الصفحة الأساسية > البديل الوطني > انتفاضة الحوض المنجمي/لا بدّ للقيد أن ينكسر
انتفاضة الحوض المنجمي/لا بدّ للقيد أن ينكسر
28 تموز (يوليو) 2008

ليس خافيا على أحد أن أحداث الحوض المنجمي التي انطلقت يوم 05 جانفي الفائت كان سببها المباشر الإعلان عن نتائج مناظرة الانتداب الخاصة بشركة فسفاط قفصة والتي كانت مخيبة للآمال بل عاكسة للدرجة والشكل الذي آلت إليه المناظرات بصفة عامة والمرتبطة بشركة الفسفاط على وجه الخصوص والتي اتسمت بالمحسوبية والرشوة ما دامت هناك طغم تتحكم في آليات الانتداب تفرض منطق الاحتكار واللامبالاة تجاه المواطنين والمشاركين في هذه المناظرات. لقد عكست نتائج هذه المناظرة ضيق الأفق وتغليب منطق الاستحواذ الذي دأب عليه نقابيو المنجم فلا غرابة أن يتصدر أبناء نقابيي المناجم قائمة الناجحين في حين يستثنى منها أبناء الشعب من خاويي الجيوب ولا غرابة كذلك في أن تتحول حصة الوضعيات الاجتماعية إلى امتياز لنقابات المناجم فيفرضون أبناءهم معوضين الحالات الاجتماعية بأبناء النقابيين ما دامت الاتفاقيات تبرم بين هذه النقابات وإدارة شركة الفسفاط مقابل تنازلات ليست خافية على أحد.

أما السبب العميق هو حالة الغبن والفقر والإهمال والبطالة المتراكمة التي صارت تعيشها مناطق الحوض المنجمي منذ زمن رغم ما تزخر به من خيرات وما تساهم به من إنتاج في الدورة الإقتصادية العامة للبلاد. تظافر العاملان أو السببان فكانت النتيجة حتمية فانفجرت الأوضاع في منطقة الحوض المنجمي وإن بدرجات متفاوتة كان أعمقها وأكثرها تجذرا بمدينة الرديف وذلك لسببين على الأقل:

أولا لوجود قيادة نقابية تضم كذلك بعض الوجوه الديمقراطية المناضلة بهذه المنطقة حاولت تأطير التحركات منذ انطلاقها، وثانيا لأن منطقة الرديف تعودت نقاباتها المناضلة على مناصرة ومساندة كل التحركات حتى وإن كانت فردية. فلا غرابة أن تتميز الحركة في الرديف بالعمق والتأثير اللازمين دون أن يفوتنا التنويه بالتحركات التي تمت في كل مدن الحوض المنجمي.

لقد أكد مؤطرو تحركات الرديف منذ انطلاقها على ثوابت هذه الاحتجاجات من حيث أنها حركة اجتماعية مطلبية وسلمية. أكدوا على ذلك أكثر من مرة سواء في تدخلات رموز الحركة أثناء الاجتماعات الجماهيرية التي كانت تعقد بدار الإتحاد المحلي للشغل بالرديف أو من خلال وسائل الإعلام المرئية والمقروءة التي أجرت اتصالات مع بعض قياديي الحركة. وإذ نؤكد على هذه الأبعاد فإننا نرى لزاما التعريج عليها وشرحها وإن باقتضاب:

- البعد الاجتماعي: يظهر البعد الإجتماعي للحركة الاحتجاجية بالرديف من خلال تركيبة المحتجين حيث أنها لم تقتصر على المعطلين عن العمل وإنما في صيرورة الحركة صارت مكوناتها تضم كذلك معلمين وأساتذة وعمال مناجم وعاملين بقطاعات أخرى ولم يقتصر التحرك على فئة دون أخرى بل ضمت كذلك فئات عمرية مختلفة ولأول مرة كان للمرأة دور متميز في هذا الحراك الإجتماعي وما الاعتصامات المنجزة يومي 08 و09 أفريل أمام مقر معتمدية الرديف إلا دليل على ذلك. حتى أبناء المدارس الإبتدائية والإعدادية والثانوية كان لهم فضل وتأثير بارز في الحركة. ومردّ ذلك بسيط حيث أن الأسباب التي أدّت إلى تفجّر الوضع وكذلك الأهداف المرسومة للتحرك كانت تمسّ الجميع بلا استثناء ولو أننا تأملنا قائمة الموقوفين والمختبئين للاحظنا أنهم من قطاعات وفئات مختلفة تعكس الطابع الجماعي والجماهيري لهذه الحركة.

- البعد المطلبي: منذ انطلاق الأحداث تكشفت الحركة الاحتجاجية بالرديف على طابعها المطلبي الإجتماعي الصرف حيث أن المحتجين كانوا يطالبون بحقهم في الشغل الكريم وفي نصيب معقول من التنمية ليس إلاّ، بدليل أنه بعد أسبوع فقط من الاعتصام وإضراب الجوع الذي شنه العاطلون منذ يوم 05 جانفي وبعد الوصول إلى اتفاق وإن كان شفويا مع معتمد الرديف بعد تدخل فرع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان بقفصة لدى والي قفصة أخلى المعتصمون دار الإتحاد المحلي حيث وقع الاتفاق على تمكين المحتجين من 17 موطن شغل بشركة فسفاط قفصة وتمكين مجموعة أخرى من شغل في قطاعات أخرى يتم البحث فيها لاحقا. ورغم أن هذه الإحداثات لا تفي بالحاجة ولا تغطي عدد المعتصمين والمضربين عن الطعام إلا أنهم بروح المسؤولية آثروا العودة إلى بيوتهم وتعليق تحركهم في انتظار أمل قد يكون قابلا للتحقيق، ليلتها لم يرق لبعض الأطراف الوصول للاتفاق، لم يكن حزب الدولة طرفا في تحقيقه، فانطلقت مواجهات ليلية مع قوات البوليس بتحريض وتنظيم من هذه الأطراف، بل إنها بدأت من الغد في نصب أول خيمة على السكة الحديدية ووفرت لأصحابها الدعم المالي والمعنوي، ولكن السحر انقلب على الساحر فعمد أغلب العاطلين الذين لم يحتجوا بدار الاتحاد المحلي للشغل بالرديف إلى نصب خيام على امتداد السكة الحديدية معطلين بذلك دورة الإنتاج على أمل الحصول على شغل أو حلّ بعض المشاكل الشخصية إلى درجة أن أحدا لم يعد قادرا على السيطرة عليها. فصارت الأطراف التي أشعلت الشرارة هي نفسها بإيعاز من السلطة تدفع في اتجاه رفع الخيام دون جدوى إلى أن تم بمدينة الرديف رفعها بالقوة.

نؤكد الطابع المطلبي الاجتماعي المتمحور حول حق الشغل والتنمية الحقيقية للجهة، لأنه كان هو الشعار الرئيسي لحركة الرديف، والذي كشفت عنه الشعارات المرفوعة في التظاهرات وعبّر عنه المتدخلون في الاجتماعات التي تقام بدار الاتحاد المحلي ولم يزد سقف المطالب عن هذا الحد سوى عن محاسبة الأطراف التي ألحقت الأذى بالمنطقة وكانت وراء الحيف والظلم الذي عاشته وتعيشه. أضف إلى ذلك أنه في كل مرة تتم فيها جلسة تفاوض بين لجنة التفاوض باسم المحتجين وأحد أطراف السلطة وظهرت خلالها بعض الإمكانيات والحلول إلا وسارت الأمور نحو الهدوء. غير أن الأطراف التي تجذب إلى الوراء ويسوؤها أي انفراج في الأزمة على المستويين المحلي الجهوي خاصة هي ذاتها التي تحاول تشويه الإحتجاجات فتلبسها طورا طابع الإرهاب وتصبغها طورا آخر بطابع السياسوية والتوظيف للمصالح الخاصة حتى تسدّ أي أفق أمامها..

-  البعد السلمي: المؤشرات التي ظهرت وكشفت عنها الحركة الاحتجاجية بالرديف كانت دائما تجنح كي تكون سلمية بدليل أن قادة الحركة كانوا في كل مرة يظهرون من المرونة ما يجعل الحركة تبدو كذلك، فقد عمدوا أولا بعد الاتفاق الأول والذي أشرنا إليه سابقا (إتفاق17 + إحداثات أخرى) إلى التحدث مع المحتجين حتى أن بعضهم دفعوا في اتجاه تثمين هذا الاتفاق فأفرز تعليق الاحتجاج، ثانيا عمد قادة الحركة إلى تعليق الإضراب العام المزمع تنفيذه على خلفية تجميد عضوية المناضل النقابي عدنان الحاجي من طرف الكاتب العم للاتحاد الجهوي للشغل بقفصة. ثالثا، الدخول في هدنة وتهدئة الأوضاع ورفع مظاهر الاحتفال بطلب من السلطة المحلية حتى تدرس الأوضاع وتبحث في إمكانيات إيجاد حلول، فدامت هذه التهدئة 15 يوما وقام منظمو الحركة الاحتجاجية بتمديدها رغبة منهم في أن يجري تلامذة المدارس الإعدادية والثانوية امتحانات الأسبوع المغلق التي سبقت عطلة الربيع. رابعا، عمد مؤطرو الحركة على الأقل في مناسبتين إلى محاولة إخلاء المدينة من سكانها لما استفحلت انتهاكات البوليس وتعاظمت اعتداءاته على كل أهالي الرديف دون استثناء إلى درجة أن بعض مواطني الرديف تجمعوا في خضم الحركة خارج المدينة وبالتحديد قرب المعهد الثانوي 02 مارس وأفرغوها من سكانها تجنبا لأي احتكاك مع البوليس ونأيا بالحركة عن بعض المنزلقات التي قد تكون نتائجها وخيمة. ثم إننا لم نسجل بعد حادثة قتل الشهيد حفناوي بن رضا أي تصعيد وغابت تقريبا مظاهر الاحتجاج تحت وطأة الحضور الأمني الكثيف إلى حين انطلاق حملة المداهمات والاعتقالات التي طالت تقريبا جزء هاما من مواطني الرديف ولا سيّما قادة الحركة.

ثم إن حركة تمتد طيلة أكثر من 05 أشهر راوحت أثناءها بين مختلف أشكال النضال من إضرابات ومظاهرات اعتصامات واجتماعات عامة ومزجت أحيانا بين شكلين أو ثلاثة في يوم واحد دون أن يسجل ضدها أي تجاوز من قبل أي طرف فلم يتم أثناءها سوى التعريف بمطالب الحركة وأهدافها دون أن تتجاوز ذلك محافظة على ممتلكات الناس الخاصة والعامة لا يمكن إلا أن نقول وأن نجزم بأنها سلمية بامتياز.

المنعرج:

المنعرج التراجيدي الذي شهدته الحركة الاحتجاجية بالرديف بدأ يوم اتخذ النظام قرار استئصال الحركة بالقوة حيث حشدت السلطة أكثر من 5000 عون بوليس بمختلف أصنافهم وغرقهم داخل المدينة وعلى مشارفها مدججين بأعتى أنواع الأسلحة والغازات الخانقة وتمّت فبركة حادثة الاعتداء على مركز الشرطة بالرديف لإطلاق العنان أمام حملة الاعتقالات التي طالت رموز الحركة وبعض المشاركين فيها، وإننا إذ نؤكد على الطابع التلفيقي الكيدي لهذه الحادثة فإننا نطرح تساؤلين وندعو مهندسي هذه التعلة إلى الإجابة عنها وهما كالآتي:

- كيف تسحب قوات الأمن من أمام مركز شرطة الرديف ويمكث فيه فقط أقل من 08 أعوان في حين هيّئوا للمدينة الصامدة جحافل تضاهي ما أعد لغزة عند حصارها؟؟
- ثم كيف لم يتعرف أعوان الأمن على أي شخص ممن شاركوا في الهجوم المزعوم على المركز؟؟

اعتقل عدد كبير من محتجي الرديف وقع التنكيل بهم شر تنكيل في دولة حقوق الإنسان والحريات حتى أن بعضهم استدعت حالاتهم الصحية الخطيرة إلى عيادة الأطباء حال الإفراج عنهم بعد 04 أيام ونذكر منهم لسبيل الذكر:عدنان حاجي وبشير العبيدي والطيب بنعثمان وبوجمعة الشرايطي وعادل جيار... رغم ذلك عادت الحركة إلى سالف نشاطها وإن اقتصرت في أغلب الأحيان على التفاوض رغم ما كنا نسجله أحيانا ليليا من مظاهرات وصدامات مع قوات البوليس بسبب التجاوزات التي كان هذا الأخير يمارسها.التصعيد الثاني الذي عمدت إليه السلطة كان متمظهرا في حادثة اغتيال لشهيد الحركة الأول المعتصم مع مجموعة من رفاقه في محطة للتيار الكهربائي بمنطقة تبديت حيث عمد معتمد الرديف ومن معه إلى إرجاع التيار الكهربائي إلى المحطة والشباب يمسكون ببعض الأسلاك أو هم قريبون منها. عشيّتها فوجئ أهالي الرديف بالتحول الفجئي في سلوك أعوان البوليس الذين على شاكلة الأمريكان طبقوا إستراتيجية – الضربة الإستباقية - فما كان منهم عشية استشهاد الشاب هشام بنجدو إلا أن بدؤوا فجأة في توجيه بنادقهم المحملة غازات خانقة إلى جموع الجالسين بمقهى الاتحاد المحلي للشغل بالرديف. كان هدفهم واضحا هو السيطرة على المدينة ومحاصرتها والحد من كل ردّة فعل على موت الشاب هشام بنجدو فأطلق العنان للبوليس كي يروّع الأهالي وذكر في هذه الأثناء حادثة وقعت بأحد أحياء المدينة حيث دخلت مجموعة من - رجال البوب - إلى مأتم كان أهل المتوفي يعدون عشاء الميت ونكلوا بهم ثم قاموا بتكسير سيارة كانت رابضة بالقرب من بيت المتوفى وقد تنقل المتضررون إلى مركز الحرس وسجلوا قضية في الحادثة.

تواصل إطلاق العنان لقوات البوليس كي تفعل فعلتها بأهالي المدينة فانتقموا من أهلها واعتدوا بالعنف على العديد من شبابها وصارت الرديف مسرحا لانتهاك حرمة المنازل والأشخاص. ولما كانت ردود فعل المواطنين على هذه الانتهاكات تتم من قبل مجموعات من الشباب دفاعا عن ذواتهم وحماية لمدينتهم ليلا تقرر أخيرا في سابقة لم تحدث منذ انتفاضة جانفي 1984 استعمال الرصاص المطاطي والحي في يوم يذكرنا بما يحدث كل ما أرادت القوات الإسرائيلية اجتياح إحدى المدن أو القرى الفلسطينية نتج عن ذلك كما هو معلوم استشهاد الشاب حفناوي بن رضا مغزاوي وإصابة أكثر من عشرين شابا يرقد الآن أحدهم في غرفة العناية المركزة بإحدى مستشفيات مدينة صفاقس في حالة تنبئ باستشهاده في كل لحظة. فاستعانت السلطة بالجيش الذي حال دون أهالي الرديف والأمن وتمركز في أهم نقاط المدينة وانطلقت حملة الاعتقالات لتطال أغلب من شاركوا في الحركة الاحتجاجية وتطال رموزها أيضا الذين يقبعون الآن في سجون السلطة بعد أن تعرضوا إلى تعذيب وحشي خلف عند أغلبهم آثارا سجلها المحامون وبعض أعضاء الرابطة التونسية لحقوق الإنسان.

المحصلة:

الدرس الأول: يكشف نظام 7 نوفمبر عن طابعه الوحشي مرة أخرى عندما يتعامل مع حركة مطلبية لا يزيد سقفها عن حق الشغل والتنمية المتوازنة بهذا العنف والصلف والهمجية فلم يكتف بإسقاط الشهداء والجرحى وإنما يعمد إلى التنكيل بأهالي الرديف وتعذيبهم في مخافره حتى يركع منطقة رفضت الذل والمهانة والبطالة.

الدرس الثاني: بالقدر الذي تعرض له أهالي الرديف من اعتداءات وانتهاكات لا تزال حدّ اللحظة متواصلة حيث ما تزال الفرق المختصة تعتقل وتبحث عمن ما زال فارا فإنهم مازالوا متمسكين بحركتهم ولن تثنيهم عصا الجلاد عن مواصلة النضال.

الدرس الثالث: على نظام الحكم أن يطلق فورا سراح المعتقلين وعليه أن يوقف التتبعات في حقهم والكف عن ملاحقة الفارين لسبب بسيط هو أن قوات الأمن المرابطة بالرديف منذ05 جانفي لن تبقى إلى الأبد هناك وأهالي الرديف الصامدة لن يستكينوا في الدفاع عن حقوقهم والنضال في سبيل أبنائهم فما هي إلا استراحة المحارب والنزالات قادمة لا محالة.

التحايا:

نوجه أولها لأهالي الرديف المناضلة ولأبنائهم الصامدين في سجون النظام مرفوعي الهامة يسطرون ملاحم الصمود والبطولة. الثانية نوجهها لأهلنا في منطقة الحوض المنجمي الصامدين والمساجين بكل مدن المنطقة:بأم العرائس، بالمتلوي ،بالمظيلة.

والثالثة لكل المناضلين الصادقين والذين ساندوا حركة الحوض المنجمي: للجنة الوطنية.. للجنة النقابية الوطنية التي تشكلت مؤخرا.. وللنقابيين الأحرار.. للمحامين الأحرار.. ولكل من وقف ولا يزال في سبيل إطلاق سراح الموقفين داخل البلاد وخارجها من جاليتنا الأبية-

نقول لكل هؤلاء نشكركم - ولا بد للقيد أن ينكسر-


أحد أبناء الرديف

الصامدة


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني