الصفحة الأساسية > البديل الوطني > علاقة وزارة التعليم العالي بالمؤسسات الجامعية ومسؤوليها: إخضاع وتسلّط
علاقة وزارة التعليم العالي بالمؤسسات الجامعية ومسؤوليها: إخضاع وتسلّط
1 تشرين الأول (أكتوبر) 2009

من المفروض أن تكون علاقة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالمؤسسات الجامعية ومسؤوليها وموظفيها علاقة قائمة على الاحترام والتقدير والتفاهم والتعاون لفض الإشكاليات التي تطرح وتجاوز المشاكل التي تجدّ من حين لآخر، واستشارة المسؤولين في ما يهمّ شؤون مؤسساتهم قبل اتخاذ أيّ إجراء بشأنها مهما كان حجم المؤسسة ودورها.

إلاّ أننا عندما نتأمل السياسة التي تتّبعها وزارة الإشراف مع المؤسسات التابعة لها والمسؤولين الذين يسيّرونها تنتابنا الدهشة والحيرة. فهي سياسة عجيبة غريبة قِوامها الأمر والنهي والغطرسة والعنجهية وإذلال المسؤولين مهما كانت مواقعهم وكأنّ همّ هذه الوزارة فرض الطاعة على الجميع .فلا احترام ولا تشاور، ولا تقدير ولا تعاون. والأمثلة المجسّدة لهذه السياسة كثيرة.

1-علاقة الوزارة بعمداء الكليات:

لا تزال الكليات في الجامعة التونسية المربّع الوحيد الذي يتمتّع بقدر معيّن من الحريات. فقد زال مبدأ الانتخاب في سائر المؤسسات الجامعية وعُوّض بالتعيين الذي يخضع لمقاييس لا تمتّ بأيّ صلة إلى الكفاءة والنزاهة والرغبة في خدمة المؤسسة وتطوير أدائها. فالولاءات الشخصية والانتماءات الحزبية والروابط الجهوية هي العوامل التي تحدّد تولّي أستاذ جامعي تسيير مؤسسة جامعية.

وبما أنّ العمادة في الكلّيات تخضع لمبدأ الانتخاب والاختيار الحرّ فقد تصادمت رغبة العمداء مع رغبة الوزارة التي تضيق بهامش الحرية وتعادي أي نزعة استقلالية وتخنق كلّ نفس يتصدّى لتوجهاتها التسلطية. ورغم اختلاف الحالات التي واجهت فيها الوزارة عمداء يحترمون أنفسهم ويرفضون منطق الأمر والنهي فقد كانت النتيجة واحدة إذ تلقت، في كلّ مرّة، صفعة مدوّية دون أن ترتدع وتستخلص الدروس. فلمّا أمر الوزير السيد حميد بن عزيزة عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس يوم الجمعة 30 مارس 2007 بتمزيق المعلّقات النقابية في برج زوارة التابع للكلّية رفض العميد ذلك الأمر وتحدّاه أمام الجميع. فأثار هذا الموقف الجريء والرافض للإهانة تعاطف النقابيين الذين أمضوا العرائض مندّدين بصلف الوزارة ومساندين عميد الكلية ومكبرين فيه احترامه العمل النقابي.

إلاّ أنّ هذا الموقف الجريء لم يُلقن الوزارة أيّ درس مفيد.فلمّا دعت عمداء الكلّيات إلى الاجتماع في مدينة قفصة وأمرتهم بالالتحاق بحافلة خاصة لتنقلهم إلى هناك في الساعة الرابعة صباحا من تونس تخلّف عن الركب الأستاذ عبد الجليل الزاوش عميد كلية الطب بتونس لأسباب صحيّة. فلم تتردّد الوزارة في توجيه توبيخ له. لكنّ هذا التوبيخ أثار سخط أساتذة كليته والنقابيين ونقابة الأطباء الجامعيين والنقابة العامة للتعليم العالي.فكتبت العرائض المندّدة بسلوك الوزارة وتقرّر شنّ إضراب دفاعا عن كرامة العميد والأساتذة.حينئذ اُضطُرّت الوزارة خاسئة خائبة إلى سحب التوبيخ فألغي الإضراب وانتصرت إرادة الأساتذة التي لقنت هذه الوزارة درسا آخر في الدفاع عن كرامة الذات البشرية.

ولكن يبدو أنّ هذه الوزارة وطّنت نفسها على الرغبة في امتهان العمداء ودوس كرامتهم. فكلّما تجاوزت مشكلة اختلقت مشكلة وكأنّ ضميرها لايرتاح وبالها لايهنأ إلاّ إذا وتّرت الأجواء داخل إحدى المؤسسات الجامعيّة. فقد جاء في البيان الصادر عن النقابة الأساسية بكلية العلوم بتونس بتاريخ 25 جوان 2009 والذي يحمل عنوان "بيان حول توبيخ عميد كلية العلوم بتونس" ما يلي: "نحن أساتذة كلية العلوم بتونس المجتمعين تحت إشراف نقابتنا الأساسيّة يوم الخميس 25 جوان 2009 استعرضنا ما ساد السنة الجامعية المنقضية من توتّر نتيجة تعامل سلطة الإشراف المتسلّط والمهين حيال إطار التدريس والإدارة والذي انتهى بتوجيه عقوبة توبيخية نالتها الكلّية في شخص عميدها بتعلّة عدم احترام المنشور عدد 9 لسنة 2008 الخاص بتأهيل وإعادة تأهيل الشهادات الوطنية للمرحلة الثالثة".

وتتمثل الإشكالية في تأهيل الكلّية شهائد المرحلة الثالثة في الإبّان "إلاّ أنّ شهادتين لقسم البيولوجيا تخلّفتا عن البقية وذلك بعد طلب الجامعة سنة 2005 تغيير اسميهما على أن يعاد تأهيلهما في النصف الأوّل لسنة 2008". ولم تُسوّ الوضعية في الإبّان وتتحمّل الوزارة المسؤولية حسب ما جاء في البيان. فهل يحتاج الأمر إلى توبيخ العميد؟ وفي الحقيقة لم تربح الوزارة شيئا من ذلك. فقد ندّد الأساتذة بهذه الممارسات وأعلنوا تضامنهم مع عميد كليتهم ورأوا أنّ "سلوك الوزارة يندرج ضمن التسيير القسري للمؤسسات الجامعية وتحديد هامش استقلالية التصرّف فيها والنيل من كرامة الجامعيين في عدّة مجالات".

وفي الحقيقة تؤكّد هذه العيّنات أنّ علاقة الوزارة بعمداء الكلّيات علاقة أفقية، متوتّرة متشنّجة ممّا يعني ضيقها بهامش الحرية الذي يتمتّع به هؤلاء المسؤولون وتعمّدها تهويل أحداث بسيطة للإساءة إلى الجميع. ولعلّ العداء المقيت الذي تكنّه وزارة الإشراف للكلّيات الكبرى جعلها لا تتوانى في تجاوز القوانين المسيّرة لها والتدخّل في شؤونها وفرض إرادتها.

2 – كلّية العلوم بقفصة وتعيين العميد:

من المفروض أن تكون وزارة الإشراف أحرص من غيرها على احترام القوانين المسيّرة للمؤسّسات الجامعية وتطبيقها ودعوة المسؤولين إلى الالتزام بها حتى لاتعمّ الفوضى وتتحوّل المؤسسات إلى جزر معزولة لكل ّجزيرة قانون خاصّ بها. إلاّ أنّ وزارة الإشراف هي أوّل من يخرق القوانين التي تسنّها وأوّل من يعطي المثال على أنّها لا تحترم أحدا. وقد أكّد البيان الصّادر عن الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي بتاريخ 19 سبتمبر أنّ وزارة الإشراف عمدت إلى تعيين عميد في كلية العلوم بقفصة رغم أن الواقع يسمح بانتخاب عميد إذ تتوفر الكلية على 8 أساتذة من صنف "أ". وممّا جاء في البيان قولها: "إنّ وزارة التعليم العالي لم تلتفت إلى هؤلاء الأساتذة ولم تدع إلى انتخاب العميد وفضّلت تعيين أستاذ مساعد لا يحظى بتأييد زملائه حتى أنه فشل في انتخابات مديري الأقسام مراعية في ذلك اعتبارات غريبة عن الأعراف الجامعيّة" (انظر "مصادرة حقّ أساتذة كلية العلوم بقفصة"- جريدة "الشعب" ع 1040 –السبت 19 سبتمبر 2009 –ص 6).

ويبدو أنّ هذه الوزارة لا تكلّ ولا تملّ من البحث عن أساليب ملتوية تساعدها على تخريب الكلّيات الكبرى التي ترفض الدخول إلى بيت الطاعة والانصياع للأوامر العليا. وآخر "تقليعة" استنبطتها هي تقليص عدد الطلبة الموجّه إليها.

3 –تحجيم دور الكلّيات الكبرى:

عندما نتأمّل "دليل التوجيه الجامعي 2009" تستوقفنا أرقام غريبة تؤكّد التوجّه الأخرق الذي تبنّته وزارة الإشراف في علاقة بالكلّيات الكبرى التي عُرفت بثقلها النقابي أساتذة وطلبة ومبدئية عمدائها وقدرتهم على الوقوف في وجه الوزارة. ويؤكّد هذا التوجّه رغبة الوزارة في تحويل هذه الكليات إلى مؤسسات صغرى لا إشعاع لها في أيّ مجال من المجالات ولا حضور لها على أيّ مستوى من المستويات.فلو أخذنا طلبة التاريخ والجغرافيا والفرنسية والأنقليزية وقارنّا بين ما وُجّه إلى جندوبة وما وُجّه إلى كليات أخرى لوجدنا مفارقة عجيبة غريبة.

التاريخ والجغرافيا (إجازة أساسية):
- المعهد العالي للعلوم الإنسانية بجندوبة: 210 طالبا
- كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس:40 طالبا
- كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة: 69 طالبا
- كلية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة: 100 طالب

النتيجة التي نخرج بها هي أنّ نصيب المعهد العالي بجندوبة تجاوز نصيب ثلاث كليات مجمّعة: 210 مقابل 209.

الفرنسية
إجازة تطبيقية
- المعهد العالي للعلوم الإنسانية بجندوبة: 493
- منوبة: 217
- تونس: 54 +217 :271 ؟
إجازة أساسية
- جندوبة: 0
- منوبة: 104
- تونس: 52 + 104 : 156 ؟

ولو جمعنا طلبة الفرنسية بإجازتيها الموجهين إلى كلية منوبة وكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس (427) لوجدنا عددهم يقل عن عدد الطلبة الموجهين إلى جندوبة والفرق كبير بين 493 و427.

الأنقليزية
إجازة تطبيقية
- جندوبة: 479
- منوبة: 0
- تونس: 57
إجازة أساسية
- جندوبة: 0
- منوبة: 103
- تونس: 52 + 103 : 155.

والنتيجة هي أنه وجه 155 +57: 212 إلى منوبة وكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس (إجازة الأنقليزية بشقيها) في حين وجه 479 إلى جندوبة، وشتّان بين الثرى الثريّا.

والسؤال البسيط والذي يُطرح بإلحاح هو هل يتوفر معهد عال حديث العهد على بنية تحتية أفضل ممّا هو موجود في كليات لها ثقلها وتاريخها؟ وهل يوجد عدد من الأساتذة كاف للتدريس في جندوبة؟ وماذا أعدّت الوزارة لمّا أقدمت على هذه المغامرة الخطيرة؟ وأيّ مبرّر منطقي لاتخاذ مثل هذا الإجراء؟

وزارة الإشراف تتبع سياسة قائمة على الانتقام والتشفي. لذا تواترت تجاوزاتها وكثرت عثراتها وتنوّعت إخفاقاتها.

4 – وزارة ثقلت موازينها:

من الثابت أنّ ما أتته وزارة الإشراف يمثل صفحة سوداء في تاريخ الجامعة التونسية لن تُمحى من ذاكرة الجامعيين وستظلّ أشبه بلعنة تلاحق كلّ مسؤول أذنب في حقّ الجامعة. ففي ظلّ هذه الوزارة عوقب أساتذة نقابيون ومناضلون تعسّفا (نور الدين الورتتاني، رشيد الشملي، الحجلاوي) وحُرم 250 أستاذا من إكمال أطروحة دكتوراه الدولة أو مناقشتها، وتمّ السعي إلى إخضاع الباحثين بالأقطاب التكنولوجية ببرج السدريّة للعمل بنظام الحصتين مثلهم مثل الأعوان الإداريين خلافا لما هو معمول به إلى حدّ الآن، وتمّ استجواب 35 مدرّسا باحثا. ولمّا رفض الأساتذة الباحثون هذا الإجراء تمّ "خصم أجرة يومي عمل لكلّ باحثي المركز الوطني للبحوث في علوم المواد بما في ذلك الأساتذة رؤساء المخابر" (انظر البيان النقابي حول مواصلة التعامل الزجري مع الباحثين الصّادر عن النيابة النقابية لمراكز البحث العلمي بالقطب التكنولوجي ببرج السدرية - سليمان في 19 جوان 2009)، وأصرّ أساتذة التاريخ والجغرافيا على رفض دمج شعبة التاريخ مع شعبة الجغرافيا. فهذا الإجراء الفوقي مضرّ بهم وبتكوين الطلبة. لذا امتنع رؤساء الأقسام عن توزيع طلبة السنة الأولى إلى فرق. وفي هذا الظّرف بالذات نجد الوزارة تتبجّح قائلة "شعبتا التاريخ والجغرافيا في ثوب جديد" (انظر جريدة "الصباح" بتاريخ 22 سبتمبر 2009 ص7).

لقد مكننا استعراض هذه التجاوزات من كشف الوضع المأسوي الذي تعيشه الجامعة التونسية في ظلّ هذه الوزارة التي عُرفت بتعنتها وتسلّطها. فقد ألغت الهيكل النقابي من قاموسها وخرقت القوانين التي سنتها وظلّت تخاطب الأساتذة عبر الصحف رافضة محاورة النقابة مباشرة. وممّا لاشكّ فيه أنّ الضرر الذي ألحقته قيادة الاتحاد بالعمل النقابي في الجامعة استغلّته الوزارة أيّما استغلال.

وعلى الجامعة العامة أن تدرك أنّ أداءها لم يرتق إلى مستوى التحدّيات التي تعيشها الجامعة، وأنّ تعويلها على قيادة نقابيّة فاسدة ومترهلة لن ينفعها، وأنّه بإمكانها تجنيد القاعدة الأستاذية المستعدة دوما للنضال بغية تحقيق مطالبها المشروعة. ذلك هو الرهان الناجح والقادر وحده على نفع الأساتذة ودفع مسيرة العمل النقابي في الجامعة.

علي بن صالح


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني