الصفحة الأساسية > البديل الوطني > الإصلاح الجامعي... والهروب إلى الأمام...
الإصلاح الجامعي... والهروب إلى الأمام...
19 أيلول (سبتمبر) 2009

لا يزال الإصلاح الجامعي المتمثل في منظومة "إمد" يثير ردود فعل متباينة. فقد انتهت السنة الجامعية 2008/2009 والصّراع على أشدّه بين وزارة التعليم العالي والمنافحين عن سياستها من ناحية والجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي والنقابيين وهياكل الجامعة (أقسام، مجالس علميّة) من ناحية أخرى. وقد تميّزت هذه الصائفة بحركية لم يعهد الأساتذة الجامعيّون فيما مضى مثيلا لها، واتخذ الجدل أشكالا مختلفة في ظلّ غياب الحوار المباشر بين وزارة الإشراف ونقابة الأساتذة (مقالات ومقالات مضادة، عرائض، ندوات صحفية وتجمّعات متواصلة لأساتذة التاريخ والجغرافيا). والمتابع لهذا الجدل يدرك أنّ البون شاسع بين أطروحات الوزارة وأطروحات النقابة، وأنّ الهوّة بينهما تزداد اتساعا من يوم إلى آخر، وأنّ استخفاف الوزارة بالأساتذة والتقليل من شأن مقترحات الهيكل النقابي واللامبالاة بتحرّكات الجميع أمر جليّ، كما يدرك أنّ هذا الإصلاح وجّه ضربة قاضية للإنسانيات واللغات. والأغرب من هذا وذاك انبراء أساتذة تجمّعيين للدّفاع عن هذا الإصلاح بأسلوبهم الخاص ليُعفوا وزارة الإشراف من الردّ على النقود الموجّهة إليها. فأين تتجلّى نقاط الاختلاف؟ وماذا حملت مقالات النجدة في طيّاتها؟

1 - نقاط الاختلاف

انتهت السنة الجامعيّة وقد حملت معها أخبارا غير سارّة تلقاها الأساتذة من الأنترنيت ودليل التوجيه الجامعي وتمثلت في حذف بعض الشعب (الترجمة)، وإدماج شعب أخرى (التاريخ والجغرافيا)، وتحويل إجازات أساسية إلى إجازات تطبيقية (علم الاجتماع، علم النفس، العربية في المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس- ابن شرف). وهكذا خلقت وزارة الإشراف وضعا غير مريح نغّصت به عطلة أساتذة هذه الشعب. وظلّت، رغم ذلك، غير مبالية بتبعات هذه الإجراءات وغير مستعدّة لفتح حوار جدّي مع الهيكل النقابي الجامعي للنظر في هذه المستجدّات، واكتفت أحيانا بالردّ على كلام النقابة في الصحافة. ويتبيّن المتابع لهذا الجدل أنّ ما يعقد الأمر هو اختلاف التصوّرات والمفاهيم بين الوزارة والنقابة. ويمكن أن نقتصر على بعض النقاط.

أ – مهننة الجامعة أم تشغيل الطلبة؟

ترى الجامعة العامّة للتعليم العالي أنّ هذا الإصلاح أفقد الجامعة وظيفتها المعرفية ودورها في تطوير المجتمع وتحديث عقليته. فكفت عن أن تكون محضنة للفكر النقدي، وعن أن تربّي الناشئة على التحليل العقلاني والتفكير الحر، وتزوّد الطلبة بتكوين أكاديمي متين. وقد حوّلها هذا الإصلاح إلى مدرسة للمهن تُسلّم المتخرّجين فيها شهائد تمكّنهم من الدخول إلى سوق لا شغل فيها وتساعدهم على طرق أبواب ستظلّ موصدة في وجوههم مهما كان اسم الشهادة والصفة التي ستحملها. فقد ألغت الوزارة عديد الإجازات الأساسية وتجاوزت الفصل 11 من القانون التوجيهي للتعليم العالي (مع التذكير بأنّها هي التي وضعت هذا القانون) الذي ينصّ على توجيه ثلثي الطلبة إلى المسالك التطبيقية المهنية في حين يتلقى الثلث المتبقي تكوينا أساسيا، وارتأت أن يكون ثلثا المسالك والإجازات مسالك تطبيقية وليس ثلثي الطلبة.

وتُعلّل الوزارة هذا الإجراء بانشغالها بالتشغيلية وضرورة ملائمة التعليم لواقع البلاد وانتشال آلاف الطلبة من البطالة وإتاحة الفرصة لهم لاقتحام سوق الشغل بأسلحة جديدة، وتجاهلت أن البطالة طالت حتى الطلبة المتخرّجين في كلّيات الطبّ والصيدلة والهندسة وأنّ حذف بعض الشعب وتقليص البعض الآخر وإحداث إجازات تطبيقية لن يوفر مواطن شغل إضافية، وأنّ البطالة لن يتمّ التخلّص منها حتى ولو تحوّلت كلّ الإجازات إلى إجازات تطبيقية، وأنّ القضيّة أعمق من رفع شعار برّاق لكنه خُلّب.

وهكذا أنهى هذا الإصلاح المشؤوم، باسم التشغيلية وهي كلمة حقّ أريد بها باطل، الدور الكبير الذي اضطلعت به الجامعة التونسية طيلة خمسين سنة، وستكون مضاعفات هذا الإجراء وخيمة والخسارة مضاعفة. فالإصلاح لن يوفّر الشغل والأجيال القادمة ستكون هجينة فلن تحذق مهنة ولن تكتسب معرفة.

وقد تُضطرّ الوزارة إلى أسلوب المراوغة كلّما وجدت نفسها محجوجة من قبيل التلاعب بالكلمات.

ب- حذف الإنسانيات أم حجبها؟

يبدو أنّ سياسة الارتجال والاعتباطية قادت وزارة الإشراف إلى محاولة إقناع المناهضين للإصلاح بإجراءات هي غير مقتنعة بها أصلا، وإيهام منتقديها بوجاهة برنامج غير وجيه، وإعطاء مشروعية لإصلاح يفتقر إلى أدنى مشروعية. وكلّما بُني مشروع على الارتجالية تميّز بالتعثر والارتباك واحتاج إلى التماسك والانسجام. والدليل على ذلك أنّ وزارة الإشراف أقدمت على حذف بعض الشعب ولمّا تعرّضت للنقد (انظر مقال صالح عطية "بين نقابة الجامعيين والوزارة شدّ وجذب حول التقليص من الإنسانيات" – "الصباح" 11 جويلية 2009) سارعت إلى توضيح الأمر زاعمة أنّ حذف بعض الشعب ليس بالضرورة تخلّيا عنها نهائيّا بل قد يكون حجبا مؤقتا إذا أثبتت التجربة أنّ حذفها غير سليم. فقد ورد بجريدة "الصّباح" بتاريخ 16 جويلية 2009 "توضيح من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا حول التقليص في الإنسانيات: حجب الإجازات ليس حذفها" جاء فيه ما يلي: "وقد أقرّ الإصلاح ضرورة تقييم كلّ الإجازات كلّ أربع سنوات للتيقن من مدى تشغيليّتها واندماج خرّيجيها في سوق الشغل، وسيترتب على نتائج التقييم قرار الاعتماد أو دعوة الفريق البيداغوجي إلى تحيين عروض التكوين إذا ما أثبت أنّ مضامينها فقدت وجاهتها. وإنّ هذه المقاربة الجديدة لعروض التكوين تدلّ على أن حجب بعض الإجازات في سنة ما أو تأهيلها ليس بالأمر النهائي أو بالمكتسب الأزلي. ستكون عروض التكوين بجميع أصنافها محلّ تقييم خلال السنوات القادمة حسب مرجعيّة الجودة الأكاديمية والتشغيلية" (ص7). فهل نستنتج من هذا الكلام أن الجامعة أصبحت مخبر تجارب وان الطلبة فئران هذه التجارب؟ وما مصير الأساتذة خلال سنوات الحجب؟ هذا هو العبث بعينه والتلاعب بمصير مدرّسين وعدم احترامهم. فهل ستحيلهم الوزارة على البطالة الفنية مدّة معيّنة ثمّ تدعوهم إلى الالتحاق من جديد بإحدى الكلّيات وهكذا دواليك؟

إلاّ أنّ أساليب الوزارة في الرّدّ على الرّافضين لهذا الإصلاح متنوّعة. فقد تلازم الصمت وتوعز إلى أساتذة تجمّعيين بالردّ نيابة عنها.

2 - ردود بالوكالة

لمّا داست وزارة الإشراف أساليب الحوار وتجاهلت الهيكل النقابي وأصرّت على التعنّت استعانت بأساتذة يقاسمونها الرؤية ويتبنّون أطروحاتها ليجادلوا المعترضين على الإصلاح . وقد انتقينا بعض المقالات باعتبارها عيّنات تكشف كيفية ردّهم. والمقالات التي اعتمدناها هي:

أ- محمد نجيب بوطالب: "الإصلاح الجامعي: تخطيط رشيد للدخول إلى المستقبل" – جريدة "الشروق" – الخميس 9 جويلية 2009 ص19.
ب- هدى سعادة: منظومة التعليم العالي بين الإصلاح ونقد الإصلاح –جريدة "الصّباح" الثلاثاء 28 جويلية 2009 ص 5.
ج- أنور الجمعاوي: فزّاعة التخويف من تجديد التعليم الجامعي –جريدة "الصّباح" -الأحد 16 أوت2009 ص 20.
د- فرحات الدريسي: الحراك الطالبي في رحاب الجامعة- جريدة "الصباح" 8 فيفري 2009 ص12.

واللافت للنظر هو أنّ هذه المقالات تتشابه في مضامينها ولا تختلف أحيانا إلاّ في كيفيّة صياغتها وإخراجها، وهو أمر مثير للريبة. وكأنّ الكاتب واحد والمخرجين كثر. فمقال نجيب بوطالب مدح لنظام "إمد" وثناء على إيجابياته وإبراز لأفضاله على اقتصاد البلاد ومستقبل العباد، وميزاته لا تعدّ ولا تُحصى. فهو نظام الجودة والمردودية وحركية الطلبة، وهو نظام الكفاءة والتأقلم مع عالم الشغل وتحقيق التكوين التطبيقي المرتبط باحتياجات التنمية والمستجيب لما عرفه عالم الشغل ومنظومات الاقتصاد من تغيّر سريع. وهكذا يبدو هذا الكلام العام صالحا لكلّ النظم التعليمية التي تراجع نفسها بانتظام ماعدا نظام "إمد". فآفاقه ضبابية ومردوديته غير واضحة والارتباك الذي ساد تطبيقه جليّ.

أمّا أنور الجمعاوي فقد محور خطابه حول ثنائية التجديد والمحافظة. فالكاتب يمثل معسكر التجديد الرّاغب في تعصير البرامج وخطابه موجّه إلى معسكر الجمود والشدّ إلى الوراء دون أن يسمّيه، وهو أسلوب يقيه شرّ البلية ويجنّبه التصادم مع أصحاب الرأي الآخر. يقول: "والواقع أنّ متابعة ردود الفعل في الصحافة الوطنية يخبر بأنّ بعضهم يعارض سُنّة التجديد في التعليم العالي".

هكذا أصبح النقابيون جامدين متحجّرين يعارضون تجديد البرامج وأصبح المعسكر المرتبط بالوزارة والمدافع عن سياستها الخرقاء والساتر لعوراتها معسكر التقدّم والتجديد والتطوّر. سبحان الله!

وبعد ذلك يعدّد صاحب المقال مزايا هذه المنظومة: تعديد الشعب / تنويع الاختصاصات / استثمار الطاقات الإبداعية للطلبة (فهل هذا يعني أنّ المنظومة القديمة لم تكن تستثمر هذه الطاقات؟ هو يُدين المسؤولين الذين يدافع عنهم دون أن يُدرك ذلك!)، تأسيس نظام تعلّمي تفاعلي بين الأستاذ وطلبته وتكوين جيل كفء معرفيا (العزوزة هازها الواد وهي تقول العام طهمة) / مواكبة الطلب التشغيلي وحاجيات السوق / التكيّف مع مستجدّات العصر التعليمي في البلدان المتقدّمة. وفي كلمة هو إصلاح يجعل بلادنا تنتمي إلى هذا العالم ولا تقع خارجه. هكذا سيجعل هذا الإصلاح بلادنا بين عشيّة وضحاها بلدا متقدّما بلا منازع!

وتبدأ هدى سعادة مقالها بمقدمة نظريّة تتحدّث فيها عن أهميّة الإصلاح باعتباره سنّة الحياة. وقد رأت أنّ إصلاح التعليم العالي استجابة للظروف العالمية المتسارعة التحوّل والتغيّر وأنّ هذا المشروع سيمكّن البلاد من الانخراط في مجتمع المعرفة وفي محيطها الجغرافي والمعرفي، ثم نجدها بعد ذلك تَكيل ضروبا من اللوم والشّتم والإدانة والتجريح- بلغة لبقة وبعنجهية ملفوفة في قماش من حرير وكياسة مسمومة- للمحترزين من هذا الإصلاح المرتجل والرافضين للقرارات الأحدية والمندّدين بعدم إشراك النقابة في هذا الإصلاح. ومن الأمثلة الدالة على ذلك قولها: "فلا يمكن أن تُؤجّل القرارات حين يجب اتخاذها إذا ما آن أوانها خوفا من لومة لائم أو انتقاد ناقد"، "لايبقى أمام القافلة إلاّ أن تواصل مسيرتها ذلك أنّ الأهداف الإستراتيجية هي أكبر من أن تقف لمجرّد الوقوف نزولا عند رغبة هذا أو ذاك"، "الفرق بيّن بين من يجتهد وبين آخر يتربّص بهذا الذي يجتهد".

وتختم مقالها بالدعوة إلى الحوار "بعيدا على مهاترات التهديد بالمقاطعة لهذا الإصلاح أو ذاك، الحوارات ممكنة وضرورية في دولة القانون والمؤسسات وفي ظلّ فهم عميق لمعاني الديمقراطية" (كذا !).

أمّا فرحات الدريسي فقد جاء خطابه متفقا في جوهره مع خطابات السابقين رغم أن ّعنوان المقال يتعلّق بالطلبة. فقد ركّز على خصائص الإصلاح ولاحظ أن التعليم العالي يشهد حراكا متسارعا من جهات شتّى، وأنّ هذا الحراك هو "انخراط في إرادة الحياة بذهنيّة إبداعية وعقليّة إنتاجيّة ومنهجيّة تنظيميّة ومنطقيّة، وسيساهم هذا الإصلاح في التحديث وتحقيق التنمية المادية والمعنويّة والحماية الذاتيّة والمناعة الوطنية". وهكذا يبدو هذا الإصلاح منقذ البلاد من تخلّفها وفاتح أبواب الجنّة أمام ضحايا البطالة ورافع البلد إلى مصاف الدول المتقدّمة.

نتبيّن، من خلال قراءة هذه المقالات، أنّ أصحابها تركوا موضوع "مهننة الجامعة" جانبا وحوّلوا خطاباتهم إلى حديث عن التحجّر والتقدّميّة ومواكبة العصر، وظهروا بمظهر المدافع الحقيقي عن التعليم والبلاد متصدّين لقوى الجمود والمحافظة. فهم إذن أناس متطوّرون مواكبون للواقع يريدون عصرنة البرامج وجعلها مستجيبة لمتطلبات هذا الواقع المتحرّك الذي يرفض الثبات والجمود. لذا وجبت – حسب رأيهم- مقاومة جيوب التحجّر والتخلّف بكل الوسائل والأساليب.

وفي الختام نستطيع أن نقول لقد تبيّن الآن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وتأكّد استخفاف وزارة الإشراف بقطاع التعليم العالي أساتذة وهياكل نقابية وطلبة، واعتمادها أساليب المراوغة والتضليل، وعزمها على تنفيذ مشروعها رغم كلّ هناته ونقائصة ومعاداته لمصالح الأساتذة والطلبة وتدميره الجامعة وضرب إشعاعها، وهروبها من مواجهة الواقع وتعقيداته. فهذه الوزارة لا تحرّكها العرائض ولا البيانات ، ولا تستفزّها الاجتماعات ولا التجمّعات.فشعارها هو التصامم والتعامي والبَكامة (انظر اللائحة الصادرة عن اجتماع أساتذة التاريخ والجغرافيا المنعقد بكلية 9 أفريل يوم 8/9/2009 – جريدة "الشعب" ع 1039 – السبت 12 سبتمبر 2009 – ص5). وبعد أن تجلّى كلّ ذلك فما على الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي إلاّ أن تضبط برنامجا عمليّا يردّ الاعتبار للقطاع ويحفظ ما تبقى من ماء الوجه. ولعلّ أهمّ نقاط هذا البرنامج هي:

أ - حمل وزارة الإشراف على الاعتراف بالجامعة العامّة هيكلا نقابيّا شرعيّا وممثلا وحيدا للأساتذة.
ب- إلزام قيادة الاتحاد المسؤولة عن الانخرام الداخلي للقطاع منذ عشر سنوات بفضّ إشكالية الاعتراف بالجامعة مع الحكومة ووزارة الإشراف.
ج - مساندة الهياكل النقابية للأساتذة المتضرّرين من هذا الإصلاح مسـاندة فعليّـة وليست شكلية (أساتذة التاريخ والجغرافيا، أساتذة الترجمة وعلم الاجتماع وعلم النفس).
د- بلورة برنامج مطلبي يلفّ حوله كل الأساتذة.

ولتكن سنة 2010 سنة النضال وردّ الاعتبار للأستاذ وحفظ كرامته.

علي بن صالح


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني