الصفحة الأساسية > البديل الوطني > قفصة أو "كولومبيا الجديدة"
قفصة أو "كولومبيا الجديدة"
15 نيسان (أبريل) 2010

بقلم عمّار عمروسيّة

يبدو أنّ الصعوبات الطبيعيّة (الجفاف، التصحّر...) والجور الحكومي (غياب مشاريع التنمية، اشتداد القبضة الأمنيّة...) يقفان وراء ولع قطاعات عريضة من الأهالي بإطلاق تسميات مختلفة لمدينتهم: فقفصة في مدارج كرة القدم وتحديدا عند مشجّعي القوافل الرياضيّة مرتبطة على الدّوام بأهازيج وشعارات تدور حول "الفلوجة" وصمودها. وهي في الحقل السياسي والنقابي المعارض لنظام الحكم عادة ما ارتبطت بمدن منكوبة اقتصاديا وسياسيّا واجتماعيّا.فهي أحيانا "مقديشو" وأحيانا أخرى "دارفور"، وهي "غزّة" مثلما ورد في الشعار "غزة قفصة رمز العزّة" الأكثر ترديدا في المسيرات الشعبيّة المعادية للعدوان الهمجي على غزّة سنة 2008.

وهي في المدّة الأخيرة "كولومبيا" في إشارة إلى التفشّي الواسع لاستعمال وترويج مادّة "الزطلة" المخدّرة.

الزّطلة تُعوّض سموما أخرى:

ما من شكّ في أنّ صعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتفشّي البطالة في جهة خيّرت السّلطة أن يكون حضورها الأبرز متمثّلا في تكثيف الأجهزة البوليسيّة وتنويعها، قد مثّلت التّربة الخصبة لتفشّي مظاهر الإدمان على المشروبات الكحوليّة حتّى أنّ كبار المتنفّذين ماليّا وسياسيّا خيّروا على الدّوام الاستثمار المالي في قطاع الخمور وتحديدا في تركيز نزل سياحيّة وحانات ونقاط بيع الخمور بالجملة والتفصيل. ومعلوم أنّ مجمل هذه الأنشطة وقع تركيزها بين أيادي رجالات معروفين بولائهم التّام لنظام الحكم ومراكمة الثروات الطّائلة وكره الجهة وأهاليها. ومثل كلّ نشاط تجاري وفير الأرباح اشتدت المنافسة بين العاملين فيه وأفضت في النهاية إلى استئثار مجموعة قليلة تعدّ على أصابع اليد بالجهة.

وبالتّوازي مع المشروبات الكحوليّة المتعارف عليها ابتدع بعض العاطلين والمهمّشين خصوصا بواحات قفصة المدينة والقطار ولالة أنواعا محليّة من السّوائل المُسكّرة زهيدة التّكلفة لعلّ أبرزهما على الإطلاق "القشّوم" و"القرابّا" الذين قطعا مع مادّة "الكحول للشعول" ومشروب "القوارص". ومعلوم أنّ هذه المشروبات ألحقت أضرارا جسيمة بمتناوليها حتّى أنّ شريحة واسعة منهم فارقت الحياة في سنّ مبكّرة.

ويبدو أنّ السنوات الماضية قد حملت آفة جديدة هي بطبيعة الحال "الزطلة" التي بدأت في التسلّل باحتشام في دوائر ضيّقة منذ بداية التّسعينات، وانتهت في السنوات القليلة الماضية وصولا إلى أيّامنا هذه إلى الحضور القويّ بالنّظر لاكتساحها شرائح جديدة فيها الطلبة والتلاميذ والمعطّلين وحتّى الموظفين. ولعلّ تعدّد الإيقافات والمحاكمات في صفوف المُقبلين علها استهلاكا وترويجا أفضل دليل على قولنا. فجلسات المحاكم بقفصة يكاد من شبه المستحيل عدم تسجيل حضور قضايا الزطلة ضمن ملفّاتها ممّا ضاعف من عدد المساجين ومن الشباب خصوصا.

في مسؤوليّة السّلطة:

تكاثرت في الأسابيع الأخيرة الحملات الأمنيّة وتعدّدت الإيقافات والمحاكمات في صفوف الشباب الذين تزعم الدوائر البوليسيّة إمّا تعاطيهم تلك المادّة أو ترويجها ممّا أثار قلقا شعبيّا واسعا من جهة أمام الأعداد الهائلة من المعتقلين ومن جهة أخرى أمام الفشل الأمني في إيقاف انتشار هذه الآفة التي تجد ضحاياها في الأحياء الشعبيّة الفقيرة وفي الأوساط الراقية على حدّ السّواء.

وبالرّغم من قسوة الأحكام الصّادرة في حقّ العشرات من المضنون فيهم وعلى الأخصّ المروّجين، إلّا أنّ تدفّق هذه المادّة على الجهة مستمرّ. والملفت للانتباه وفق مصادر مقرّبة من الجهاز القضائي هو خلوّ أغلب ملفّات المُدانين بسنوات طويلة من وجود كمّيات ذات بال فالمحجوز يُقدّر بالغرامات، الأمر الذي يفتح الباب واسعا أمام أسئلة كثيرة يردّدها أهالي المتضرّرين. فقد قال لنا أحدهم: "أصرت المحكمة اليوم ضدّ ابني وبعض أصدقاءه حكما تجاوز العشرة سنوات ضدّ أغلبهم في حين أنّ المحجوز لم يتجاوز 28 غراما" ويواصل "هل هذه الكميّة دليل على وجود عصابة مروّجين؟ وهل ابني الذي يأخذ مصروفه منّي بائع مخدّرات؟". وتضيف امرأة أخرى: "ابني تعرّض لتعذيب وحشي للاعتراف بأعمال لا يعلم عنها شيئا" وأضافت "هناك رؤوس كبيرة وراء الزطلة فهل يقدر أحد على ملاحقتها؟".

مثل هذه التساؤلات تحمل الكثير من الاتهامات الصريحة للحلّ الأمني المتوخّى من قبل السّلطة وبالتّحديد لفرق مقاومة هذه الآفة. فمثلما هو معلوم بعثت السّلطة فرقة وطنيّة لمكافحة المخدّرات تفرّعت عنها فرق جهويّة لها الكثير من الإمكانيات الماديّة تمارس أعمالها ضمن تشريعات قانونيّة شديدة القسوة منذ مطلع السّبعينات. علما وأنّها كثيرا ما تجاوزت صلاحيّاتها القانونيّة أثناء إيقاف المضنون فيهم (مداهمات عشوائيّة، تعذيب...) ممّا جعل الكثيرين يعمدون إلى تشبيه عمل هذه الفرق بمجموعات أمن الدولة وفرق الإرشاد التي لا تتقيّد بضوابط قانونيّة وأخلاقيّة مع معارضي النّظام.

فبعد سنوات من تركيز الفرقة الجهويّة لمكافحة المخدرات بقفصة انتشرت الزطلة كما لم يحدث من قبل وأضحت خطورتها أكثر من ذي قبل. ذلك أنّ الجهة حتّى أواخر التسعينات وبداية الألفيّة الجديدة كانت بالأساس نقطة عبور الزطلة من الجزائر إلى ليبيا، أمّا الآن فالجهة وإن حافظت على دورها الأوّل فإنّها تحوّلت إلى سوق محليّة للاتجار والاستهلاك الذي أضحى في متناول كلّ من يريد وبمبالغ زهيدة لا تتجاوز أحيانا الـ5 دنانير وهو ما يُفسّر اقتحام هذه المادّة الفضاءات المدرسيّة والجامعيّة وأحياء الفقر الكثيرة.

ومن المفارقات العجيبة أنّ حملات الإيقاف والملاحقة ضمن ما يُسمّونه "شبكات التّوزيع" كثيرا ما تنتهي عند أناس بسطاء يذهبون ضحايا التشدّد القضائي في حين أنّ الأوساط المعنيّة من قريب وبعيد تتحدّث عن رؤوس كبيرة يبدو أنّ لها حصانات كبرى فيما تقوم به. نفس هذه الأوساط تتحدّث عن شبكات منظّمة في الداخل والخارج (الجزائر) وتزعم أنّ هذه الشبكات أصبح لها تجربة كبيرة في التمويه وإخفاء أنشطتها وتحصين مسالك التهريب والترويج والعناصر الأساسيّة التي تُؤمّن مجمل الأنشطة، بما في ذلك تخصّص البعض في تبييض الأموال من خلال إقامة مشاريع متعدّدة من المؤكد أنّ البعض منها يديرها أشخاص معروفين بسوابقهم العدليّة في مجال الاتجار في المخدّرات. أكثر من ذلك فإنّ أهمّ مقهى بمدينة قفصة ويرتاده كبار المسؤولين بالجهة وأثرياءها يُشار له بإصبع الاتهام.

ومهما يكن من أمر فإنّ السّؤال الأكبر يتمثّل فيما يلي: كيف يمكن لجهة تعرف حصارا أمنيّا مثل قفصة خصوصا منذ اندلاع انتفاضة الحوض المنجمي أن تبقى مرتعا للممنوعات مثل الزطلة؟


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني