الصفحة الأساسية > البديل الوطني > سياسة الاستئصال الاجتماعي سياسية فاشلة
سياسة الاستئصال الاجتماعي سياسية فاشلة
26 تموز (يوليو) 2008

لم يكتف نظام بن علي البوليسي طيلة العشريتين الأخيرتين بتضييق الخناق على الأحزاب والقوى السياسيّة بمختلف اتجاهاتها الفكريّة وكذلك على المنظمات والهيئات الفكريّة وكذلك على المنظمات والهيئات النقابيّة والحقوقيّة والشبابيّة والنسائيّة والثقافيّة، بل إنه حاول في أكثر من مرّة استئصال تلك الأحزاب والهيئات مستخدما ترسانته القانونيّة الفاشستيّة وأجهزته الأمنيّة والقضائيّة والإداريّة. وقد نجح نظام بن علي نسبيّا في هذه السياسة التي مكنته من فترة "هدوء" استغلها لإحكام قبضته على المجتمع وفسح المجال لأصحاب رأس المال المحليّين والأجانب كي ينهبوا خيرات البلاد وثرواتها ويكثفوا استغلال الطبقات والفئات الشعبيّة. ولئن تمكنت الأحزاب والقوى السياسيّة وتنظيمات المجتمع المدني من استعادة أنفاسها تدريجيا والتصدّي للاستبداد فإنها لا تزال تعاني من ضعف صلاتها بالشعب.

و لعلّ هذه النتيجة هي التي دفعت نظام بن علي اليوم إلى تجريب نفس السياسة على الحركة الاجتماعيّة وفي ظرف يختلف على الظرف السابق، ظنّا منه أنّه سيغنم بفترة جديدة من "الهدوء" و"السلم الاجتماعي" تمكنه وتمكن الفئات المافيوزيّة التي تمثل قاعدته الاجتماعيّة من مواصلة السيطرة على مصائر البلاد. فبعد اتـّباع سياسة التجاهل والاستنزاف والتخويف تجاه الاحتجاجات الشعبيّة بمدن الحوض المنجمي، ألقى يوم 6 جوان 2008 بثقله الأمني والعسكري بمعتمديّة الرديّف مستعملا الرصاص الحيّ ومدشنا حملة لم تنته لحدّ الآن من المداهمات والاعتقالات والتنكيل والمحاكمات لم تستثن أحدا من القيادات والنشطاء وامتدّت حتّى إلى أهاليهم من كبار السنّ وقد شمل ذلك معتمديّتي المتلوّي وأمّ العرائس، وقد استعملت السلطة في ذلك أبشع الأساليب لإذلال الأهالي والتشفي منهم في محاولة للقضاء نهائيّا على روح الرفض والاحتجاج لديهم من ذلك تعذيب بوليس بن علي للشبان أمام آبائهم والتحرّش بالنساء أمام أزواجهنّ وتحطيم التجهيزات المنزليّة وسرقة المتاجر وتكسير المقاهي... وبالمقابل كلـّف أعضاده من رموز البيروقراطيّة والفساد النقابي وعلى رأسهم "عمارة العباسي" ومن أتباع الحزب الحاكم وأحزاب الديكور بشنّ حملة تشويه ضدّ قيادة الحركة واتهامها تارة بـ"توظيف" الحركة الاحتجاجيّة لأغراض خاصّة أو سياسيويّة، وطورا بالزجّ بأبنائهم في السجون والمعتقلات، في استهداف متعدّد الاتجاهات لذهنيّة شعبيّة عاديّة يروم زعزعة ثقتها بالاحتجاج وقياداته، وتضخيم سطوة السلطة وجبروتها. وقد جاءت الإجراءات الشكليّة التي أعلنها بن علي في اجتماع المجلس الجهوي الممتاز بقفصة لتعزّز هذا التوجّه لما فيه من تضمين لارتهان أوضاع الأهالي بـ "منن" رئيس الدولة و"عطفه" وبالتزامهم بروح الخضوع والخنوع.

وقد جاءت معطيات الأيام الأخيرة لتؤكد هذا التوجّه الاستئصالي، حيث بات يستدعى العشرات من أهالي الرديّف لمحلات البوليس بالرديّف والمتلوّي وقفصة والضغط عليهم للتعاون مع البوليس وتقديم تقارير دوريّة عمّا يحصل في أحيائهم مهدّدين إياهم بالسجن في حالة الرفض أو التقصير ساردين عليهم مختلف أنواع التعذيب التي تعرّض لها المعتقلون. ولعلّ في هذا "التجنيد" القسري إهانة مضاعفة للذات الإنسانية يفقد فيها المجنّد ثقته بنفسه وبكرامته. كما بات شباب أمّ العرائس عرضة لاعتقالات بالجملة وعرض على حاكم التحقيق في انتظار محاكمتهم في قضايا جنائيّة على خلفيّة تحركات سلميّة مضى على بعضها أكثر من 4 أشهر وسعت سلط الإشراف في فترات سابقة إلى توفير شغل لهم بالحظائر والمناولات، أي أنه لا يوجد سبب مباشر لاعتقالهم أو محاكمتهم غير المفعول الرّجعي لتشفـّي السلطة من كلّ من وقف في وجهها ولو من أجل مطالب مشروعة وفي إطار سلمي ومتمدّن. ولقد ازداد الأمر سوءا حين تفصّت السلط المحليّة والجهويّة من كلّ الاتفاقات التي عقدتها مع المحتجين من أصحاب الشهادات وعمّال البلديّة وعمّال المناولات، محيلة المئات بين عشيّة وضحاها على بطالة قهريّة تحت تعلات عدم وجود تمويلات ضروريّة، متلاعبة بلقمة عيش عائلات بأكملها وإجبارها على الجوع والبؤس في إشارة واضحة لعدم قبول السلطة لأيّ نوع من الاحتجاج مهما كان مصدره وسببه في سير مخالف لمنطق التاريخ وفي ليّ لعنق المسارات الاجتماعيّة على مدى أحقاب زمنيّة.

إنّ أيّ حراك اجتماعي ببلادنا لم يعرف مثلما يعرفه الحوض المنجمي الآن من تكاتف كلّ إمكانيات السلطة ومناهجها في محاولة لضرب حاضر الحركة الاجتماعيّة ومستقبلها متناسية أنّ الأمر لا يتعلق بعشرات النشطاء بل يشمل الآلاف من ضحايا خياراتها اللاشعبيّة واللاديمقراطيّة والذي لن ينتج إصرار السلطة على المضيّ قدما فيها إلا مزيد تعميق مشاعر النقمة والغضب والاستعداد للاحتجاج والرفض خاصة وأنّ الأمر يتعلـّق بضروريّات عيشها، ولعلّ التضامن الآلي مع هذه القضايا لن يزيد إلا في تأجّج بؤر الاحتقان، ممّا يجعل من خيار الاستئصال الاجتماعي خيارا مغلوطا ومغامرا وفاشلا سوف يعزّز من فرص النهوض الاجتماعي ليس في جهة الحوض المنجمي فقط بل في بلادنا برمّتها، ولعلّ في فضح هذا الاتجاه الأمني القمعي وتعزيز فعاليّات المساندة العمليّة مع أهالي الحوض المنجمي تفويت لفرصة السلطة في مزيد التنكيل بالأهالي والتجرّؤ مرّة أخرى على تفعيله في جهات أخرى.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني