الصفحة الأساسية > البديل النقابي > قراءة في تقرير الاتحاد حول أزمة الصناديق الاجتماعية
قراءة في تقرير الاتحاد حول أزمة الصناديق الاجتماعية
تموز (يوليو) 2007

صدر بالعدد 920 من جريدة الشعب لسان حال الاتحاد العام التونسي للشغل ليوم السبت 2 جوان 2007 التقرير الذي قدّمه الأخ رضا بوزريبة الأمين العام المساعد للاتحاد المسؤول عن التغطية الاجتماعية والصحة والسلامة المهنية للهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل، ونحن في هذا السياق نشكر جريدة الشعب على نشر التقرير أولا ونشكر بدورنا كل من ساهم في إنجازه وفي مقدمتهم الأخ رضا بوزريبة ثانيا كما ننوه بالدعوة الكريمة الواردة بالتقرير لكل الاخوة لتقديم الاقتراحات والملاحظات التي قد تساعد على التقدم في المزيد من تملك مقومات هذا الملف الذي يستأثر باهتمام كل مكونات المجتمع المدني والحركة الديمقراطية والحقوقية. وتفاعلا مع فحوى التقرير والاستنتاجات التي خلصت إليها الدراسة التي أنجزها الاتحاد والتي ورد ذكرها في التقرير فإننا نود التقدم بالملاحظات التالية :

1 ـ مع تسليمنا بدقة التشخيص الذي ميّز مقاربة المنظمة الشغيلة لهذا الملف فإننا نلاحظ أنه لم يول اهتماما يذكر (أي التشخيص) لطبيعة الإطار القانوني الذي ينظم ولاية الطرف الحكومي على الصناديق الاجتماعية ولم يطرح التساؤل المشروع حول مشروعية استئثاره بضبط التوجهات العامة ووظيفة الصناديق الاجتماعية وطرق وتراتيب التصرف الإداري والمالي فضلا عن المسؤولية في العديد من مكامن الخلل (نسق دفع مساهمة الدولة للصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية / المسؤولية عن قصر مدة حق التتبع في مادة استرجاع الديون المتخلدة بذمة القطاع الخاص للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي / توظيف الصناديق الاجتماعية للزبونية السياسية ـ الاجتماعية / طبيعة سياسات توظيف المدخرات / توظيف إمكانيات الصناديق الاجتماعية في تهيئة عدة مؤسسات للتخصيص، الخ.) والحال أن الدولة لا تموّل نظام أنظمة الضمان الاجتماعي بل إن الصناديق الاجتماعية تساهم في تمويل ميزانية الدولة حيث بلغت دفوعات ومساهمات صناديق الضمان الاجتماعي 77500000د (انظر قانون المالية لسنة 2007 الرائد الرسمي عدد 103 بتاريخ 26 ديسمبر 2006) وينحصر دورها الفعلي في الاستخلاص والتحويل والإدارة بما لا يؤسس للتمتع بامتياز الولاية القانونية، مما خفف من درجة المسؤولية المباشرة للطرف الحكومي فضلا عن إضفائه على المسألة طابعا تقنيا (بل قل تقنويا) سيؤثر لاحقا على الأفق العام لاجتراح الحلول وبلورة الاقتراحات ويحصره ضمن المربع الحالي ووفق توازناته المعروفة لدى النقابيين المهتمين بالملف والمطلعين على خفاياه.

2 ـ لقد حال تجاهل مشروعية الولاية القانونية وطبيعتها التشريعية بما تنطوي عليه من ملابسات حال دون ربط الاتحاد العام التونسي للشغل توجهات إصلاح نظام التأمين على المرض بإصلاح نظام أنظمة الضمان الاجتماعي في نطاق المقاربة التضامنية ما حدا به إلى التركيز عند معالجة ملف التأمين على المرض على ضرورة إعادة النظر في الخارطة الصحية للبلاد والحال أنه ما من نقابي عاقل، كي لا نقول خبير مدقق، يعتقد في إمكانية تحويل مضامين ومحتويات أحكام قانون التأمين على المرض ـ والذي نثمن عاليا دور الاتحاد في الدفع بالاتجاه الإيجابي الذي انتحاه ـ إلى مكاسب في حياة الشغيلة التونسية في أوضاع قانونية ومالية وترتيبية كالتي يعيشها نظام أنظمة الضمان الاجتماعي ببلادنا من تفاقم في عجز الموازنة من خلال استمرار اتساع الفجوة بين المداخيل والمصاريف في ضوء المؤشرات الاقتصادية والمالية والنقدية التي يشهدها الاقتصاد التونسي فضلا عن الطبيعة المحافظة للمعالجة الحكومية لمصاعب ومعضلات المسألة الاجتماعية وفي مقدمتها أزمة الصناديق الاجتماعية يليها التعارض الحاد بين هياكل التكوين ومنظومة التشغيل ثم تدني مستوى الخدمات الاجتماعية وابتعادها عن الطموحات الوطنية وأخيرا حدة التباينات المجالية والاجتماعية المتجهة صوب المزيد من التفاقم.

3 ـ يعزو التقرير أسباب الأزمة التي تعيشها الصناديق الاجتماعية إلى الانعكاسات السلبية للاختيارات الاقتصادية الليبرالية للدولة وما نتج عنها من تراجع كبير في قدرة الاقتصاد الوطني على إحداث مواطن شغل جديدة وهو تفسير ينعقد حوله حاليا إجماع وطني في معظم المقاربات لدى أهل الاختصاص من الأكاديميين من رجال الاقتصاد (باستثناء الأصوات المحلية للبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية) ولدى مختلف تيارات اليسار التونسي إلا أن المفارقة أن مجمل التوجهات التي تميز الاختيارات الموغلة في الليبرالية التي تبنتها السلطة من خلال برنامج الإصلاح الهيكلي جويلية 1986 والذي ما كان بإمكانها الشروع في تطبيقه إلا بتفكيك وإعادة تركيب الاتحاد العام التونسي للشغل وعودة الدر إلى معدنه على حد تعبير الرئيس السابق يوم خطابه المشهود ببطحاء محمد علي هذه التوجهات القائمة على التخصيص (بدوافع إيديولوجية وسياسية ولا علاقة لها بالضرورة الاقتصادية المحلية) والاعتماد على التصدير (وفي الحقيقة تصدير عصارة اليد العاملة التونسية كامتياز نسبي) وتجاهل الطلب الداخلي في ضوء مجهرية المؤسسة الاقتصادية التونسية (ما يناهز 80 في المائة منها تشغل أقل من 10 عمال) وتجميد الأجور (بواسطة عقال المفاوضات الاجتماعية الثلاثية) ومرونة التشغيل (الفصل 4/6) وغض الطرف عمليا عن كل مظاهر هشاشة التشغيل (بمقدار إدانة المناولة في البيانات بمقدار تجاهل الأمر في الممارسة) لم نجد لها في واقعنا التونسي مركزية نقابية تناهضها عبر تنظيم الندوات والأيام الدراسية كمقدمات لصياغة محاور أولويات العمل النقابي وبناء المواقف النقابية وتطوير الأشكال النضالية المناسبة في علاقة بالسلطة والأعراف على أساس استخلاصاتها على قاعدة مصالح الشغالين وإنما ما لمسناه توافق بين المركزية والحكم على مجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة منذ سنة 1989. إن مناهضة التوجهات الاقتصادية والاجتماعية للحكم من زاوية التمسك بمصالح العمال التونسيين لا يعد في أعراف الحركة النقابية العالمية والمحلية دخولا في دائرة العمل السياسي لأن دوافع المناهضة وآفاقها لا تندرج ضمن التطلع للوصول للسلطة بقدر إصرارها على الذود عن المكاسب الاجتماعية للطبقة العاملة التونسية فضلا عن خلو ذمة العمال من المسؤولية على نتائج الاختيارات المتبعة باعتبار عدم مشاركتهم في صياغتها أو تطبيقها وإن موقف الإدانة لمظاهر ونتائج الأزمة في الصناديق الاجتماعية الذي ورد بالتقرير على إيجابيته يجب أن لا يحجب مسؤولية المنظمة في تزكية الأسباب أو على الأقل عدم الاحتجاج عليها لا الاحتجاج على من انتقدها خاصة خلال عقد التسعينات.

في معاني الحل :

تجدر الإشارة ونحن في معرض تناول معاني الحل إلى أن ملف الصناديق الاجتماعية وأزمة نظام أنظمة الضمان الاجتماعي ببلادنا تنتمي إلى الحقل العام سواء كان في مستوى العوامل أو المظاهر أو النتائج وبالتالي فإن من حق أحزاب المعارضة المستقلة والجمعيات العاملة في الحقل الاجتماعي والكفاءات الوطنية المطالبة بحوار وطني معمق حول مستقبل الضمان الاجتماعي وكسر احتكار السلطة وتفرّدها بهذا الملف خاصة وأنها المسؤولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا عما آلت إليه أوضاع الصناديق الاجتماعية من تدهور وعجز ومخاطر تبدّد المدّخرات. كما نود التأكيد على أن خطورة الأوضاع التي تمر بها الصناديق الاجتماعية تستلزم التحلي بأقصى درجات المسؤولية الوطنية والجرأة في الإصداع بالرأي وتحديد المسؤوليات في تردي الأوضاع.

تحميل الأزمة للمتسببين فيها :

من البديهي أن تقف سياسة الالتزام باملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي تعهدت بها الحكومة التونسية منذ أواسط الثمانينات والقاضية بتخصيص المؤسسات العمومية مع ما ينجم عن ذلك من تكلفة باهضة في تحميل الصناديق الاجتماعية تكاليف "تطهير المؤسسات العمومية المعدة للتخصيص" من حيث توجيه قسم من المدخرات لتمويل التطهير أولا وحرمان الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية من منخرطين جدد بالتخفيض في الانتدابات والترفيع في عدد الجرايات باللجوء للتقاعد قبل السن القانونية ثانيا، من البديهي إذن أن تنشط عوامل العجز في الموازنة من خلال التخفيض في الموارد والترفيع في المصاريف، كما أنه من البديهي أن تؤثر الزبونية السياسية ـ الاجتماعية عبر تمكين الطلبة والمفارقة المحرومة من النفقة والعجّز وكل ذوي الحاجيات الخاصة من مساعدة مالية على حساب الصناديق الاجتماعية في مقابل كسب الولاء السياسي للحكم وإظهاره بمظهر الداعم لهذه الفئات من البديهي أن تثقل كاهل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بتوسيع دائرة إنفاقه دون مراعاة لتراجع الموارد، كما أنه من البديهي أن لا تنكشف هذه السياسة وذلك نظرا لاحتكار الحكم للحياة السياسية وخاصة الإعلام العمومي والخاص وغياب القضاء المستقل كي يكفل حقوق وحريات كل من ينقد هذه السياسات وينشرها أمام الرأي العام الوطني، كما أن تجاهل معركة الحريات الفردية والعامة رغم معاينة الانتهاكات واستشراء الفساد قد ساهم بدوره في مزيد تدهور أوضاع الصناديق الاجتماعية، وبذلك فإن المعنى الأول للحل يتمثل في كشف الأسباب الحقيقية التي أوصلت الصناديق الاجتماعية إلى حافة الإفلاس من حيث تسلط الجهاز الحكومي على الصناديق واستفراده بالتصرف في الموارد والمصاريف منذ أواسط الثمانينات على الأقل وهو تاريخ بداية بروز اتجاهات الانخرام والعجز في الموازنة وتحميل المسؤولية السياسية للمتسببين فيها وهو ما يؤسس لشرعية المطالبة بسن قانون يحد من تسلط الجهاز الحكومي على الصناديق ويكفل لمجالس إداراتها الممثلة تمثيلا حقيقيا الشروط الضرورية القانونية والترتيبية والمالية للتسيير الرشيد فضلا عن إلزام الحكومة بتخصيص منحة سنوية من عائدات مداخيل الضريبة على القيمة المضافة للصناديق الاجتماعية إلا أن الظرفية السياسية الحالية المتميزة بالانغلاق والجمود السياسي لا تمكن الحركة النقابية والديمقراطية والحقوقية من فرض هذه الإصلاحات ما يتطلب قدرا كبيرا من التقارب والعمل المشترك وتنشيط عوامل وعناصر التجميع وتبادل الرأي والتشاور حيال واقع وآفاق أنظمة الضمان الاجتماعي ببلادنا، وإن القيادة النقابية التي توصلت اليوم لتشخيص متقدم نسبيا لمدعوة لتعميق نظرتها وتخطي جدار الفصل بين النقابي والسياسي حيث لا مندوحة من الاعتراف بأن أزمة نظام أنظمة الضمان الاجتماعي ببلادنا هي وجه من وجوه أزمة النموذج الاجتماعي التونسي سليل دولة الاستقلال الذي فقد القدرة على ضمان الأمن الاجتماعي لكل طبقات الشعب التونسي في إطار الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القائمة وإن توفر الشروط الاقتصادية والمالية لإصلاح حقيقي لمنظومة الضمان الاجتماعي (ارتفاع وتيرة الاستثمار العمومي والخاص) أصبح مرتهنا بالضرورة بالإصلاح السياسي والحكم الرشيد وعبثا يحاول البعض إيهام الرأي العام بإمكانية الإصلاح الحقيقي للضمان الاجتماعي في ظل القالب السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن.

محمد الهادي حمدة
نفطة


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني