.

وبعبارة أخرى فإنّ الطغمة النوفمبرية لا تضع قيودا وشروطا لحماية حرية التنظم من الانتهاك بل لإلغاء ممارستها. ومن هذا المنطلق فإن الذين ينتقدون إدراج حزب العمال لهذه الحرية كمطلب من مطالبه في برنامجه الأدنى مع التأكيد على عدم تقييدها بشروط، إنما هم يخدمون، مهما كانت نواياهم طيبة، مصالح تلك الطغمة. فاليوم بقدر ما تكون المطالبة بحرية التنظم، بل وبكل الحريات الأخرى، متماسكة غير خاضعة للقيود والاستثناءات، تتوفر ضمانات أكثر لكي تتمتع بها الطبقة العاملة والشعب. أما القيود والشروط فلا يمكن إلاّ أن يتضرّرا منها، لأنها لن تكون إلاّ على حسابهما ولفائدة القوى والكتل التي تريد المحافظة على النظام البورجوازي الرجعي، ولا تقبل في أفضل الأحوال إلاّ بـ"ليبرالية" مقيدة تحمي النظام من صولة الشعب.

وبطبيعة الحال فإن حزبنا عندما يطالب بحرية التنظم دون قيد أو شرط، معناه أن هنالك قوى رجعية، مثل الحركة الأصولية يمكنها أن تنتفع منها. هذا أمر لا مفرّ منه، فكل حرية يمكن أن تستغلها قوى معادية لها. وهو ما يدعو القوى الثورية، أبناء الطبقة العاملة والشعب إلى مضاعفة الجهد كي يخلقوا موازين القوى التي تجعل قيادة النضال الديمقراطي بأيديهم ولكي يسدّوا الباب أمام حلول استبداد آخر بدل الاستبداد الدستوري، وهو ما لا يمكن أن تحققه قعدات "الصالونات" وأحاديث المقاهي وعقليات "الحوانيت" التي تأبى النزول إلى الشعب والعمل النشيط في صلبه لتوعيته وتسليحه ببدائل ثورية وتقدمية. ومن نافل القول إنّه عندما تتوفر الحرية للشعب، أي عندما يصبح الشعب سيد مصيره وقتها ووقتها فقط يمكنه اتخاذ الإجراءات التي تحمي الديمقراطية وتكفل ممارستها واستمراريتها.

ولا بدّ من ملاحظة أن الذين يعترضون على ما يطرحه حزب العمال بشأن العفو العام وحرية التنظّم هم أنفسهم الذين يعتبرون تنديد حزب العمال بما يتعرض له العديد إن لم نقل جلّ المتهمين بالإنتماء إلى الحركة الأصولية من تعذيب وسوء معاملة في السجون وحرمان من أبسط حقوق الدفاع أمام المحاكم (وهي في الواقع ممارسة تشمل كل المعارضين للدكتاتورية)، "تواطؤا" مع تلك الحركة أو"دعاية مجانية لها". وعادة ما يضيفون، معتقدين أنهم يقدمون حجّة من الوزن الثقيل: "لو كان "الإخوان" في السلطة لفعلوا أكثر من ذلك". وبعبارة أخرى فإن المطلوب من حزب العمال في نظر هؤلاء أن يسكت عن تلك الانتهاكات وبالتالي التواطؤ مع الدكتاتورية أو في أقصى الحالات أن ينددوا بها على طرف اللسان. وهو ما لن نقع فيه مطلقـا. فحزب العمـال لا يمكنه أن يكـون قُوّة طليعية في النضـال الديمقراطي دون أن يكون في مقدمة المشهرين بكل انتهاك من الانتهاكات التي ترتكبها الدكتاتورية الدستورية حيال أي طبقة أو فئة من طبقات أو فئات المجتمع، في حق أي مواطن من المواطنين مهما كان اتجاهه السياسي والعقائدي. فليس الصمت عن هذه الإنتهاكات هو الذي سيدعم الحركة الديمقراطية والثورية ويحول دون وصول الحركة الأصولية إلى الحكم، بل على العكس من ذلك فمثل هذا السلوك يضعف الحركة الديمقراطية ويمدد في عمر الدكتاتورية. إن الديمقراطي الحقيقي المتماسك لا يمكن مثلا أن يقبل بالتعذيب وسوء المعاملة وتلفيق القضايا في حالات، ويرفضها في أخرى، بل إنه يرفضها رفضا مبدئيا في كل الحالات انطلاقا من قناعاته الديمقراطية البعيدة عن النفعية والانتهازية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة. وعن الذين يقولون "لو كان الإخوان في الحكم لفعلوا أكثر من هذا"، نجيب أنه ما من موقف كهذا يفتح الباب واسعا أمام التعسف الدكتاتوري ويجيز للتطرّف الديني في حالة وصوله إلى الحكم ارتكاب أشنع الجرائم، بل إن مثل هذا الموقف هو الذي ساعد الطغمة النوفمبرية منذ 1991 على الوصول بالبلاد إلى ما هي عليه الآن من تلجيم للحريات الفردية والعامة، تحت غطاء "مقاومة الإرهاب الإخوانجي". فالنضال المتماسك من أجل الحريات السياسية واحترام حقوق الإنسان هو الطريق الوحيد الذي من شأنه أن يمكن الطبقة العاملة والشعب عامة من تربية سياسية ديمقراطية وتقدمية تجعلانهما يتصديان للفاشية الدستورية ولكل دكتاتورية أخرى حتى لو كانت ذات غلاف سماوي. لقد بين حزبنا في وثيقته المركزية: "الوضع العام بالبلاد ومهمات المرحلة" (منشورات حزب العمال الشيوعي التونسي –سبتمبر 1996) "أن سد الباب أمام الظلاميين غير ممكن إلاّ بالنضال الحازم والثابت ضد الفاشية الدستورية وطرح البديل التقدمي عنها. (ص 48). ويضيف معللا هذا الموقف: "إنّ الدكتاتورية الدستورية في بلادنا شأنها شأن بقية الأنظمة الفاسدة في البلدان العربية الأخرى هي التي بصدد تعبيد الطريق أمام الحركات الأصولية الظلامية باختياراتها الاقتصادية المولدة للفقر والبؤس وبفسادها وظلمها وقهرها وبعمالتها وتطبيعها مع الكيان الصهيوني وتدميرها للمنظمات والقوى الديمقراطية والقضاء على كل نفس حر ونقدي، كل هذه العوامل تعطي مشروعية للحركة الأصولية وتوفر لها فرصة البروز من جديد وطرح نفسها بديلا، واستثمار ما سلط عليها من قمع لتأكيد أهليتها بقيادة البلاد. لذلك فإن من يريد حقا سد البـاب أمـام الفـاشية الظلامية ليس أمامه سوى سبيل واحد وهو مقاومة الفاشية الدستورية بكل صرامة وحزم ودون مهادنة والدفاع عن كل مكسب من المكاسب التي حققها الشعب بنضاله وتضحياته وتقديم بديل وطني، ديمقراطي وتقدمي للشعب حتى يقتنع بأن هناك طريقا آخر لخلاصه غير الطريق المظلم المسدود الأفق الذي تطرحه الحركة "الإخوانية" (ص 50).

الشـيوعي -العدد 10 –فيفري 1998


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني