الصفحة الأساسية > البديل الوطني > تكريس للإستبداد وتهميش للحقوقيين..
الهيئة العليا لحقوق الإنسان:
تكريس للإستبداد وتهميش للحقوقيين..
29 كانون الثاني (يناير) 2009

تم أخيرا الإعلان على التركيبة النهائية لما يسمى "الهيئة العليا لحقوق الإنسان" والتي تم تعينها من طرف بن علي، ليتم بذلك القضاء على كل من إعتقد في "رجاحة عقل" النظام النوفمبري ليتم "تسميتهم" و"تعيينهم"، وهم من المحسوبين على مكونات المجتمع المدني المستقل.

ورغم أن هذا الإعلان لم يفاجئنا، فإننا سنستغل الفرصة لمقارعة من يعتقد في أن الإستبداد في تونس لا يعبّر عن سلوك منهجي ممركز ومبني على الإقصاء والتهميش والإستفراد بمؤسسات الدولة وبمقرراتها على غرار خيراتها ومفاصلها السياسية.

فبالعودة لأسباب تأسيس هذه "الهيئة" والظروف المشبوهة التي حفت بتوقيت إنشائها وتركيبتها ونوعية مهامها، نتمكن من معرفة الحقيقة الكاملة حول دور مثل هذه الهيئات في النشاط الحقوقي في تونس. فالهيئة ولدت من رحم النظام النوفمبري في محاولة منه لخلق هيئة موازية لنشاط الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، التي عرفت بدورها الحقوقي المستقل طوال عقود وريادتها في هذا المجال لا سيما منذ المؤتمر الخامس بتاريخ 2001 والذي أفرز خطا رابطيا مستقلا بشكل مطلق حيث نجح الديمقراطيون وبالإنتخابات الشفافة في "إبعاد" الدستوريين الذين سعوا بشتى الطرق لإحتواء هذه المنظمة العريقة وطنيا وعربيا وإفريقيا.

من جهة أخرى فإن محاولة تهميش الرابطة من طرف الدولة قد إتخذ العديد من الأشكال من تعطيل متعمد ومتواصل لعقد المؤتمر السادس، إلى شل نشاط الهيئة المنتخبة وفروعها الجهوية عبر توظيف الجهاز القضائي والجهاز البوليسي، هذا الأخير لم يجد حرجا في محاصرة المقرات والإعتداء على الرابطيين بالعنف اللفظي والمعنوي، دون تجاهل الحملات الإعلامية عبر بعض من "المرتزقة " في صحف العار والتخوين، في محاولة لتشويه نضالات الرابطيين بحج واهية كالتدخل في شأن غير الشأن الحقوقي أو أكثر من ذلك بنشر إدعاءات "العمالة للغرب" ومحاولة تنفيذ أجندات خارجية تناقض مصلحة النظام إلى غيرها من الأسباب الواهية والزائفة.

لذا فإن تأسيس" الهيئة" يندرج في هذا السياق الذي لم تتحمل فيه سلطة بن علي المواقف "الراديكالية" للرابطة في فضح الإنتهاكات المتعددة لحقوق الإنسان من تعدي على الحريات الخاصة والعامة والتي تندرج في إطار سياسة ممنهجة من طرف النظام في تفصي تام من التعهدات الدولية سواء كانت معاهدات أو بروتوكولات حول العمل على إحترام الحقوق السياسية والإجتماعية والثقافية للإنسان وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فتقارير الرابطة ونشاطاتها أضحت "مرجع نظر" لكافة المهتمين بالشأن الحقوقي على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي نظرا للمصداقية المنقطعة النظير والتي حضيت بها منذ تأسيسها، لذا لم يدخر النظام الدستوري منذ سبعينات القرن الماضي جهدا كي يتمكن من ثني هذه المنظمة العريقة عن النشاط إما عبر القمع والتهميش وإما عبر محاولات الإحتواء المتكررة والتي لم تنجح أمام إصرار الرابطيين الشرفاء في التصدي لمثل هذه المحاولات الجبانة والفاشلة.

لقد تعددت مناورات النوفمبرية في محاولة لتجميد الرابطة عبر السعي لتشكيل هذا الهيكل الصوري في مرحلة أولى ومن ثم توسيع صلاحياته دون المساس بجوهره وحقيقة دوره وهي مبايعة بن علي ومباركة سياساته وتزييف الحقائق حول الإنتهاكات الممنهجة لأبسط الحقوق الإنسانية والممتدة على عشرينية كاملة.

لذا لم نستغرب من التركيبة المنتقاة من شخصيات لا يذكر لهم التاريخ أي تدخل أو نشاط بارز أو نضال حقوقي يهتم بمآسي التونسيات والتونسيين ويفضح الإنتهاكات اليومية لكرامتهم، ولكن ما يدفعنا للحديث عن هذا الهيكل هو ما ذهب إليه بعض الديمقراطيين والحقوقيين من أن هذا الهيكل يمكن له أن يضفي شيئا من "الإيجابية" على المشهد الحقوقي عبر تعزيزه للنسيج الجمعياتي التونسي وربما يمضي "أصدقائنا" لأكثر من ذلك لإعتقادهم أن النوفمبرية ستشرّكهم في هذا الهيكل الصوري إما لنية "صادقة" من السلطة أو لذر الرماد على الأعين. وفي كلتا الحالتين يتجاهل هذان الإعتقادان رؤية السلطة التسلطية التي يمكن إخترالها في "التحكم" بالمشاركة في جميع الهيئات مهما كان إختصاصها أو مجال تدخلها على شاكلة المسرحيات الإنتخابية.

فكيف لنا الحديث عن لجان وهيئات حقوقية في ظل حالة الحصار المفروضة على النشاط الحقوقي المستقل مما دفع العديد من الغيورين على حقوق التونسيين، العمل في جمعيات "سرية" على غرار "المجلس الوطني للحريات" و"الجمعية التونسية لمناهضة التعذيب" و"اللجنة الدولية لمساندة المساجين السياسيين" وغيرها من المنظمات والجمعيات التي تعاني المحاصرة والإعتداءات المتكررة من طرف بوليس بن علي؟

وكيف لنا البحث في نوايا السلطة حول حقيقة هذه المؤسسات ودورها، عندما يتم حرمان المئات من الحقوقيين والعشرات من الجمعيات وعلى رأسها الرابطة ومنظمة العفو الدولية من الإحتفال بستينية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تحت شعار "الكرامة الإنسانية"؟

وكيف لنا أن تأمل خيرا من هيئة تشارك فيها جمعيات شكلية وديكورية لا هم لها إلا الإسترزاق من شعارات فضفاضة على حساب أموال الدولة والتي ليس لها باع أو أي تدخل في المجال الحقوقي على غرار جمعية "بسمة" التي يعلم الجميع من يديرها؟

وكيف لبعض رافعي شعار "المشاركة من أجل الإصلاح" أن يتشبثوا بمثل هذه الشعارات الخاوية من أي بديل طبقي، والإستمرار في التمسك والدفاع عن "معتقداتهم" بعد أن أجابتهم الطغمة النوفمبرية وبكل قسوة بالتهميش والإقصاء كخيارين للماضي والحاضر والمستقبل؟

وكيف لمن إعتقد دوما بإمكانية العمل مع النظام "الدستوري"، مواصلة البحث عن مبررات واهية للقمع المفتوح الذي ينال من التونسيين من قبيل أن العديد من السلوكات الهمجية القمعية لا تتعدى سوى "إنفلتات " وسلوكات "فردية" و"إجتهادات" خاطئة ممن يريدون الـتأكيد على ولائهم الأعمى "لصانع التغيير"؟.

لقد شكل الإعلان عن التركيبة النهائية للهيئة العليا لحقوق الإنسان حدثا بارزا لا من زاوية من يمثلون الحركة الحقوقية في هياكلها، وإنما من زاوية الـتأكيد مرة أخرى على النهج الإقصائي لسلطة بن علي الديكتاتوري، وهي تعد بذلك وصمة عار أخرى على جبين الطغمة النوفمبرية المستمرة في إستيلائها على إرداة الشعب التونسي موظفة جل الإمكانات المتوفرة للمحافضة على مصالح أقلية مافيوزية لا هم لها سوى إمتصاص عرق الكادحين. من جهة أخرى لا يمكن الإعتقاد "بتحسن" أداء النوفمبرية وإستجابتها الجزئية لمطالب الحركة الديمقراطية وهي التي لا زالت تلاحق نشطاء حقوق الإنسان في كل موقع وفي كل مناسبة سواء عبر السجون والإعتقالات أو عبر الإعتداءات المتكررة وحملات التشويه والتخوين. كذلك فالنظام لازال يحمي الجلادين بكل وقاحة على غرار ما جد مؤخرا لما أدان القضاء الفرنسي شخصية أمنية بارزة تورطت في التعذيب أمرا وتنفيذا وحاكمه غيابيا بثماني سنوات سجنا وهو لازال يتحمل إلى اليوم إحدى المسؤوليات الأمنية الهامة (رئيس منطقة أمن وطني).

لذا لا يمكن بأي حال أن نترجى خيرا من نظام 7 نوفمبر، خاصة أن رسائله للحركة الديمقراطية واضحة وصريحة وغير "مشفرة"، فهو يكرس حقيقة جوهره الطبقي المعادي للتونسيين والتونسيات وينتصب بشكل عدائي ضد كل من يزعزع كيانه الإستبدادي ولو كان ذلك عبر بعض البيانات أو التقارير التي تفضح ممارسته الديكتاتورية. والمهم اليوم أن يتعلم كل " المرتبكين " في ساحتنا الديمقراطية بأن النضال ضد الإستبداد لا يتجزأ، مما يتطلب وضوحا في قراءة الواقع السياسي والنقابي والحقوقي في تونس لتولد بذلك البدائل والحلول والتكتيكات السليمة والناجعة، خاصة وأن التونسيين قد تميزوا بوعيهم المتقدم سواء في أحداث الحوض المنجمي أو في المساندة الميدانية لغزة الصامدة.

صامد


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني