الصفحة الأساسية > البديل الوطني > الشعب التونسي لا ناقة له فيها ولا جمل
حول الانتخابات الرئاسية والتشريعية في تونس:
الشعب التونسي لا ناقة له فيها ولا جمل
10 تشرين الأول (أكتوبر) 2009

هناك حكاية قصيرة تحدث بها البعض وتتعلق بما حدث للسيد أحمد نجيب الشابي خلال زيارته الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية. في حديثه مع بعض ممثلي "المؤسسات المختصة في قضايا الديمقراطية في العالم" وإثارته لإمكانية تنظيم مراقبة دولية للانتخابات القادمة في تونس، فُوجئ زعيم الحزب الديمقراطي التقدمي بإجابة بعض مخاطبيه الذين أعلموه أن تونس ليست ضمن قائمة الدول التي من الممكن أن تجري بها انتخابات.

إذا كانت هذه الحكاية تشير إلى أن "الانتخابات" الحالية لن تثير اهتماما دوليا فإن تفاعلات الشارع التونسي تؤكد حقيقة تتمثل في كونها لن ترعى بأيّ اهتمام جدي على المستوى الشعبي. فدرجة انشغال أغلب التونسيين بهذه " الانتخابات " لا تختلف، إجمالا، عن مثيلتها لدى "المختصين بالمسألة الديمقراطية في العالم" من الأمريكيين، رغم ميلنا الشديد إلى عدم الارتياح لأحكام هؤلاء القوم. وعندما نتحدث عن تفاعلات الشارع التونسي ، فإننا نقصد أن الأمر يتعلق في الواقع بغياب أية تفاعلات وبغياب أية ردود فعل جدية، عدى عدم اكتراث البعض وتهكمات البعض الآخر. في المقاهي، وهي الأماكن الأكثر شعبية في تونس، كما في المنازل، كما في أماكن الشغل، كما في الأسواق وحيثما حللنا، ليس هناك على المستوى الشعبي أي حديث أو جدل أو ثرثرة حول موضوع الانتخابات، لا من قريب ولا من بعيد. لذلك نقول دون أدنى مجانبة للحقيقة أن تونس لا تشهد ولن تشهد في الأيام القادمة انتخابات تشدّ انتباه الشارع التونسي. أللهمّ إذا ما عرّفنا الانتخابات بأنها حدث سياسي ليس من شأن المواطنين الخوض فيه أو الاهتمام به!

في أحد مقالاتها بصحيفة الصباح وقفت السيدة سعيدة بوهلال على بعض الحقائق في هذا الشأن، رغم أنها لا تخلو أيضا من طمس لحقيقة التجليات الاجتماعية للواقع السياسي التونسي [1]. ففي حوار لها مع شبان تتراوح أعمارهم بين 18 و20 سنة لاحظت أن " الطريف في الأمر أن الكثير منهم ليس لهم علم بموعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة." كما استشهدت بـ"الاستشارة الشبابية الأخيرة والدراسات التي أجراها المرصد الوطني للشباب" حيث تُشير " إلى أن مشاركة الشباب في الانتخابات لا تتجاوز 13 بالمائة".

ولنا أن نلاحظ الحكمة (!) التي تتسم بها استنتاجات السيدة سعيدة بوهلال. فمن ناحية تعتبر صحافتـ"نا" عدم اهتمام "المواطن" التونسي "بالانتخابات" القادمة، إلى حد عدم العلم بموعدها شهرين تقريبا قبل قيامها،أمرا طريفا. ومن ناحية ثانية لم تجد صُحفية "الصباح" في تقييمها لعدم اكتراث الشباب "بالانتخابات" من دلالة غير دلالة " أن الشباب التونسي لا ينشغل بالسياسة".

إنّ صحافتنا تتجاهل أنّ أهمّ توجهات السلطة القائمة تكمن في تجريم كل عمل سياسي يخرج عن نطاق تعليماتها وفي اتهام كل من ينشغل بسياسة غير سياستها بالإرهابي والمشاغب والمتطرف و العميل لقوى خارجية. وكأنها لا تعرف أن كل من ينشغل بالسياسة ولو على صفحات النات يمكن أن يكون ضحية اضطهاد البوليس السياسي وتتبعات قضاء التعليمات . أمّا الذين يسلمون من أذى السلطة فهم أولائك الذين يأتون السياسة طمعا في مصلحة خاصة أو تشغيلا لأعمالهم. لذلك نفهم لماذا يحبذ شبابنا الاهتمام بكرة القدم وأخبار الفنانين. فلا هو بالانتهازي والوصولي ولا هو بالمغامر والمعارض.

الحقيقة أن عدم اكتراث الشعب التونسي "بالانتخابات" لا ينبع فقط من كونه "لا ينشغل بالسياسة" ولا فقط من خوفه الخوض في أمور لا تُحمد عقباها، ولا فقط من ميله الحالي للتشاؤم السياسي. بل أيضا لإدراكه بتجربته الخاصة، ودون اعتماده لأي مرجعية نظرية، أن أحداث اليوم تجري كما جرت في الماضي، على نحو لا يعنيه وأنه لا ناقة له ولا جمل في ما يعد باسمه ومن وراء ظهره من طبخة سياسية. وهو يعلم مسبقا أن "وسائل الإعلام" ستعلن قريبا أن بلدنا الجميل قد انتخب للمرة الخامسة على التوالي نفس الرئيس، بنفس النسب الخيالية التي اعتاد عليها قادة الأنظمة العربية. نسب ليست في متناول حتى ما تقدّس لدى شعوبنا من أنبياء!

إن لامبالاة الشعب التونسي "بالانتخابات" يدعونا، فيما يدعونا، إلى إبراز نسبية الخلاف القائم حاليا بين أنصار المشاركة النضالية وأنصار المقاطعة النشيطة. في خصوص المشاركة لن يكون في مقدور أصحابها تجسيد مشاركتهم. إقصاء الأستاذ نجيب الشابي والدكتور مصطفى بن جعفر من الرئاسية وإسقاط أغلب قوائم التشريعية لأحزاب المعارضة هو دليل واضح على ما نقول. أما في ما يتعلق بالمقاطعة فالشعب التونسي بأغلبيته الساحقة مقاطع لهذه "الانتخابات" وإن بصفة سلبية.

إن المغزى السياسي للامبالاة الشعب التونسي بترهات "انتخابات" أكتوبر القادم يكمن تحديدا في انسلاخه السياسي عن النظام القائم. نظاما لم يعد له رصيد إيديولوجي أو تأثير أو مصداقية جديرة بالاعتبار لدى أوسع الجماهير.

هذا الانسلاخ له أبعاد إستراتيجية فيما يتعلق برموز السلطة ومؤسساتها، ويشمل شخص الرئيس والحزب الحاكم ومؤسسات الديكتاتورية الصورية. إلا أن المفارقة الحالية تكمن أيضا في أن لامبالاة الشعب التونسي تشمل في الظرف الراهن القوى السياسية المعارضة، وخاصة القوى المتورطة في لعبة الانتخابات الباطلة، لعبة تتجاوز إمكانياتها ولا تأثير لها في مجرياتها. ماذا سيكون في المستقبل القريب موقف وحكم الشعب التونسي وقواه الشغيلة من الأطراف السياسية التي ستقبل بكرسي أو بكرسيين في برلمان لقيط، وليد غير شرعي لانتخابات مزيفة. ماذا سيكون رأي "مواطنينا" من ديمقراطية الذين يُعلنون التقدمية والوطنية والحداثة وهم يقبلون مسبقا بالجلوس في مؤسسة تزوير، هي أشبه بالدمية في يد الديكتاتورية؟

كنا نود، ونحن نتابع ما يحيط "الانتخابات" الحالية من ترّهات، أن نوجه اهتمامنا إلى شؤون سياسية أخرى أهم وأجدى، خاصة وأن نضالنا يرنو إلى إسقاط الديكتاتورية وتخليص شعبنا من قيود القهر والاستغلال. إلا أن إدارة ظهرنا لحدث "الانتخابات" وعدم الاهتمام بما يجري من مهازل ومن مصادرة لإرادة الشعب سيترك للسلطة فرصة الإنفراد بالمبادرة السياسية. فهي تسعى إلى تنفيذ مشاريعها في كنف الطمأنينة دون اعتراضات أو احتجاجات، لا من جانب أحزاب المعارضة ولا من جانب جماهير الشعب. لذلك نراها حريصة على إسكات الجميع، مستاءة من الذين يسعون إلى المشاركة كما هي حانقة على الذين يدعون إلى المقاطعة.

خطاب المعارضة البرجوازية: القوقعة الفارغة

اهتمامات نخبة أحزاب المعارضة القانونية [2] تختلف تماما عن اهتمامات الشارع التونسي. جميعها بدون استثناء ينشط للمشاركة في انتخابات وهمية، لا يهتم بها الشعب ولا يتحمس لها. ولا حزب واحد من أحزاب المعارضة القانونية وجد مبررا لمقاطعتها. ويبدو أن بن علي قد نجح في توريطها بالكامل في انتخابات وهمية، دون أن يبذل من اجل ذلك أي جهد يذكر ودون أن يقدم لها من التنازلات ولو فُجلة واحدة. حتى بعض الأحزاب غير المعترف بها أوجدت لنفسها مبررات للاعتراف بهذه "الانتخابات" ولولا مقاطعة حزب العمال والمؤتمر من أجل الجمهورية وثلة الراديكاليين من اليسار لأصابنا الخجل مما يحدث.

في خصوص موقف حركة النهضة من "الانتخابات" يقدم البعض تفسيرات لا تستجيب إلا لحساباتهم الخاصة. جاء على لسان الأستاذ أحمد نجيب الشابي، أن حركة النهضة "اعتبرت نفسها غير معنية مباشرة بهذا الاستحقاق لظروف استثنائية تخصّها" [3]. هذا القول يُوحي بأن الحركة قد إستثنت نفسها بنفسها. أما الحزب الديمقراطي التقدمي فقد اعتبر نفسه معنيا مباشرة بهذا الاستحقاق الانتخابي! والواقع أن عدم مشاركة حركة النهضة في "الانتخابات" لا يعود "لظروف استثنائية تخصها". فهي تتعرض إلى سياسة قمع منهجية وهي مقصية من كل مشاركة سياسية أكانت انتخابية أم غير انتخابية. والأهم في كل ذلك أن ما تتعرض له هذه الحركة الإسلامية لا هو استثناءا ولا هو خاص بها. ما تتعرض له من إقصاء هو القاسم المشترك بينها وبين كامل قوى اليسار الجذري وكامل القوى الديمقراطية. وليس هناك ما هو استثنائي بالنسبة لحركة النهضة إلا شدة القمع المسلط عليها وشدة الحصار المضروب على أنصارها. ولو توفرت أبسط شروط "الانفتاح" السياسي-كما يتمناه البعض بفارغ صبر- لما بقينا نترقب مبادرات هذه الحركة، عدى إعلانها مؤخرا المقاطعة...

إن الفجوة الشاسعة التي تفصل نخبة أحزاب المعارضة عن الشارع التونسي لا تتجسد فقط في مشاركة المعارضة في فعل سياسي معزول عن اهتمام غالبية الشعب وغالبية الشغالين بل يتجسد أيضا في محتوى هذه المشاركة، أي فيما تعرضه من خطاب سياسي.

إن الخطاب الذي تتجاهر به هذه الأحزاب بمناسبة "الانتخابات" يجعلنا نتكهن بأنه لن يُساهم في تقليص الفجوة التي تفصلها بالفئات الشعبية. خطاب عقيم تطغى عليه العموميات حول الديمقراطية والحرية والوطنية، خطاب يعكس حقيقة برنامجها البرجوازي ولا يضع في صدارة اهتماماته خصوصيات الواقع المعاش للشغالين، وما يتطلبه هذا الواقع من نضالات ومطالب اجتماعية عاجلة وملحة

لهذا، كما كان في مقدورنا نقد أنصار"المشاركة النضالية" فيما يتعلق بمبدأ المشاركة في مهزلة معلومة الأطوار والنتائج [4]، يمكننا أيضا نقد خطابهم الانتخابي بما أنه يعكس رؤاهم وبرامجهم.

في خصوص المشاركة في حدّ ذاتها تُشير التطورات الأخيرة إلى أن الجدل القائم بين أنصار المشاركة النضالية والمقاطعة النشيطة يكاد يستوفى حظه. زيادة على أن أطراف المعارضة القانونية وغير القانونية تتوجه للحد من تبعات هذا الصراع تحت ضربات الإقصاء والاعتداءات. ويبدو أن أهل المشاركة ليس في مقدورهم غير المشاركة وأن أهل المقاطعة ليس في متناولهم غير المقاطعة. هذه المعادلة تحكمها في الواقع، عدى غياب الديمقراطية بالنسبة للجميع، طبيعة العلاقة القائمة بين كل طرف من أطراف المعارضة من جهة ومؤسسات الدكتاتورية وقاعدتها الاجتماعية من جهة ثانية. طبيعة هذه العلاقة تنعكس في موقف الأحزاب القائمة من انتخابات بن علي كما تنعكس في خطابها وبرنامجها السياسي.

وإذا ما تناولت أغلب الكتابات والنقاشات الدائرة بين أطراف المعارضة موضوع جدوى المشاركة من جدوى المقاطعة، فإنه من النادر أن نجد جدلا يتناول بالحديث ما تعرضه أحزاب المعارضة من بديل، عدى دفاعها عن الديمقراطية. ويمكن الجزم أن غياب الجدل والنقاش في هذا المجال هو مظهر من جملة المظاهر التي تكشف لنا عن بطلان الموعد "الانتخابي" القادم. فالمواعيد الانتخابية الحقيقية، التي تتوفر فيها على الأقل شروط الديمقراطية البرجوازية ("الديمقراطية الغربية" كما يتشبث البعض بتسميتها)، هي تلك التي تتوفر فيها فرصة حقيقية للصراع بين مختلف برامج الأحزاب السياسية الفاعلة، وهي التي تعكس، بقطع النظر عن نتائجها، مختلف الرؤى المستقبلية كما تعكس مصالح وطموحات مختلف الطبقات والقوى الاجتماعية.

نحن لا ندعي هنا مناقشة برامج أحزاب المعارضة بالكامل. هذه البرامج تحتوي بهذا القدر أو ذاك على جملة من المطالب الاجتماعية. المشكلة أن هذه المطالب لا تحتل مكانة رئيسية في الخطاب الانتخابي. مما يعني أنها تبقى ثانوية في سلم اهتمامات المعارضة. لذلك نحبذ العودة إلى هذا الخطاب حتى نقف عند الأفكار الرئيسية التي تمثل جوهره الدعائي. فالخطاب الدعائي يتميز، فيما يتميز، بتركيز صاحبه على ما يبدو له أساسي وملحّ . كما يستثني التفاصيل الثانوية حتى تكون له مقدرة على جلب اهتمام أوسع الجماهير. هذه الأفكار الرئيسية تعبّر عنها أحزاب المعارضة القانونية عادة في مقالاتها وخطبها وحواراتها.

ما تتقاسمه أحزاب المعارضة: الإصلاح من أجل الرأسمالية

حزبان أساسيان يمثلان أكثر من غيرهما رؤى وتوجهات المعارضة التونسية القانونية (طبعا لا أتحدث عن أحزاب الديكور) حركة التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي. الأول يمثل في الظرف الراهن يمينها والثاني يسارها. هذا وإن غدى الحزب الإشتراكي اليساري على يمين الجميع. أما محتوى خطابهما الإصلاحي فهو يكشف عن القاسم البرجوازي المشترك بينهما وبين كافة أحزاب المعارضة القانونية. ثلاث مقولات أساسية يتقاسمها الحزبان، مقولات برجوازية لا غبار عليها.

المقولة الأولى: أولوية النضال من أجل الإصلاح السياسي على النضال من أجل المطالب الاجتماعية

تكرر أحزاب المعارضة البرجوازية الرأي القائل بأن الإصلاح السياسي هو المدخل الرئيسي لكل إصلاح. ويحتل برنامج الإصلاح السياسي بما يعنيه من الدفاع عن الحريات العامة والفردية والدفاع عن أسس النظام الديمقراطي والجمهوري، يحتل تقريبا كامل مساحات دعايتها. بينما لا تتمتع المطالب الاجتماعية والإصلاحات التي تُعنى بتحسين واقع الشغيلة باهتمام جدي من قبل المعارضة ولا تُبرز تدخلاتها اليومية أهمية وإلحاحية هذه المطالب. ونادرا ما يتحدث قادة المعارضة عن برنامجهم الاجتماعي. كما لا ندري أي إصلاحات محددة يُطالبون بها لصالح الشغالين والمفقرين والمهمشين الذين يزداد عددهم مع احتداد الأزمة الرأسمالية وتطور وتيرة الاستغلال الرأسمالي المحلي والأجنبي. أما نتائج الأزمة الاقتصادية الرأسمالية الحالية وسبل مواجهتها فيبدو أن أحزاب المعارضة قد تركتها معلقة إلى ما بعد تحقيق الإصلاح السياسي. وهي بذلك تضع المطالب الاجتماعية المتعلقة بتحسين ظروف عيش الشغالين في درجة المطالب الثانوية ويبقى النضال من أجلها ضمن النضال المؤجل وضمن فرضيات ما بعد الإصلاح السياسي.

وفي أغلب الأحيان يتحدث ممثلو هذه الأحزاب عن الأزمة دون التركيز على طابعها الرأسمالي، ويتحدثون عن ضرورة التنمية والنهوض باقتصاد البلاد دون بلورة المطالب المتعلقة بمشاكل الفئات الكادحة وما تعانيه من استغلال وفقر وبطالة. وهم يتحدثون بصفة عامة عن مصلحة البلاد ومصلحة الوطن ومصلحة تونس دون الحديث بصفة خاصة عن مصالح العمال والمهمشين والمفقرين رغم أنهم يمثلون غالبية الشعب التونسي. وغالبا ما يحبذون البروز بمظهر الوطنيين الغيورين على مصلحة البلاد. وكأنّ الديكتاتورية لن تُحاسبهم ولن تضطهدهم حياء من وطنيتهم هذه!

من المؤكد أنه ليس من مصلحتنا أن نستهين لحظة واحدة بأهمية التغيير الديمقراطي وبأهمية الفوز بالحريات العامة والفردية أو أن نضع الإصلاح السياسي ضمن اهتماماتنا الثانوية. لسبب بديهي: إن تحقيق مثل هدا الإصلاح يعني سقوط الديكتاتورية وانهيار الاستبداد السياسي وذلك ليس بالمهمة الهينة. ولكننا في نفس الوقت نعتقد أنه علينا أن لا نعزل نضالنا من أجل الحريات السياسية عن نضالنا من أجل العدالة الاجتماعية. بلغة أخرى علينا أن لا نفصل النضال من أجل الديمقراطية السياسية عن النضال من أجل الديمقراطية الاجتماعية بما تعنيه من حقوق ومكاسب وإصلاحات في صالح الشغالين وغالبية الشعب. فالأولى تهدف إلى تقويض أسس الديكتاتورية بينما تهدف الثانية إلى تقويض أسس الاستغلال الرأسمالي.

ولا يمكن للشعب التونسي وقواه الشغيلة أن تقتنع بضرورة وأهمية الحريات السياسية أو أن تنخرط جماهيريا في النضال الديمقراطي إلا إذا ما أدركت أن الهدف من هذه الحريات والهدف من هذه الديمقراطية هو بالضبط تحقيق العدالة الاجتماعية. ومن الناحية العملية فإن النضال المطلبي والنضال ضد استغلال الأعراف محليين كانوا ام أجانب والنضال بصفة عامة من أجل التحرر الكامل من الاستغلال الرأسمالي هو الذي سيدفع بأوسع الجماهير إلى طريق النضال من أجل الديمقراطية وهو الذي سيسلحها بما يكفي من المبررات لمواجهة الديكتاتورية. العكس ليس صحيحا. لسببين على الأقل. الأول يكمن في أن الشغيلة ستدرك ما ستجنيه من نضالها من أجل الحرية، أي التحرر من الاستغلال. الثاني يكمن في كون الجماهير عليها أن تعي بتجربتها الخاصة وفي خضم نضالها اليومي والمرير أن الذي يحمي الأعراف ويحمي البرجوازيين ويحمي ثرواتهم وما كدسوه من خيرات على حسابهم إنما هو النظام السياسي القائم.

إن ما تتبناه المعارضة البرجوازية هو ما يليق أولا بالنخبة المثقفة: الإصلاح السياسي أولا، بل أحيانا الإصلاح السياسي فقط. لذلك نراها تسعى إلى تحقيق انفراج في المناخ السياسي دون الدعوة إلى تقويض النظام القائم تقويضا كاملا. هذا ما يسميه البعض بالنضال العقلاني الذي يسعى إلى تفادي الهزات الشعبية . هنا نفهم إدعاء السيد أحمد إبراهيم أن السلطة لها مصلحة في تنظيم انتخابات حرة ونزيهة، أي حتى تتفادى ما لا يُحمد عقباه. هنا نفهم أيضا مغازلات نخبة المعارضة التونسية للمؤسسات الرسمية الأوروبية والأمريكية ومحاولاتها في طمأنتهم في أن ما تسعى إليه من إصلاح سياسي لا يمكن إلا أن يخدم الاستثمار والمستثمرين. أما الإصلاح السياسي الذي يُمكن أن يهدد مصالح الأغنياء البرجوازيين أو أن يمس من ثرواتهم أو أن يُغلق الباب أمام الاستغلال الأجنبي فلا أثر له في خطاب مرشحي المعارضة. المشكلة تكمن في ما يلي : ما يُطمئن المؤسسات الرأسمالية الأوروبية والأمريكية لا يُمكن أن يُطمأن الشعب التونسي وقواه الشغيلة وفي أحسن الحالات لن يحفزها للنضال ضد الديكتاتورية ولا للتضحية من اجل الديمقراطية.

إن خطابا سياسيا يكتفي بالتركيز على حرية التنظيم وحرية الصحافة وحرية الانتخاب والترشح وغيره من الحريات السياسية ويُهمل مطالب الحركة الاجتماعية أو يتركها ضمن اهتماماته الثانوية بدعوى أن الإصلاح السياسي هو المدخل لكل إصلاح، إنما هو خطاب مجرد وأجوف. قوقعة سياسية فارغة. ومن المؤكد أن الشعب التونسي وفي مقدمته الطبقة الشغيلة من حقه أن يعرف بالضبط إلى أي مدخل اجتماعي سيؤدي به الإصلاح السياسي. وإلا ما الداعي من انخراطه في نضال مرير ضد الديكتاتورية وما الداعي من تحمله المتاعب والتضحيات والسجن والإبعاد. من أجل حرية الانتخاب والترشح؟! من أجل حرية الصحافة؟!من أجل حرية التنظيم؟!وبعد؟

والأجدى بنا إذا ما كنّا نتبنى مصلحة الشغالين أن نطالب منذ اليوم ودون انتظار الإصلاح السياسي أو المنعرج الديمقراطي بحق العاطلين عن العمل، ضحايا الاستغلال الرأسمالي واختيارات السلطة الموغلة في الليبرالية، بحقهم في منحة بطالة وبحقهم في الخدمات المجانية من صحة ونقل وتكوين وسكن. أن ننخرط مند اليوم في النضال ضد تبعات الأزمة الرأسمالية حتى لا يتحمل أعبائها الشغالون بل المتسببين فيها من رأسماليين ومضاربين ولصوص.

من المؤكد أنه لا يمكن إسقاط نظام الاستبداد دون نهوض الحركة الاجتماعية. وقوة الأحزاب المعارضة تكمن أولا في مقدرتها الانخراط فيها.أما ضعف الحركة الاجتماعية في تونس فإنما يُلقي على عاتقنا مهمة النهوض بها. وهو ما يتطلب النهوض بخطابنا وبرنامجنا السياسي حتى يشمل المطالب الاجتماعية الملحة، برنامجا يمكن أن يجد فيه الشعب التونسي وقواه الشغيلة مدخلا لخوض النضال السياسي. مثل هذا البرنامج لا يمكن أن يكون إلا شعبيا ومعاديا لمصالح الرأسمال المحلي والأجنبي الذي يمثل القاعدة الاجتماعية لنظام بن علي. لذلك نعتقد أنه لا يمكن فصل النضال ضد الديكتاتورية عن النضال ضد الرأسمالية. ولا يمكن تقديم الأول على الثاني دون السقوط في خطر إفراغ النضال السياسي من كل فعل شعبي جماهيري وتحويله إلى نضال النخبة.

لنقارن بين تصريحات حزب العمال وتصريحات الحزب الديمقراطي التقدمي على لسان الأستاذ أحمد نجيب الشابي في خصوص الحركة الاجتماعية التي شهدها الحوض ألمنجمي. هذه المقارنة تكشف عن موقع وأهمية النضال الاجتماعي لدى التيار العمالي الثوري من جهة ولدى التيار الديمقراطي البرجوازي من جهة ثانية.

يقول زعيم الحزب الديمقراطي التقدمي ومرشحه السابق "للانتخابات" الرئاسية ما يلي: "وما أخشاه شخصيا أن تتكرر مثل هذه الأحداث في العديد من المناطق والقطاعات تحت تأثير تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية على تونس والتي من شانها أن تزيد الأوضاع الاجتماعية المتردية تأزما وتفجرا" [5].

بينما يرى حزب العمال أن انتفاضة الحوض ألمنجمي "تمثل على ما فيها من نقائص منارة للنضال من أجل التخلص من الديكتاتورية النوفمبرية، بما أكدته من تلازم النضال ضد الاستبداد مع النضال ضد الاستغلال والفساد والمحسوبية وبالتالي تلازم النضال من أجل الديمقراطية مع النضال من أجل العدالة الاجتماعية" [6].

ما يخشاه الأول يراه الثاني منارة للنضال ضد الديكتاتورية.

المقولة الثانية: الإقرار بأن اللديكتاتورية حققت مكاسب اجتماعية واقتصادية

هذا الإقرار يبين الخلفية الإيديولوجية لأحزاب المعارضة، خلفية تحتكم إلى مقاييس اقتصاد السوق الليبرالي وليس في مقدورها تجاوز الأفق الرأسمالي للنظام الحالي أو تصور مقاييس أخرى غير مقاييسه.

في حوار له مع "سويس إنفو" صرح السيد أحمد إبراهيم بما يلي: "يجري دائما الحديث عن وجود مفارقة بين تونس المتقدِّمة، اقتصاديا واجتماعيا، وبين تراجُـعها على الصعيد السياسي، رغم أن لها كل إمكانيات التحوّل الديمقراطي، وهذا أمر صحيح، لكن اليوم، حتى في المجال الاقتصادي والاجتماعي، هناك ثغرات تحتاج إلى علاج، مثل بطالة أصحاب الشهادات الذين سيصِـل عددهم قبل نهاية هذا العام قرابة 150 ألف، كذلك انعدام التوازن بين الجهات، وقد لاحظنا ما حدَث في الحوض المنجمي" [7].

"تونس المتقدمة اقتصاديا واجتماعيا". هناك فقط "ثغرات تحتاج إلى علاج". هكذا يبدو السيد أحمد إبراهيم، كغيره من رموز المعارضة، في حرج كلما تعلق الأمر بالحصيلة الاقتصادية والاجتماعية لنظام بن علي. وفي الواقع هذا الحرج لا يتأتى من مكاسب حقيقية بفضل النظام القائم بقدر ما يتأتى من الرؤية الإيديولوجية التي تتبناها المعارضة البرجوازية. فبديلها الاقتصادي والاجتماعي لا يختلف كثيرا عن اختيارات السلطة القائمة. وهي في أقصى الحالات تدافع عن رأسمالية منظمة عوض الرأسمالية الليبرالية الحالية. لذلك نرى رموزها يكتفون بفكرة أن تونس أحسن حالا من مصر والسودان وأثيوبيا وغيرها من الدول التي تتصف بتفاوت طبقي مرعب وبفقر مدقع. كما يقبلون بما تقدمه المؤسسات العالمية الرأسمالية والليبرالية من أرقام ونسب تتعلق بنمو الاقتصاد التونسي، نسب وأرقام لا تحتكم إلا إلى مقاييس اقتصاد السوق وقلّ ما تُعنى بواقع الاستغلال الرأسمالي أو الفوارق الاجتماعية أو التفاوت في توزيع الثروة. نسب وأرقام تعتمد كثيرا على ما تقدمه السلطة القائمة من حسابات وإحصاءات مغلوطة. ففي مقدورنا التشكيك في كل ما تقدمه من نسب ومن معادلات. في تونس لا توجد مؤسسة إحصاء واحدة محايدة أو مستقلة. ولا تتوفر لأيّ كان الإمكانيات الكافية والحرية اللازمة للقيام بدراسات ميدانية ومباشرة. لنأخذ مثال على ذلك: تقر السلطات الرسمية بأن نسبة البطالة سنة 2006 تتجاوز %14. مؤشرات عديدة تشير إلى أن البطالة تتجاوز هذه النسبة بكثير ولا ندري كيف وصلت السلطات إلى هذه النسبة وبتطبيق أية مقاييس؟ مثل هذه التساؤلات تنطبق على كل ما يقدمه نظام بن علي على أنه مكاسب وإنجازات. وفي آخر تحليل وحتى وإن قبلنا بأن تونس ليست ضمن الدول التي تقبع في أخر السلم وأنها تحضى بشيء من التطور الرأسمالي وبشيء من النمو الاقتصادي الذي يجعلها تحوز في حدود معينة على رضى الدوائر المالية والتجارية الرأسمالية والعالمية، هل تحقق هدا التطور الرأسمالي بفضل النظام الدكتاتوري أم أنه تم رغما عنه، رغم السرقات ورغم أمراض الرشاوى والمحسوبية والاستغلال الفاحش لقوة عمل عمالنا وعاملاتنا. فمؤسسات النظام القائم لا تساهم في الحياة الاجتماعية والإقتصادية إلا كجسم طفيلي ومتطفل.

من ناحية أخرى يرى جزء هام من المعارضة أن مطالب مثل منع تسريح العمال ومنع المناوبة ودفع منحة للعاطلين عن العمل وتمكينهم من الخدمات المجانية مثل النقل والصحة ودفع منحة للعاطلين من أصحاب الشهادات وعدم التفريط في قطاعات الخدمات العامة للخواص والرفع من ضرائب كبار الرأسماليين، هي مطالب مجحفة وغير قابلة للتحقيق وهم في ذلك يصطفون وراء عقلية هي أقرب إلى عقلية البيروقراطية النقابية عوض الاصطفاف وراء مصلحة العمال وعامة الشعب.

وفي الواقع فإن المطالب الاجتماعية هي التي ستمكننا من تأسيس حركة اجتماعية احتجاجية والالتصاق بواقع الشعب التونسي. وبدون هذه المطالب لن يكون في وسعنا لف الفئات الشعبية في مواجهتها للديكتاتورية ولبدائلها الليبرالية.

ومن المهم هنا أن نعود إلى موقف حزب العمال الشيوعي التونسي من الانتخابات. ولعل أهم ما جاء فيه هو تبيانه للأبعاد الاجتماعية للنضال من أجل الديمقراطية، حيث أكد على أنه "لا يمكن عزل طبيعة النظام الاستبدادية الديكتاتورية عن قاعدته الطبقية، أي الفئات الاجتماعية المحلية والأجنبية التي يعبّر عن مصالحها ويعمل على الحفاظ عليها. إن هذه الفئات لا مصلحة لها في الديمقراطية، لأنها تمثل أكبر خطر عليها"5.

فالاستغلال الاقتصادي والاجتماعي هو جوهر الديكتاتورية، لذلك لا يمكن النضال فعليا ضدها، كما لا يمكن النضال من أجل الديمقراطية دون النضال ضد هذا الاستغلال.

المقولة الثالثة: الإصلاح الديمقراطي في خدمة الاستثمار الرأسمالي

لنقرأ عيّنة من خطاب السيد أحمد إبراهيم ممثل المبادرة الوطنية في حديثه عن مشكلة البطالة في إحدى حواراته: "..ولكننا نرى ان جزءا من حلها يكمن في الإصلاح السياسي الذي يبقى مدخلا رئيسيا لحلّ المشاكل الاقتصادية ومنها مشكلة البطالة المرتبط ارتباطا وثيقا بنسق التنمية الذي هو بدوره مرتبط بنسبة الاستثمار...ولإعادة تنشيطه لابد من البدء بالإصلاح السياسي بما يعنيه من شفافية ومحاسبة ومساءلة وتطبيق مبدأ علوية القانون على الجميع...فهذا من شأنه توفير مناخ من الثقة وتحفيز المستثمرين على مزيد الاستثمار وبالتالي تسريع نسق النمو وتوفير حظوظ اكبر لحلّ مشكلة البطالة" [8].

وفي مكان آخر يقول:"السياسات القائمة لا تخلو من إيجابيات، لكنها في حاجة إلى مراجعات في اتِّـجاه رُؤية إستراتيجية، تتزامن مع الإصلاح السياسي. فالمدخل، حسب اعتقادنا، هو الديمقراطية. فمن أسباب ركود الاستثمار، عدم الشفافية في المعاملات وتطبيق القانون على الجميع، مهما كان قُـربهم أو بعدهم عن السلطة، وعدم المساءلة والقضاء المستقِـل، وهو ما يجعل المستثمر يفقد الثقة، وبالتالي، تعتبر الديمقراطية حاجة أساسية لدفع الاستثمار، ونلاحظ ذلك في مسألة البنوك وإشكالية نسبة القروض غير المسداة، مقارنة بدُول العالم" [9] .

في تناوله "للمشاكل التي تعاني منها البلاد" و"انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية" لم يجد السيد أحمد إبراهيم ما هو جدير باهتمامه غير"نسق التنمية" و"نسبة الاستثمار" و"تحفيز المستثمرين" و"تسريع نسق النمو"! ويود زعيم المبادرة الوطنية إقناعنا بجدوى الإصلاح السياسي وبـ"المنعرج الديمقراطي" المنشود بهدف توفير الظروف الملائمة "لتحفيز المستثمرين" و"تسريع نسق النمو". ولا كلمة واحدة حول الاستغلال الرأسمالي المحلي والأجنبي الذي يعاني منه الشغالون في تونس وظروف الاضطهاد السياسي والاجتماعي الذي يتحقق فيه هذا الاستغلال.

ولا يهتم السيد أحمد إبراهيم في تصريحاته كثيرا بمطالب الشغالين والمهمشين والعاطلين عن العمل، ولا بالإصلاحات التي يجب أن يتمتعوا بها والتي من الممكن أن تحسن ظروف عيشهم وتحد من تبعات الأزمة الحالية ونسق ووتيرة الاضطهاد الرأسمالي. ويكتفي أحيانا وعلى نحو خافت بالتصريح بـ" أن لا يدفع ضِـعاف الحال وحدهم فاتُـورة الأزمة".أي أنه يقترح أن تتقاسم ملايين الشغيلة الذين لا يملكون غير سواعدهم وقوة عملهم فاتورة الأزمة الاقتصادية مع حفنة من البرجوازيين الذين يستحوذون على غالبية الثروات والخيرات زيادة على أنهم هم المتسببون الوحيدون في هذه الأزمة وفي غيرها من الأزمات.

ويبدو للسيد أحمد إبراهيم شططا وتعجيزا المطالبة بان تتحمل البرجوازية وحدها تبعات الأزمة الاقتصادية. وإن كان يُفاخر بأن برنامج حزبه " يتضمّـن اقتراحات مفصّـلة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية" إلا أنه يسارع بطمأنة السلطة، أي البرجوازية، على أن اقتراحاته "قابلة للتنفيذ، وليست ديماغوجية أو تعجيزية"6.

هل نتجنى على السيد أحمد إبراهيم إذا ما قلنا أن رؤاه واهتماماته لا تتجاوز رؤى واهتمامات البرجوازية ومصالحها؟!

وإن كان الحزب الديمقراطي التقدمي يمثل يسار المعارضة القانونية فإن مرشحه "للانتخابات" الرئاسية، الأستاذ أحمد نجيب الشابي يدافع تقريبا عن نفس التوجهات التي عبر عنها زعيم المبادرة الوطنية والتي تجعل من الاستثمار الرأسمالي أفق المعارضة الوحيد.

وليس من الصدفة أن تخلى هذا الحزب سنة 2001 عن تسميته الاشتراكية اعتقادا منه أن عهدها قد ولى وانقضى دون رجعة. كما تخلى الحزب الشيوعي التونسي عن شيوعيته وتحول إلى حركة التجديد. أي ان جزء هام من النخبة اليسارية قد تخلت عن انتمائها السابق للمقولات الاشتراكية فلم يعد الشغالون محور اهتمامها ولا مصالحهم محور برنامجها.

وإن طالب الأستاذ أحمد نجيب الشابي أحيانا بـ" الشغل والرفع من مستوى العيش والرعاية الصحية وإصلاح نظام التعليم والتوازن بين الجهات"، فإن الطريق إلى ذلك يكمن حسب رأيه في "النهوض بالاستثمار المحلي وجلب الاستثمار الخارجي" [10] و"ضرورة إتباع سياسات تحفز الاستثمار الداخلي والخارجي وتركز على اليد العاملة المهرة وتهتم بالمؤسسات الصغرى والمتوسطة باعتبارها عماد النمو الاقتصادي" [11].

تطوير الاستثمار الأجنبي والمحلي لتنمية الاقتصاد وحل مشكلة البطالة يبقى برنامجا اقتصاديا برجوازيا، لا يختلف جوهريا عن توجهات السلطة القائمة. بل في مقدور الديكتاتورية أن توفر أكبر الضمانات للرأسمال الأجنبي وحتى المحلي بأن توفر له الظروف الملائمة لاستغلال الشغالين على نحو لن يكون في مقدور أي سلطة وطنية أو ديمقراطية حقيقية القبول بها.

ومهما تكون الظروف السياسية التي تتم فيها عملية الاستغلال الرأسمالي، أكانت بإشراف مؤسسات ديكتاتورية أم مؤسسات سلطة ديمقراطية برجوازية فإن مصلحة الشغالين وعامة الشعب لا تكمن لا في نسب الاستثمار ولا في نسب التنمية. بل تكمن أولا وأساسا في توزيع الثروة والقيمة المضافة، الناتجة عن نسب التنمية هذه، توزيعا مخالفا لما يحدث في ظل النظام الرأسمالي. توزيعا يكون في صالح غالبية الشغالين، لا في صالح حفنة من الرأسماليين واللصوص المحليين والأجانب.

في مقدورنا تصور نسب تنمية عالية ولكنها في الواقع ناتجة عن وتيرة عالية من الاستغلال الرأسمالي وهو ما يحدث عادة في الدول التي لا تتوفر فيها للطبقة العاملة أبسط الحقوق. لننظر من حولنا: ما هي الدول التي تتحقق فيها أعلى نسب النمو والاستثمار قبل وخلال الأزمة الرأسمالية الحالية؟ إنها الصين وبعض دول الخليج. لماذا؟ ألكونها ديمقراطية؟! ميزة هذه الدول هو بالضبط اشتداد وتيرة استغلال اليد العاملة والغياب التام لأبسط الحقوق النقابية والسياسية. هذه الميزة، ولا غيرها، هي التي تجلب جشع الرأسماليين وحماستهم للاستثمار و"التنمية".

أمّا في ما يخص مشكلة البطالة فإن تطوير الاستثمار وتطوير نسب التنمية لا يمثل في حدّ ذاته أيّ ضمانة للتقليص من نسبتها. بل أن العكس هو الذي يحدث على المدى الطويل. فبقدر ما تتطور إنتاجية الرأسمال بقدر ما يدفع باليد العاملة إلى معسكر العاطلين، بقدر ما يفقر آلاف صغار الفلاحين والحرفيين. لذلك عجزت أكبر الدول الرأسمالية عن حل معضلة البطالة. زيادة على أنّ تطورات الأزمة الاقتصادية الحالية تفيد بان نسب البطالة ستشهد ارتفاعا مهولا وأن نسب التنمية ستبقى راكدة لمدة طويلة حتى بعد انقضاء الأزمة الحالية. أما المؤسسات الرأسمالية الكبرى التي تسعى إلى تحقيق نسب تنمية عالية وأرباح طائلة فإنها تسعى إلى أحد الحلين لا ثالث لهما: إما أن تواصل في نهج تصفية مكاسب الحركة العمالية حتى يقبل عمال الدول الغربية بظروف الشغل القاسية التي يعاني منها رفاقهم في الدول الرأسمالية الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل. وإما أن يواصلوا في إعادة مركزة مؤسساتهم في هذه الدول التي توفر لهم يد عاملة بخسة ومنعدمة الحقوق.

إنّ الإدعاء بان "الشفافية والمحاسبة وعلوية القانون" ستؤدي إلى تطوير الاقتصاد هو مجرد فرضية لا يمكن التحقق منها. فمن الأفكار الخاطئة الاعتقاد في أن التطور الرأسمالي في حاجة إلى الديمقراطية. وهي مقولة تعود جذورها إلى الإيديولوجية البرجوازية عندما كان الرأسمال في حاجة إلى التحرر من قيود الإقطاعية ورجعية النبلاء وعندما كانت البرجوازية حاملة لواء التقدم والحرية. ولكن أين نحن الآن من عهد قد ولّى وانتهى منذ ثلاث قرون. فمن جهة، تهيمن الرأسمالية اليوم على كامل أرجاء المعمورة ومن ناحية أخرى لم تعد البرجوازية لا هي حاملة لواء الديمقراطية ولا هي حاملة لواء التحرر والتقدمية ولا هي حاملة لواء الوطنية. وإنه لأكثر من الأوهام الاعتقاد أن برجوازيتنا المحلية ستمثل استثناء لما درجت عليه برجوازيات كافة الأوطان.

لننظر لحظة واحدة إلى واقع الهيمنة الرأسمالية في الخمس قارات. يمكن القول أن 90% من البشر يخضعون اليوم إلى نظام سياسي لا تتوفر فيه الديمقراطية حتى بمعناها البرجوازي الغربي. ما هو الاقتصاد الذي يهمن في دول آسيا، بما فيها الصين وإيران والسعودية ودول الخليج وأندونسيا، ودول أمريكا اللاتينية، ودول القارة الإفريقية ودول أوربا الشرقية بما فيها روسيا؟ جميعها يخضع للاستثمار الرأسمالي وجميعها يخضع لنظم ديكتاتورية واستبدادية وكليانية لا تتوفر فيها مقومات الديمقراطية. أمّا ديمقراطية الدول الأوروبية وأمريكا فرغم عراقتها ورغم ما توفره لمواطنيها من حرية فهي الآن على أسوأ حال. لنتذكر أن البرتغال وإسبانيا واليونان ظلت لأمد لا يتجاوز إلا بقليل الأربع عقود تحت كلكل أنظمة ديكتاتورية [12]. أما التطورات الأخيرة، بفعل الأزمة الاقتصادية الخانقة، فإنها تُشير إلى تقلص تدريجي لمساحات الديمقراطية وجنوح البرجوازية المتصاعد إلى التخلي عن القيم الإنسانية بتعلاّت مختلفة. منها مقاومة الإرهاب ومنها التسامح تجاه الثقافات والأديان، والقراءات التي لا تعير اهتماما لحقوق الإنسان، ومنها عدم التدخل في شؤون الدول،أي تلك التي تمارس الاستبداد ولا تحترم الديمقراطية ولا تُعير اهتماما لحقوق شعوبها.

خاتمة

رغم اقتناعنا بأنه لا سبيل إلى انهيار النظام البوليسي في تونس إلا بنهوض الحركة الاجتماعية والاحتجاجية فإنه لا يمكننا أن لا نقف عند ضعفها الحالي. وضعف الحركة السياسية المعارضة بما فيها شقها الثوري العمالي ليس سببا من أسبابها بل هو سمة من سماتها. إن المعارضة البرجوازية تسعى إلى تصليب عودها دون التعويل كثيرا على نهوض الحركة الاجتماعية، بل بعضها يخشاها خشية الهشيم للهيب والبعض الآخر يتحول إلى رجل مطافئ في خدمة بن علي كلما اندلعت هنا أو هناك [13]. وهي تعوّل على ما تتركه لها السلطة من فتات. من ذلك اعتقاد بعض زعمائها أنه من الممكن الاتصال بالشعب وإيصال صوت حزبه له خلال أقل من خمسة عشر يوما (من 11 إلى 23 أكتوبر) وهي مدة الحملة الانتخابية الرسمية. وليس في مقدور أحزاب المعارضة القانونية أن تتبنى برنامجا شعبيا يمكن أن يعادي مصالح البرجوازية أو أن يهدّد أسس الاستغلال الرأسمالي وهي في أحسن الحالات تطالب بتدخل الدولة لتنظيم الرأسمالية والحد من جشعها [14].

أما بالنسبة لحزب العمال فلا يمكنه الفوز بدعم القطاعات العريضة من الشعب دون بلورة جملة المطالب الاجتماعية الملحة والعاجلة ودون مقاومة الاستغلال الرأسمالي مها كان غطاؤه السياسي. مثل هذا البرنامج يمثل نقطة ارتكاز لانخراط الشغيلة في النضال السياسي، لا من أجل إسقاط الديكتاتورية فحسب بل من أجل بديل شامل، يعيد تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بأكملها. بديل يختلف تماما عن نظام الاستغلال الرأسمالي الحالي. على هذا النحو فقط يمكن لحزب العمال أن يعطي لنضاله الديمقراطي محتوى شعبي حقيقي.

غسان الماجري
أكتوبر 2009

هوامش

[1انظر مقالة سعيدة بوهلال حول "الأمية السياسية للشباب التونسي والانتخابات القادمة" الصادرة بصحيفة "الصباح" يوم 14 أوت.

[2في حديثنا عن أحزاب المعارضة نحن نستثن بالطبع الأحزاب الإدارية للديكتاتورية أو ما عُرف بأحزاب الديكور.

[3حوار للأستاذ أحمد نجيب الشابي مع "السبيل أونلاين" يوم 24 ديسمبر 2008.

[4أنظر مقالتي الصادرة بـ"البديل عاجل" بتاريخ 16 ماي تحت عنوان “انتخابات 2009 وسبل التغيير الديمقراطي في تونس”.

[5حوار للأستاذ أحمد نجيب الشابي مع "السبيل أونلاين" يوم 24 ديسمبر 2008.

[6بيان حزب العمال الشيوعي التونسي حول الانتخابات الصادر "بالبديل عاجل" يوم 25 سبتمبر 2009.

[7حوار للسيد أحمد إبراهيم مع وكالة الأنباء السويسرية نهاية شهر مارس 2009.

[8حوار "أجرته مجلة حقائق" العدد 93، مع السيد أحمد إبراهيم.

[9حوار للسيد أحمد إبراهيم مع وكالة الأنباء السويسرية نهاية شهر مارس 2009.

[10حوار للأستاذ أحمد نجيب الشابي مع "السبيل أونلاين" يوم 24 ديسمبر 2008.

[11مداخلة لأحمد نجيب الشابي في سوسة بتاريخ 27 جانفي 2009.

[12انهارت الأنظمة الديكتاتورية في كل من البرتغال واليونان وإسبانيا بين سنتي 1974 و 1975.

[13فيما يتعلق بلعب دور رجل المطافئ خلال تحركات الحوض المنجمي يمثل السيد نوفل الزيادي ورفاقه خير مثال على ما نقول. ويبدو أن السلطة ستكافئهم على خدماتهم لها بما في ذلك دورهم في دعم الانقلاب الأخير على جمعية الصحفيين وعرقلة إنجاز المؤتمر التوحيدي لإتحاد الطلبة ودعم مواقف السلطة داخل الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وجرها إلى مواقع الاستسلام.

[14يمكننا العودة إلى المقالة المنشورة على الموقع الالكتروني لحركة التجديد بتاريخ 23 سبتمبر 2009 تحت عنوان:"Les questions économiques et sociales : notre diagnostic, notre alternative"


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني