الصفحة الأساسية > البديل الوطني > الاستبداد باسم الدين وباسم الحداثة خطران جديّان على الديمقراطية
ردا على عتيق والزغيدي:
الاستبداد باسم الدين وباسم الحداثة خطران جديّان على الديمقراطية
27 كانون الثاني (يناير) 2010

أصدرت "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" في المدة المنقضية وثيقة "نص مشترك حول العلاقة بين الدولة والدين"، وقد أثارت هذه الوثيقة الهامة جدلا في أوساط الساحة السياسية، إذ اعتبر البعض هذه الوثيقة خطوة متقدمة في عمل هيئة 18 أكتوبر جاءت لتدعم محتوى الوثيقتين السابقتين حول مسألة المساواة بين الجنسين، وحول حرية المعتقد، فيما اعتبر بعض آخر [1] إن الوثيقة قامت على "اختزال يضر أحيانا بهذه القضايا وبـ"الإسلام السياسي" تحديدا لأنه يناقش بوعي أسسه الفكرية ويراجع أصوله النظرية بشكل لا يقبل به كل إسلامي" (عتيق)، أو أنها "اشتملت على تعبيرات فضفاضة وأفكار عامة كثيرا ما تستعملها حركة النهضة في نصوصها وبياناتها" (الزغيدي).

إننا، وإن اخترنا نصّي السيدين عتيق والزغيدي، فللإعتماد عليهما - كنموذجين للموقف المضاد للوثيقة - في إبداء هذه الملاحظات.

1- حول الاستبداد باسم الدين:

لقد أثار وقوف الوثيقة على هذا الجانب حفيظة العديد من أنصار التيار الإسلامي الذين بدا واضحا تصديهم ورفضهم لأيّ نقد موجه للحركة الإسلامية، وهو أمر - في تقديرنا - لا يساعد على تقدم عمل "هيئة 18 أكتوبر" بل يعيقها ويدعم أسباب تراجعها أو فشلها، وهنا يجب التنويه إلى أن مجمل النصوص التي أنتجتها الهيئة هي نتاج تفكير وجدل وصراع عميق، صراع مسؤول يهدف إلى البناء، وهو قائم على أساس الصراحة والوضوح والجرأة بعيدا عن فكرة أن طرفا ما هو "مستهدف وملاحق في مرجعياته وأصول تفكيره" والمقصود هنا طبعا هو الطرف الإسلامي.

1- وبالعودة إلى نص الوثيقة، نجد بعد الديباجة، وقوفا على 3 تحديات تواجه شعبنا في نضاله وتطلعه من أجل تغيير ديمقراطي حقيقي و"تأسيس علاقة سليمة بين الدين والدولة"، أولى هذه التحديات هو استبداد السلطة الذي كثيرا ما يوظف الدين، ثانيها هو الاستبداد باسم الدين، وثالثها هو الاستبداد باسم الحداثة (الذي سنعود إليه لاحقا). فيما يتعلق بالتحدي الثاني، جاء في النص "الاستبداد باسم الدين الناجم عن قراءة أحادية مغالية للإسلام والذي يؤدي إلى التدخل بالقوة في حياة المواطنين الخاصة وإلى النيل من حقوقهم وحرياتهم الأساسية ومن المبادئ الديمقراطية" وهي فقرة أثارت العديد إذ اعتبرها العجمي الوريمي "في غير محلها ولا تنطبق على الواقع التونسي" (الموقف، 1 جانفي 2010) ويقترح تعويضها بفقرة أخرى "تشير إلى غياب رؤية معاصرة لصيغة حديثة لعلاقة متوازنة بين الدين والدولة..."(!!!) أمّا السيد عتيق فاعتبر هذا القول "مغالطة مرفوضة وليّا لأعناق الحقيقة"، فبالنسبة إليه لم يوجد قط استبداد باسم الدين.

وحتى لا ندخل في جدل فكري يغوص في الأصول ويرجع للنصوص حتى وإن اكتفى بظاهرها، وهو أمر استوعبه منتدى 18 أكتوبر في إعداده المضني لهذه الوثيقة، دون ذلك يكفي العودة إلى الماضي القريب للتجربة السياسية التونسية حين كان أنصار التيار الإسلامي يتدخلون بالقوة في الحياة الشخصية والخاصة والحميميّة للناس مثل استهداف حرية الضمير والمعتقد لمن خالفهم، وهو ما نتج عنه تقسيم المجتمع إلى مؤمنين وكفار، هؤلاء الأخيرون يمكن هدر دمهم وذاكرة التونسيين لازالت تذكر أواسط الثمانينات وقوائم التكفير/القوائم السوداء التي تتضمن أسماء العديد من الديمقراطيات والديمقراطيين من أجل تصفيتهم جسديا، كما أن الرأي العام لازال يذكر "الغزوات" ضد المطاعم الجامعية في شهر رمضان وخلافه، وضد الشواطئ والحدائق العامة والنوادي الثقافية لمحاربة الاختلاط و...، كما لازال العديد يذكر تقسيم الطوابير في الجامعة بين واحدة للذكور وأخرى للإناث، وكذلك أسماء القوائم الانتخابية في الجامعة وفي النقابات ونوادي السينما والرابطة، التي كانت تنعت بكونها قوائم "الإيمان والعفة" مقابل "قوائم الكفر"، فماذا يسمّى كل هذا؟ ألا يسمّى استبدادا(!!!) بل هو غطرسة وفاشية باسم الدين.

إنه استبداد ناجم عن قراءة أحادية مغالية ومتطرفة للدين، نتج عنه تدخل سافر واعتداء فظيع على الحريات الفردية والعامة، فلماذا لا نسمي الأشياء بمسمياتها؟ ولصالح من درء الحقائق؟ ففي اعتقادنا على التيار الإسلامي تدقيق النظر ومراجعة تاريخه ليس فقط من جهة العلاقة مع السلطة (تصادم/تهادن) بل أيضا من جهة العلاقة مع المجتمع التونسي وفعالياته المدنية والسياسية وكذلك أيضا المؤسسة الدينية التي عملت على توظيفها وتحويلها إلى فضاء متنافس عليه فيما بين التيارات والمجموعات الإسلامية ذاتها، ومع السلطة الحاكمة. هذه السلطة عملت على تطويع الدين وتوظيفه منذ اليوم الأول لانتصابها، ففي صراع بورقيبة مع اليوسفيين (وجزء من الزيتونيين ساند بن يوسف، أو رفض "إصلاحات" بورقيبة)، عمل على توظيف الدين، صحيح أن المؤسسة الدينية وقفت في وجه بورقيبة في بعض المحطات (حادثة الإفطار العلني ومظاهرة جامع عقبة بالقيروان بقيادة الشيخ خليف إمام الجامع...) إلاّ أنّها في المجمل كانت خاضعة له وخادمة لمصالح سلطانه، بل كان وهو "التغريبي التحديثي" يشرف بنفسه على بعض المناسبات وكان يروّج لفهم معين للدين ونصوصه، يخدم مصالحه ومصالح طبقته ونظامه، وهو أمر متواصل إلى اليوم إذ أن المؤسسة والمنظومة الدينية برمّتها هي أحد أهم ركائز الدكتاتورية، لذلك لا معنى لما ذهب إليه السيد عتيق بكون الدولة سيطرت "على الدين ومؤسساته واستبعاده وتهميشه وفرض أنماط من السلوك والأذواق والأحكام باسم العلمانية واللائكية والحداثة" وبالتالي فان "الاستبداد الذي ساد خلال العقود الخمسة الأخيرة كان خارجا عن الدين ومعاديا له ولم يكن تحديا واجهه الشعب التونسي" وشهدت البلاد في هذه المرحلة "تلازما حتميا بين اللائكية والاستبداد".

2- إن ما ذهب إليه السيد عتيق يجانب الحقيقة التاريخية والموضوعية، فالسلطة التونسية لم تكن يوما لائكية، فاللائكية في تعريفها الأكثر بساطة هي فصل الدين عن الدولة، فهل هذا حاصل في بلادنا؟ نحن نجزم بالنفي، فلا التشريع (الدستور، مختلف القوانين الأخرى) ولا ممارسة السلطة تذهب هذا المذهب، صحيح أن الدولة خاصة بعيد 1956 اتخذت بعض الإجراءات ذات الطابع الحداثي (بعض الجوانب في الأحوال الشخصية اعتمادا على قراءات للدين، توحيد القضاء، التعليم، تصفية الاحباس...) يقابل ذلك اعتماد وتوظيف كبير للدين ولمؤسساته ورموزه، ومن بين نتائج هذا التوظيف تحوّل المجال الديني إلى مجال تنافس واستغلال وصراع بين الدولة والتيارات الإسلامية وهو أمر متواصل إلى اليوم وإن بشكل غير عاصف وظاهر. إن قول السيد عتيق هو عين المغالطة وليّ لأعناق الوقائع التاريخية وتكييف لها بما يخدم أحكاما ومواقف جاهزة، وقوله بكون استبداد الدولة التونسية كان خارجا عن الدين ومعاديا له، وأنّ الاستبداد في ربوعنا تلازم مع اللائكية، هو قول غير جدي، فأن يقول أن الدولة - وفي إطار صراعها مع التيار الإسلامي - قامت بعديد الانتهاكات الجسيمة ضد الحريات الشخصية بما في ذلك ضد بعض مظاهر التدين (منع اللحية، الخمار...) فهذا صحيح، لكن أن يقول أنها حكمت طيلة خمسين عاما باسم العلمانية واللائكية والحداثة، فهذا قول مردود ولا يقبل به كلّ دارس موضوعي لتاريخ تونس وحاضرها، أما الاستبداد باسم الدين - وهنا مربط الفرس - فقد وجد ومازال موجودا، وهو لا يشمل فقط الحركة الإسلامية، وإن كانت هذه الأخيرة تشكّل خطرا قائما إن لم تتراجع عن مقومات/مشروعها الاستبدادي، بل يشمل أيضا مارد السلفية الجهادية، وأيضا السلطة القائمة فلا يجب أن ننسى أن أحد أهم ركائز استبدادها هو توظيف واستغلال الدين، وقد تجنح في ظروف وأوضاع معينة إلى قراءاته الأكثر تشدّدا ومغالاة والتجربة التاريخية القريبة تؤكّد هذا ( تجربة النميري، السادات...).

3- إثر ذلك يمرّ السيد عتيق إلى التعليق على مسألة الهوية قائلا أن هذه الوثيقة تعرضت لهوية الشعب التونسي "دون تنصيص واضح عن مكوناتها العربية الإسلامية وتحدثت عن دولة تكاد تخلو من هوية" وهو أمر غير صحيح، تقول الوثيقة "إن هوية الشعب التونسي تشكلت عبر صيرورة تاريخية طويلة وهي تثرى وتتطور بالتفاعل الخلاق بين مقوماتها الحضارية العربية الإسلامية ومكتسبات الحداثة...".

فهل بعد هذا الوضوح وضوح، أم أن للسيد عتيق رأي آخر؟ ربما يريد من الوثيقة أن تصوغ المقاربة وفقا لقراءته هو الأحادية التي تنظر للهوية كمعطى جامد/ فوق تاريخي. وهو يريد مرّة أخرى أن يمرّر مغالطة الخلط بين معنيي الهوية والدولة، فالهوية هي الذاتية الخاصة بشعب أو أمة وهي نتاج لتفاعل تاريخي/حضاري/ثقافي/إجتماعي، يخلق الشخصية أو الذاتية التي تميز هذا الشعب عن غيره (ضمن الانتماء للمجموعة الإنسانية التي تتقاسم العديد من القواسم المشتركة كإفراز لحالة التفاعل التاريخي بين الشعوب والأمم...)، هذا التقديم للهوية هو تقديم عام جدا تعتمده عادة مدارس السوسيولوجيا الثقافية والأنتروبولوجيا، وإذا تعمقنا أكثر في الموضوع ومن أجل استبعاد المقاربات الدينية التحنيطية لمسألة الهوية والتي تنطلق من مقولات جاهزة متعالية عن الواقع والتاريخ، يجب أن نفرّق بين مستويات ثلاث في تاريخنا العربي الإسلامي، المستوى الأول يتعلق بالعقيدة وهي تتعلق بالمجال الخاص بالأفراد ومتوزعة على كل المعتقدات إن دينية كانت (إسلام، مسيحية، يهودية...) أو فلسفية (إلحاد، لا أدرية...)، المستوى الثاني يتعلق بالحضارة أي المشترك بين كل المكونات العقدية أو العرقية أو الثقافية أو الاجتماعية... والتي تنصهر في إطار تفاعل أحيانا يكون عادلا حين يحتكم إلى المساواة، وأحيانا يكون ظالما ومظلما حين يقوم على التمييز والاستبداد والاضطهاد، وفي حضارتنا هناك المضيء والنيّر وهناك المظلم والرجعي (اضطهاد ديني، عرقي، جنسي، طبقي...). المستوى الثالث متعلق بجانب الشريعة وهي مجموع الأحكام والقوانين والفتاوى... المتعلّقة بكل جوانب المعاملات البشرية (اجتماعية، اقتصادية، دبلوماسية...) وهذا الأمر هو مثار اختلاف بين داع لتطبيق الشريعة/الشرع كما نزل باعتبار ذلك واجب المخلوق على الخالق، وداع إلى تحكيم ملكة الاجتهاد عبر تنسيب الأحكام وتأريخها، ويعتمد هؤلاء على النزعة المقاصدية في التعامل مع النصوص، وطرف أخير يدعو إلى الفصل بين النص والمعيش، أو بين المقدس والدنيوي، باعتبار الأول خاص وحميمي والثاني عام ومشترك.

إن نفي واستبعاد هذه التدقيقات يجعل من طرح مسألة الهوية طرحا مغلوطا ومشبوها، فالقول بالهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي هو تسليم بمعطى تاريخي حضاري، وهذا لا يعني البتة نفيا لأصول الشعب التونسي البربرية، بل هو إقرار بما تشكل وساد تاريخيا، أما فيما يتعلق بالعقيدة فهي متنوعة وإن كانت الأغلبية مسلمة، وهذا الأمر خاص وشخصي، أمّا جانب الشريعة فهذا هو مدار الصراع بين العلمانيين وحملة مشروع الدولة الدينية. إن هذه الأخيرة مرفوضة من قبل الديمقراطيين - لا معاداة للعقيدة - لأنها دولة تحكم باسم ديانة ومذهب تقسّم وفقا له مواطنيها، فهذه الدولة ليست دولة المواطنين بل دولة الأتباع، إن مثل هذه الدولة هي التي وجدت ماضيا وحاضرا (نماذج إيران، السعودية وإمارات الخليج، طالبان، السودان، الصومال...) وكل الديمقراطيين يناهضونها بمن فيهم "هيئة 18 أكتوبر" التي حدّدت سمات الدولة التي تناضل من أجلها.

4- جاء في الوثيقة "إن هيئة 18 أكتوبر بمختلف مكوناتها الفكرية والسياسية تؤكد: أولا: إن الدولة الديمقراطية المنشودة لا يمكن أن تكون إلا دولة مدنية قائمة على مبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان وتستمد مشروعيتها من إرادة الشعب الذي يتولى في إطار هذه المبادئ انتخاب مؤسسات الحكم بشكل دوري ومحاسبتها ويخضع فيها الحاكم والمحكوم للقوانين والقواعد التي تسنها المؤسسات الدستورية المنتخبة مع ضمان حق كل طرف في استلهام مقترحاته وبرامجه في كل المجالات من مرجعيته الفكرية الخاصة". إن هذه الفقرة واضحة وضوح الشمس فقد حددت "هوية الدولة" التي هي الدولة الديمقراطية التي تعدد الفقرة شروطها وميزاتها وأصل مشروعيتها، ونظن أن السيد عتيق غير موافق أيضا على هذه الفقرة لذلك اعتبر الوثيقة "فيها تراجع عن الدستور والميثاق الوطني وتخفي بين سطورها موقفا يتجاهل مرجعية الإسلام في التشريع أو لا يعطي الإسلام حقه كمصدر للتشريع بل يضيق ذرعا من وجود مظاهر التدين داخل الدولة ويرى في ذلك تناقضا مع الدولة الديمقراطية".

غريب أمر السيد عتيق، فبعد أن كال الذم للسلطة هاهو يعتبر الدستور والميثاق الوطني، فيهما على الأقل "مكسب" الإقرار بمرجعية الإسلام في التشريع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ماذا يعني هذا القول؟ فكأننا بالرجل يطلب من هيئة 18 أكتوبر أن تعلن أنها تناضل من أجل الدولة الدينية(!!!) أليس كذلك؟ فماذا يعني أن تكون الدولة مصدر تشريعها هو الدين؟ لعلّ السيد عتيق يطلب من "هيئة 18 أكتوبر" أن تدعو للدولة ذات التشريع الديني، أي الدولة التي تحكم الناس باسم المقدس، أي دولة خليفة الله التي – نعتقد - أن التاريخ تجاوزها، وتجاوزها حتى بعض الدعاة إليها، فأن يقول إسلاميون (حركة النهضة تحديدا) أنهم يعملون من أجل دولة مدنية، جمهورية، تحتكم إلى الشعب، وتقوم على المؤسسات المنتخبة، وتحترم القوانين والحريات كما تضمنها القوانين والمواثيق الدولية (شرعة حقوق الإنسان) وهي على ما نعتقد قوانين وضعية تستبعد الاحتكام إلى أيّ ديانة في إدارة الشأن العام، ولا يعني هذا معاداتها للدين، فالدولة المدنية هي التي تحمي حرية الضمير والمعتقد من أيّ انتهاك أو تعدّي مهما كان مصدره، أمّا الدولة الدينية فهي تحكم باسم ديانة ومذهب، بما يعني استبعاد الآخر المتدين وغير المتدين، ونحن هنا بصدد دولة اللامواطنة، بل دولة الاستبداد والتمييز وهو حال الدولة الدينية/التيوقراطية، الشرقية والغربية على كامل ردهات التاريخ قديمه وحديثه، وإن وجدت استثناءات قليلة فهي تؤكد الاستنتاج ولا تنفيه، ومن هذه الزاوية نحن لا نرى معنى لما قاله السيد عتيق بكون "نظام الحكم في المنوال السني للإسلام لا يستمد مشروعيته من قوة غيبية ولا من وصاية ولا يزعم أحد أنه ناطق باسم السماء"، لا شك أن السيد عتيق يتحدث عن تاريخ آخر غير تاريخنا الموغل في الإستبداد والتيوقراطية السنية التي لم تكن للأمة فيها كلمة أو رأي بل هي مجرّد رعية يسوسها راع هو خليفة الله.

5- وضمن نفس السياق يعلق السيد عتيق على الفقرة المتعلقة برفض التعذيب وكل أنواع الانتهاكات البدنية والمعنوية المهينة للكرامة الإنسانية، والتي اعتبرت "اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة" مرجعا مشتركا يجب التقيّد والإلتزام ببنوده، يفاجئنا السيد عتيق بالقول أن التنصيص على هذا الالتزام "يضفي عليها (أي اتفاقية الأمم المتحدة) مسحة من القداسة في حين أنها اجتهاد قابل للتحفظ والنقد".

ودون إسهاب في ردنا على هذا الرأي، نقول أن التونسيين ليسوا أغبياء كي لا يفهموا أن السيد عتيق يخفي وراء كلامه هذا دعوة للاحتكام للحدود وتطبيقها. إن موقف "هيئة 18 أكتوبر" واضح وهو رفض كل ما يتنافى مع الاتفاقية المذكورة، والحدود – كما هو معروف - هي عقوبات قاسية ولاإنسانية ومهينة، على أن التنصيص على الاحتكام إلى اتفاقية الأمم المتحدة لا يعطيها أيّ قداسة، فالقداسة مرتبطة دائما بمجال المقدس، إن هذا التنصيص يعكس أن الاتفاق لم يتم على ماهو أعلى من سقف هذه الاتفاقية، ومع ذلك فالسيد عتيق يمرّر فكرة أن له "تحفظ ونقد" للاتفاقية دون مزيد إفصاح، والعارفون يعرفون قصده، ونحن نقول إن مناضلا من أجل الديمقراطية، لا نعتقد أنه يجد في نفسه القدرة على الدفاع عن الجلد وقطع الأطراف والإعدام...، حينها حريّ به أن يقول أنه يعمل من أجل مجتمع الانتهاك والقمع والقهر.

6- يختم السيد عتيق نصّه بالإشارة إلى ما يراه مطروحا اليوم، وهو تعميق الحوار بين النخب - دون إقصاء - من أجل خلق الكتلة التاريخية (من سمّاها ليس محمد عابد الجابري، بل الفيلسوف الماركسي أنطونيو غرامشي).

إن كلمة "حوار بين النخب"في تقديرنا هي كلمة ملغومة ومشبوهة، فمن هي هذه "النخبة"؟ ألا تشمل السلطة أو أجزاء منها؟ وماذا يمكن أن يسمّى هذا الحوار الذي يريده البعض - وقد يكون السيد عتيق منهم - أن يجمع بين الضحايا والجلادين؟؟؟ على أن الكتلة التاريخية - بتعريفها الأصلي والأصيل - تصنعها/أو هي التعبير عن القوة المضادة/النقيضة للسلطة/الدولة، من أجل بديل تاريخي متجاوز للواقع الطبقي الراهن.

2- حول الاستبداد باسم الحداثة:

في تعليقه على وثيقة "علاقة الدين بالدولة" يحافظ السيد صالح الزغيدي على نفس منطقه في التحليل، وهو المنطق الذاتوي الانطباعي الخالي من كل اجتهاد، فنجده منذ السطر الرابع لمقاله يذكّر"بموقفي السلبي تجاه تحالف 18 أكتوبر..." ثم يخصّص فقرة كاملة للتساؤل – والإجابة - حول إمكانية تحوّل حزب ديني (حركة النهضة) إلى حزب مدني، ليستنتج أن "الحكم على الوثيقة الجديدة سيكون بالضرورة من هذا المنطلق"، إن هذا القلب المنهجي يسقط صاحبه في استنتاجات خاطئة ومجانبة للصواب، إذ كان من الأحرى أن يتعامل السيد صالح مع هذه الوثيقة – وغيرها - دون أحكام مسبقة ومواقف جاهزة، صحيح أن من حقّه أن تكون له زوايا نظر خاصة به، هذه الزوايا - والجميع يملكها - هي دليل تحليل ونظر لا وسيلة لليّ عنق الوقائع وتطويعها بما يخدم الأحكام الجاهزة، إن هذه المنهجية في النظر هي الدغمائية بعينها التي طالما اتهم بها السيد صالح خصومه وحتى أصدقائه. كما أن السيد صالح ينزع دائما إلى تقسيم جاهز وجامد للساحة ومكوناتها، ولا يعير أيّ اهتمام لحركة الواقع الموضوعية، كما أنه كثيرا ما يجنح في مقالاته إلى الخلط بين المفاهيم مثل استعماله للفظ "تحالف 18 أكتوبر" وليس هيئة أو حركة... والأكيد أن السيد صالح يعرف الفرق بين اللفظين والحالتين، وهو يستعمل لفظ "تحالف" في غير محلّه بغرض المغالطة والتشويش.

1- وفي تعليقه على الوثيقة، يعتبر السيد صالح منذ البداية أنها لم تأت بجديد بل "بقيت تحوم في محيط عدد من الإشكالات مع تجنب الدخول في صلب الموضوع"(!!!) بل إنها عمدت "إلى ابتكار قضايا لم يتفطن غيرهم لوجودها أصلا" وهو يقصد التحديات الثلاث التي وقفت عليها الوثيقة، وخاصة التحدي الثالث الذي سمّته الوثيقة "الاستبداد باسم الحداثة" الذي اعتبره السيد صالح - إمعانا في المغالطة - مقصود به "بصفة واضحة الحداثيين عموما واللائكيين بصفة خاصة"، فبالنسبة إليه الخطر الوحيد المحدّق بنا هو خطر الاستبداد باسم الدين الذي تمثله الحركات الإسلامية، التي خصّص باقي نصّه لتبيان خطرها، ولم ينبس ببنت كلمة عن الخطر الأول وهو استبداد السلطة، وفي تقديرنا هنا بالضبط مربط الفرس، فبعض من حراكنا المدني والسياسي - والسيد صالح جزء منه - يركز بصفة أساسية وفجّة على الخطر الإسلامي، ويصمت - تواطئا و... - على الجاثم على صدر شعبنا يكتم أنفاسه ويقطع أوصاله، ولعلّ في نظر البعض الاستبداد القائم – أرحم- من الاستبداد الممكن...

2- لقد توقفت الوثيقة على التحديات/الأخطار الثلاثة ورتّبتها: الخطر الأول هو الاستبداد القائم، الثاني هو الاستبداد باسم الدين، والثالث هو الاستبداد باسم الحداثة. فما هو هذا الاستبداد؟

ما من شك أن الأنظمة الاستبدادية القهرية القائمة الآن في العالم أو التي اندثرت ليست كلها أنظمة تحتكم للدين، فمرجعية الدكتاتوريات ليست دائما دينية، بل قامت هنا وهناك دكتاتوريات سافرة حكمت باسم الجماهير، باسم القومية والمشروع الوحدوي (مصر، سوريا، العراق، ليبيا...) أو باسم "الشرعية العسكرية" (بينوشيه، بوكاسا...)، كما وجدت - ولا زالت توجد - دكتاتوريات دموية سافرة تحكم باسم الطبقة العاملة والثورة والحداثة والعلم والتقدم والإشتراكية... ونحن كشيوعيين لا يضيرنا في شيء أن نتمايز مع هذه الأنظمة ونقول عاليا أنها أنظمة استبدادية، قمعية وفاسدة، استبدادها ليس له خلفية دينية، بل يتم تحت دعاوي ثورية، وهذا الموقف إن لم يصرّح به، فسيشيع مزيدا من التشوّش والخلط في أذهان الناس.

هذا بشكل عام، أما عن "الواقع التونسي" الذي محور السيد صالح تعليقه حوله، فقد جاء في الوثيقة مايلي "الاستبداد باسم الحداثة الذي يعمل على إلغاء الدين من الحياة العامة بوسائل قهرية من داخل أجهزة الدولة وخارجها ويدفع نحو التصادم بين الدولة والدين، وهو تصوّر لا يؤدي إلا إلى إدامة الاستبداد القائم ودعم انتهاك الحريات وحقوق الإنسان وتعطيل المشروع الديمقراطي"، ونحن نعتقد أن في الفقرة من الوضوح ما يكفي فهي لا تدين "الحداثيين واللائكيين"، بل تدين النزعة الاستئصالية التي تتغلّف بحداثة زائفة وتقدمية وهمية، تقف ورائها و توظفها وتنتفع منها الدكتاتورية، هذه النزعة الشائعة عند البعض تساهم في خلق وتغذية التصادمات بين الدولة والدين، وللتدليل على ذلك نأخذ مثال حملة "مقاومة الإرهاب" التي تنظمها السلطة ويساندها البعض ممّن ذكرنا، فآلاف الضحايا من الشباب المدرسي والجامعي والعاطل ليس لهم من جرم سوى التدين والتردّد على أماكن التعبّد، فماذا يسمّى هذا؟ فبقطع النظر عن عقيدة الأفراد وضميرهم فهذا مجال خاص لا يجب أن يتدخّل فيه أحد (دولة أو أفراد)، فأن يكون التدين مرتكزا لإدانة جنائية تنظمها الدولة ضمن سياق يتعلّق بطبيعتها وأهدافها وارتباطاتها، ويعمها لفيف من خارجها (ومن "المجتمع المدني" للأسف) بدواعي "الدفاع عن الجمهورية ومكاسبها..." فماذا يسمى هذا؟ أليس اعتداء على مظاهر التدين وعمل على إلغائها بوسائل قهرية من الحياة العامة، ومن صاحب المصلحة في هذا؟ هل هو المجتمع والمشروع الديمقراطي؟ حتما لا، إن المستفيد الأساسي من هذا هو الدكتاتورية القائمة. وفي هذا المستوى وحتى نرفع أيّ لبس قد يلصقه السيد صالح بنا، نحن ضد السلفية الجهادية وضد أي توظيف للدين من أيّ جهة كانت (دولة أو حركات إسلامية) ونناضل بصرامة ضد هذه الطروحات الرجعية والظلامية، نناضل بصرامة لكن بأسلحة فكرية وفكرية فقط، وفي الوقت نفسه مناهضون أشداء لأيّ انتهاك للحقوق والحريات الفردية والعامة بما فيها الحق في الضمير الذي يعني الحق في التدين واللاتدين والإلحاد، ليس هذا فقط بل ندافع عن حق الدعاية السلمية للديانة وحق إقامة الشعائر، وأيضا الحق في إبداء الرأي الفلسفي العلني والعام لغير المتدينين، ما نرفضه هو الاحتكام للعنف من أيّ جهة كانت، وفي تقديرنا هذه هي اللائكية التي نناضل من أجلها، واللائكية لم تكن في يوم محاربة الدين أو التدين أو العمل على إلغائها بوسائل قهرية تسلطية.

إن المنزلقات التي يسقط فيها البعض مثل استفزاز المشاعر الدينية من شأنها أن تقوّي ردود الأفعال المتشنجة التي لا تخدم إلا القوى المتطرفة والتكفيرية والجهادية. إن تعاملا سليما وصحيحا مع واقعنا كما هو موجود - لا كما نريد نحن – من شأنه أن يعزّز المقاربات التقدمية، وتعاملا متهوّرا وغير مسؤول لن تستفيد منه إلاّ القوى الرجعية القائمة أو الممكنة.

3- لقد حدّدت الوثيقة - في تقديرنا - التحديات الثلاث بشكل سليم وانتهت إلى مقاربة لعلاقة الدين والدولة، مقاربة ديمقراطية تقدمية لم يسبق لمكونات مثلها أن أصدرتها، والديمقراطي المتماسك لا يرى أيّ تباين بين ما يناضل من أجله وما ورد في الوثيقة، فأن تكون الدولة مدنية، جمهورية، لها شرعية شعبية، مؤسساتها منتخبة دوريا، قوانينها تسنها مؤسسات دستورية منتخبة، مواطنوها لهم حق محاسبة حكامهم، دولة تقوم على مبادئ المواطنة والحرية والمساواة، تحترم وتسهر على احترام المعتقد والتفكير، تقاوم كل أشكال التمييز بين المواطنين على أساس العقيدة أو الرأي أو الجنس أو الانتماء الاجتماعي أو السياسي أوالجهوي، وتضمن لمواطنيها جميع الحريات والحقوق الأساسية، كما تلتزم باحترام الحرمة الجسدية وتجرّم التعذيب وكل الانتهاكات البدنية والمعنوية المهينة للكرامة وتلتزم بتطبيق اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، دولة تحترم هوية الشعب التي تشكّلت تاريخيا وهي تتطوّر بالتفاعل الخلاّق بين مقوماتها الحضارية العربية الإسلامية ومكتسبات الحداثة، وهي تولي الإسلام (لكونه دين الغالبية) مكانة خاصة دون احتكار أو توظيف مع ضمان حق كل المعتقدات والقناعات في التواجد والتعبير، دولة تدافع عن اللغة العربية كلغة وطنية وتعمل على تجذير شعبنا في حضارته العربية الإسلامية بكل ما فيها من رصيد ايجابي (وليس في المطلق) مع تطويرها وتأهيلها للمساهمة في الحضارة الإنسانية الحديثة، ومواجهة مشاريع الاستلاب والهيمنة، دولة تدرّس مواد التفكير الإسلامي خارج أي توظيف سياسي وفي إطار منظومة تكفل حق التعلّم للجميع وتنشر قيم التفكير العلمي والنقد والاجتهاد، دولة تدافع عن القضايا العادلة للشعوب.

دولة بهذه المواصفات، ماذا يمكن أن تسمّى؟ هل هي دولة دينية أم دولة ديمقراطية؟ أسئلة نطرحها على السيد صالح – وكل من على رأيه - أمّا نحن فنعتقد أن هذه الدولة هي الدولة الديمقراطية التي تناضل من أجلها الحركة الديمقراطية في بلادنا، لذلك فكل ديمقراطي متماسك لا يمكن إلاّ أن يجد نفسه في هذا المشروع، أمّا من يقيم المشاريع السياسية وفقا لأحكام إيديولوجية/عقائدية فسيجد نفسه دائما خارج نطاق حركة الواقع والتاريخ، وهنا نريد أن نهمس للسيد صالح: إذا قُدِّمت لك هذه الوثيقة دون أن يقال لك أنها من إنتاج "هيئة 18 أكتوبر"، فماذا سيكون رأيك؟ هل ستقبلها انسجاما منك مع التزامك الديمقراطي أم ستعتبرها "لفّا ودورانا" كما جاء في عنوان مقالك؟ وإن كان ما ذكرناه من مواصفات للدولة التي تناضل من أجلها "هيئة 18 أكتوبر" لفّا ودورانا، فعلّمنا نرجوك الجدية والوضوح وحدثنا عن الدولة المنشودة.

إن مكونات "هيئة 18 أكتوبر" وبعد الاتفاق على سمات الدولة الديمقراطية المنشودة كما هي مبيّنة أعلاه، يصبح من حق كل منها أن تستلهم مقترحاتها وبرامجها في كل المجالات من مرجعياتها الفكرية الخاصة، هذه النقطة ارتكز عليها السيد صالح ليدق ناقوس الخطر، إن هذا الدق هو في غير محلّه، فإذا اتفقت المكونات السياسية - على خلافها واختلافها - على المهمة الأساسية والمركزية وهي النضال من أجل الجمهورية الديمقراطية بشروطها وسماتها وضوابطها ومرجعياتها المذكورة آنفا، حين لن يكون هناك أيّ معنى لما يمكن أن يتخفى وراء هذا الالتزام العام والعلني، فمن يفعل ذلك يكون محجوجا أمام الشعب، على أنه يجب التنبيه أن خطر "المرجعيات الخاصة" لا يعني فقط المرجعيات الدينية، فالاستبداد كما ذكرنا يمكن أن يلتحف لحاف الحداثة والتقدمية...

4- يختم السيد صالح نصّه بالجملة التالية "وقد عبّرت الوثيقة التي صادق عليها (يقصد الغنوشي) عن تشبّثه بمشروعه المجتمعي الذي يبقى مشروعا أصوليا يعتبر أن من مهام الدولة الديمقراطية المنشودة "تجذير الشعب التونسي في حضارته العربية والإسلامية" ونحت "شخصية تونسية متجذرة في هويتها الوطنية ومنفتحة على القيم العصرية" أنا في الحقيقة آسف أن أسجل أن دعاة الحداثة وحتى العلمانية من بين مكونات التحالف الأكتوبري "يتأقلمون" مع استحقاقات حزب النهضة...".

ماذا يعني هذا؟ هل يعني السيد صالح أن دعاة الحداثة والعلمانية يجب أن يكونوا ضد تجذير شعبنا في حضارته العربية الإسلامية، هذه الحضارة التي حدّد معناها سلفا وهو - على ما نعتقد - معنى تقدمي نيّر لا رجعي وانغلاقي، فإذا كان هذا التجذير في الحضارة، ونحت الشخصية المتجذرة في الهوية الوطنية والمنفتحة على القيم العصرية، إذا كان هذا "مشروعا أصوليا" وضمن "استحقاقات حزب النهضة"، فإن النهضة تكون فعلا قد تغيّرت وهو الذي انطلق منه في بداية نصّه من مصادرة إن هذه الحركة لم تتغيّر قطّ، إضافة لذلك نشير للسيد صالح أن رفض التجذر والانفتاح لا يعني سوى الانبتات والاستلاب، وهو ما يستنتجه أيّ قارئ من الجملة الأخيرة في نصّه حين يرفض الانفتاح ويتحدث عن الانصهار مع القيم العصرية، وهو باب آخر يطول فيه النقاش، ومع ذلك يجب الإشارة أن استعمال لفظ "الانصهار" هكذا في المطلق هو مضمون الدعاوي الامبريالية باسم كونية زائفة تقوم على السيطرة والإلحاق، أمّا "الانفتاح" فهو أدق، فهو يعني أن نتعامل بندية وبإضافة (أخذ/عطاء) مع الحضارة الإنسانية لا كما تريدها الإمبريالية بل كما تطمح لها الشعوب.

3- كلمة لابدّ منها

إن اللفّ والدوران الفعلي هو ما أتاه السيدان عتيق والزغيدي، فأن يستنفر كلّ منهما قواه من أجل نفي ما هو موجود وظاهر بالعين المجردة: الاستبداد باسم الدين والاستبداد باسم الحداثة، لذلك جاء نصّاهما خاليان من المحاججة السليمة، بل كلاهما انطلق من حقائق مسلمة في ذهنه وراح يبحث لها عن تبريرات يكفي أن نتعمّق فيها لنكتشف ضعفها وتهافتها.

إن كلا النظرتين هما في اعتقادنا نموذجين مطابقين لنوعي الاستبداد المذكورين، فإنكار الحقائق والنزوع إلى الذرائعية والإرادوية عند كليهما هو نوع من الاستبداد. وكما نعرف فإن الاستبداد قبل أن يتحوّل إلى واقعة مادية فهو ينطلق كمشروع في الأذهان والعقول والاستبداد باسم الدين أو باسم الحداثة كلاهما استبداد وعسف وظلم. وفي حال بلادنا فالمشروعين يلتقيان في حجم الأضرار التي يلحقانها بالمشروع الديمقراطي الذي يطمح إليه شعبنا وقواه الحيّة.

إن وثيقة "حول علاقة الدين بالدولة" هي إنجاز هام وكبير يُحْسَبُ لهيئة 18 أكتوبر وهو يقرّبها أكثر للتحول إلى نواة لعمل أكبر وأوسع، لكن الإشكال في بعض جوانبه هو في مدى التزام كل المكونات بما يصدر عن الهيئة. إن هذا الأمر سيحدّد مستقبل هذه التجربة إيجابا أم سلبا، فالوثائق الصادرة عن الهيئة تعبّر عن حالة فكرية وسياسية متقدمة لكن أن تكون الوثائق في وادي والتفاعل والممارسة في وادي فهذا لن يعجّل إلاّ بوأد التجربة على قيمتها وعلى جديتها.

بقي أن نقول في الختام إن الجدال العميق بما فيه من اختلافات وخلافات لم يقابلنا دائما بالإسلاميين، فالليبراليون والقوميون واليساريون أيضا قابلتهم خلافات عميقة فيما بينهم، ونحن كيساريين لم نكن دائما في اتفاق وتفاهم مع القوى المنتسبة لليسار ولم يكن ذلك منذ انطلاق تجربة 18 أكتوبر، بل قبله بسنين، وهذا لا يعني سوى كون الاتفاقات والعمل المشترك والتحالفات... ليست مسألة إيديولوجية كما يصرّ بعض باعثي الأوهام، بل هي قضية سياسية وسياسية في الأساس.

إن بلادنا أمام منعرج خطير سيحدّد مستقبلها لسنين قادمة، فهل استفقنا جميعا من أجل الانطلاق من هذا المعطى للعمل من أجل إنقاذ بلدنا؟

هوامش

[1إحالة على نصّين صدرا بصحيفة "الموقف" عدد 18 ديسمبر 2009 – ص5، الأول بعنوان "القول باستبداد باسم الدين... مغالطة" للسيد الصحبي عتيق والثاني بعنوان "قضية جوهرية لا تترك مجالا للفّ والدوران" للسيد صالح الزغيدي.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني