الصفحة الأساسية > البديل الوطني > تأبين حزب العمال الشيوعي التونسي للشاعر والجامعي والمناضل الرّفيق الدكتور الطاهر (...)
تأبين حزب العمال الشيوعي التونسي للشاعر والجامعي والمناضل الرّفيق الدكتور الطاهر الهمامي
14 أيار (مايو) 2009

ألقى كلمة التأبين باسم حزب العمال الرفيق عمار عمروسية

أيتها الرفيقات،
أيها الرفاق،
أيتها السيدات،
أيها السادة،

نودّع اليوم علما من أعلام تونسَ العزيزة، تونسَ العمال والكادحين، تونس الفقراء والبسطاء والمحرومين، تونس المضطهدين، ناشدي الحرية والانعتاق. نودّع صاحبَ "الحصار" و"الشمس طلعت كالخبزة" و"صائفة الجمر"، صاحبَ "أرى النخل يمشي" و"تأبّط نارا" و"اسكني يا جراح". نودّع طائرا غنّى طوال أربعين عاما خارج السرب، متميزا، متفرّدا بغنائه لم يقدر على تهميشه لا الغربان ولا الوطاويط. نودّع بحّارا جدّف طوال أربعة عقود ضد التيار دون أن تربكه الأمواج العاتية أو تنال من عزيمته. نودّع ثوريا عظيما كافح، فكرا و ممارسة، إلى آخر رمق من حياته دون كلل ولا ملل ولا يأس ولا إحباط، منشدا الأمل، مقسما على "انتصار الشمس" حتى في أكثر الفترات عتمة، نودّع "نخلة الشعراء" التي لم تغلبها الرياح ولا لهيب الشمس الحارق.

نودّع اليوم أخانا ورفيقنا الدكتور الطاهر الهمامي، ملتاعين من قسوة هذا الوداع، لأن الموت سرق منا عزيزنا وحبيبنا على حين غفلة وهو في أوج العطاء، ما زال قادرا على ملء الساحة الأدبية والثقافية، ردحا آخر من الزمن، مثلما ملأها طوال الأربعين عاما الأخيرة شاعرا وكاتبا وباحثا ومدرّسا ومناضلا. سرقه منا ونحن، من اخترنا طريق الحرية الوعرَ، ما زلنا في حاجة إليه، إلى صوته يحمل عاليا عذاباتِنا وآلامَنا، أحلامَنا وآمالَنا.

أيتها الرفيقات،
أيها الرفاق،
أيتها السيدات،
أيها السادة،

إنّ المصاب جلل، ومصابَُنا في حزب العمّال الشيوعي التونسي أجَلُّ، فنحن فقدنا رفيقا من رفاقنا، فقدنا مؤسّسا من مؤسسي حزبنا وقائدا من قادته حكم عليه الاستبداد بالنضال في سريّة حتى يواصل المسيرة وظل إلى آخر رمق من حياته يدافع عن فكر الحزب وسياسته الثوريّين مقتنعا بأنّ الاستبداد في بلادنا إلى زوال وبأن الرأسمالية إلى زوال وبأن الصهيونية والرجعية وكل أشكال العنصرية إلى زوال، واثقا بقدرة العمال والكادحين، بقدرة الشعوب، بقدرة الإنسانية التقدمية على كنس الاستغلال والاضطهاد والبربريّة من على وجه البسيطة وإقامة مجتمع اشتراكيّ خال من استغلال الإنسان للإنسان. مات الطاهر الهمامي وهو يَنشُد جبهة ديمقراطية وشعبية واسعة تضع حدّا للاستبداد في بلادنا. مات وهو يَنـْشُدُ جبهة عربية، وطنية وشعبية، تتصدّى للامبريالية والصهيونية والرجعية. مات وهو يَنـْشُدُ جبهة عالمية مناهضة للامبريالية والاستعمار. وكان يرى في الأزمة العميقة التي تعصف منذ مدة بالعالم الرأسمالي، دعوة متجدّدة من التاريخ للعمّال والكادحين والشّعوب المقهورة ليعيدوا الهجوم ويشيدوا عالما جديدا.

ترك "الدّغبَاجي" و"بن غذاهم" و"ساسي" وهي بعض الأسماء الحركيّة التي تـَسَمَّى بها الفقيد خلال مسيرته النضالية الطويلة، كتابات فكرية وسياسية عديدة تتناول مواضيع محليّة وعربية ودولية. وسنعمل في حزب العمّال على تجميعها ونشرها حتى يكتشف أصدقاء الفقيد وصديقاته وجها آخر له لا يقلّ عمقا عمّا عُرف به في مجال الأدب والثقافة. وللطاهر الهمامي كما تعلمون ماضٍ نقابي مشرق سواء عندما كان في قطاع الثانوي أو عندما حلّ بالجامعة. و كان الفقيد في كل الأزمات التي مرّت بها الحركة النقابية والعمالية مدافعا شرسا عن حرية العمل النقابي وعن استقلالية الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أراده أن يكون دائما ديمقراطيا، مدافعا عن حقوق العمال المادية والمعنوية وسندا لتطلعات الشعب نحو الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وقد خلـّد الطاهر الهمامي جزءا من كفاحه النقابي في كتابه: "دفاعا عن الديمقراطية النقابية" الذي جمّع فيه مقالات عديدة كتبها في خضمّ المعارك النقابية. وللطاهر الهمامي كتاب هامّ آخر اشترك في كتابته وهو وثيقة تأسيسية لحزب العمال بعنوان: "مائة عام من تاريخ الحركة النقابية" نشر في الثمانينات باسم شقيقه ورفيق دربه حمه الهمّامي.

إن اعتناق الفقيد الواقعية مذهبا أدبيا وفنيا و ريادته لها في بلادنا لم يكونا بمعزل عن قناعاته الفكرية والسياسية. فالأدب بالنسبة إليه التزام أو لا يكون، التزام بقضايا العمال والكادحين والمقهورين في كل أرجاء الدنيا. وبقدر ما كان الفقيد صارما في التزامه، كان صارما أيضا في مقاومة الابتذال والسطحية، كان يعتبر العمال والكادحين والمعذبين في الأرض جديرين بأدب عميق عمق قضيتهم وجميل جمال ما يرنون إليه من غد إنسانيّ مشرق. و كانت كتاباته الأدبيّة ومنها بالخصوص مؤلفه "مع الواقعية في الأدب والفن" لا تقاوم الرداءة البرجوازية فحسب بل الرداءة الشعبويّة أيضا. و كان عمق و سعة معرفة الفقيد بالتراث التونسي والعربي والإنساني وامتلاكه النادر للّغة زيادة على التزامه السياسي والفكري ورهافة حسه الفنّي من الأدوات التي جعلته ينقل عذابات الناس وآلامهم وأحلامهم بروح فنية عالية ومتفرّدة فوجد عامل المنجم والفلاح والبريدي وسكان هنشير سيدي جبر بالمشارقة و"الشيّات الصغير"... وجدوا مكانا لهم في أشعاره. كما حمّل الشعر وزر الأحداث الكبرى التي هزّت الكيان العربي، من فلسطين إلى العراق إلى لبنان إلى الصومال وكان انتصاره للمقاومة لا لبس فيه. ولم يُنْسِ الالتزامُ الوطنيُّ والقوميُّ الشاعرَ همَّ الإنسانية التي تواجه الوحشية الامبريالية والاستعمارية والعنصرية بمختلف ألوانها:


أنا إنسانْ،
وتعاليمي فوق تعاليم جميع الأديانْ
أنا إنسانْ،
قبل التوراةْ
وقبل الإنجيلْ
وقبل القرآنْ،

أنا إنسانْ
وحياتك عندي أثمن من كلّ الأثمانْ

لذلك كانت أشعاره أمميّة مفعمة بحبّ الإنسانيّة والالتزام بقضاياها.

وكان من نتائج التزام الفقيد ورفضه الموالاة ووقوفه سندا لشقيقه حمه الهمامي ورفاقه من المساجين السياسيين في أصعب الفترات، أن تعرّض للمحاصرة ومحاولة التهميش والضغوط والمراقبة والتشويه، وتعرّضت بعض دواوينه للمنع في بعض الأوقات (الحصار والشمس طلعت كالخبزة). ورغم أنه كان في أوج عطائه ومشهودا له بكفاءة علمية عالية حين بلغ سن التقاعد فإن وزارة التعليم العالي رفضت استمراره في التدريس مثله مثل عدد من كبار الجامعيين الذين حافظوا على استقلاليتهم و حرّيتهم الأكاديميّة.

ولا يمكن أن نُنصِفَ الطاهر الهمّامي دون الإشارة إلى كتاباته العديدة التي دافع فيها بشراسة المحارب المؤمن بقضيته عن العقلانية والتقدم في وجه الخرافة والتجهيل والظلام والعادات والتقاليد التي تعرقل تحرّر جماهير الشعب. كما دافع بنفس الشراسة عن حقوق النساء وعن المساواة بينهن وبين الرجال. وكان آخر كتاب نشره قبل وفاته بأسابيع وهو "بعلٌ ولو بغلٌ" يتناول هذا الموضوع. وإلى ذلك كله كان الطاهر الهمامي مدرسة في الأخلاق التقدمية الرفيعة. فقد كانت سعة علمه ومعارفه يقابلها تواضع نادر ومحبّة للناس البسطاء ورغبة في الالتحام بهم لا تقدّر وكُرْهٌ للتعالي والغرور. كما كانت صرامته في الدفاع عن المبادئ في القضايا الكبرى يقابلها دفء إنسانيّ كبير في علاقته بالناس واحترام لمخالفيه في القناعة والرأي. كما كان الفقيد مثالا في الصراحة جريئا في النقد حتى تجاه نفسه، أفلم يُخضِعْ مسارَهُ للنقد المستمرّ دون إضاعة البوصلة؟ وإلى ذلك كله كان الفقيد يجمع بين القول والفعل، بين النظرية والممارسة، كان مناضلا ميدانيا، يصارع ويقاوم بكل ما أوتي من جهد وقناعة.

ما أقسى وداعك يا الطاهر... ولكن ثقْ بأنك ستكون من الخالدين... وستبقى لنا قنديلا يضيء في أوقات العتمة... وإننا نعِدُك بأننا سنواصل المسيرة حتى نَرفعَ الحصار و حتى تطلعَ شمس الحريّة كما أردتها أنت كالخبزة و حتى تسكنَ الجراح وإن كان جرحُ فراقكَ من الصعب أن يسكن.

يا الطاهر...
...
أرى النخل يمشي في الشوارعْ
مرفوع الجبهة فارعْ
يتحدّى ويصارعْ
...
أرى النخل يمشي
وسط الزحمة يمشي
وسط العتمة يمشي
وسط الهجمة يمشي
مشدود الهُدب إلى الشمس
موعود الصـّابهْ
...
أرى النخل يمشي في الشوارعْ
بحديد المعاملْ
وحصيد المزارعْ
ورغم الليالي
ورغم المواجعْ
أرى النخل عالي
ولا يتراجعْ...

نُعَزّيكَ يا عم علي... نعزّيكِ يا أسرة الفقيد... نعزّي أنفسنا...


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني