الصفحة الأساسية > البديل النقابي > لمصلحة من الترقب والانتظار؟
لمصلحة من الترقب والانتظار؟
19 تشرين الأول (أكتوبر) 2006

تعيش الساحة النقابية في تونس هذه الأيام على وقع المؤتمر الوطني القادم للاتحاد العام التونسي للشغل الذي ستحتضن مدينة المنستير أشغاله أيام 14 و15 و16 ديسمبر المقبل.

لكن ورغم أهمية الحدث فإن الساحة النقابية تشهد حالة من الترقب الثقيل في غياب شبه تام للحركية المعهودة التي تشهدها في مثل هذه الظروف قبيل حدث بحجم المؤتمر العام. فما مردّ ذلك يا ترى؟

من الأكيد أن ظروف شهر رمضان وما تفرضه من نسق خاص ومن اضطراب على سير الحياة العامة وعلى حركة النشاط النقابي وكل الأنشطة عامة تفسر إلى حد بعيد حالة الانتظاريّة و"الكساد" غير أن ذلك لا يمكن وحده أن يفسر هذه الحالة غير العادية ولا بد أن هناك أسباب أخرى أعمق وأهم بكثير فما هي؟

في الحقيقة كثير من الأطراف لها مصلحة في أن يبقى الإعداد للمؤتمر بمثل هذا البرود حتى يكون مناسبة عرضية وشكلية ولا يدخل على الحياة النقابية أي تغيير من شأنه أن يحرك البركة الآنسة عسى أن يستمر الاتحاد على حاله وفي موقعه ووضعه الراهن، جسم ضخم من دون فاعلية وتأثير في مجريات الحياة العامة السياسية والاجتماعية.

أول هذه الأطراف هي السلطة لها مصلحة في أن يكون المؤتمر مجرد محطة شكلية وحدثا روتينيا حتى يبقى الاتحاد منظمة مهنية بالمعنى المبتذل للكلمة أي منظمة منكفئة على ذاتها منصرفة للمشاكل الاجتماعية اليومية بعد أن أرست نظام تفاوض اجتماعي يشمل أبرز القضايا (المقدرة الشرائية والجوانب الترتيبية التشريعية) مرة كل ثلاث سنوات ينظر فيها ويقر كل مرة وبصورة فوقية دورة جديدة من السلم الاجتماعية لتبقى المنظمة منغمسة في طاحونة الشيء المعتاد وفي أحسن الأحوال تناوش في مشاكل قطاعية جزئية لا تسبب أدنى قلق للدولة والأعراف في تنفيذ مخططاتهم وتعدياهم على المقدرة الشرائية (الزيادات المتتالية في الأسعار...) وعلى حق الشغل (غلق باب الانتداب والتشغيل وحملات الطرد وغلق المؤسسات) وعلى ظروف العمل (دهورة ظروف العمل والترفيع في وتائر الاستغلال والتراجع في المكاسب) وعلى حق الشغل (تعطيل نشاط النقابات ومحاصرة النقابيين). فالسلطة في حاجة لأن لا يدخل ضمن اهتمامات النقابيين تعميق النقاش حول هذه القضايا وبلورة البدائل الحقيقية التي ينبغي أن تدرج ضمن جدول أعمال المؤتمر وتأخذ حظها في نقاشاته. لذلك لا يسعها اليوم إلا أن تشجع التغاضي عن هذه المسائل والتلهي بمسائل أخرى جانبية (انتخابية خاصة) وإثارة مواضيع لا صلة لها بالواقع أو هي غير ذات أهمية مثل البحث فيما إذا كان جراد قد أصبح يساريا أم لا (انظر مثلا جريدة الحدث بتاريخ 11 إلى 17 أكتوبر 2006).

غير أنه لا بد من القول أيضا أنه إذا كانت السلطة تحرص على أن يظل الإعداد للمؤتمر بمثل هذه الطريقة للأسباب المبينة فإنها في الحقيقة ليست المحددة في ذلك لولا الدور الذي تلعبه الأطراف النقابية وفي مقدمتها القيادة النقابية، الأمين العام والمكتب التنفيذي، التي تحرص هي الأخرى على أن يبقى النقابيون على هامش الإعداد للمؤتمر. وحتى إن سمحت لهم بهامش ففي إطار لجان إعداد اللوائح على مستوى مركزي أو جهوي (مسامرات رمضان لنقاش مشاريع اللوائح في الاتحادات الجهوية وزيارات الأمين العام الفجئية لتأطيرها). ومعلوم أن مثل هذه النقاشات التي تتخذ من القيادة دليلا على ديمقراطية عملية التحضير للمؤتمر لا تؤثر في شيء في ما يحبك خلف الستار من طبخات لكيفية سير أشغاله وما سيترتب عنه من قرارات وتوصيات.

إن القيادة ومعها شريحة واسعة من النقابيين، كل الذين تربوا على المنطق البيروقراطي ولم يعد يهمهم من العمل النقابي سوى المواقع وامتيازاتها، لهم مصلحة في أن يبقى الإعداد للمؤتمر حكرا على الكواليس و"القعدات" المغلقة والمفاهمات الفوقية والجانبية. أما الجدل والحوار الصريح والعلني والمبدئي والواضح حول أمهات القضايا المطروحة لتحديث العمل النقابي وتحسين أداء المنظمة وتفعيل دورها في مواجهة المآسي التي يتعرض العمال فهو أمر محرج وغير محبذ خشية "حرق" الأوراق وكشف الحسابات والنوايا بصورة مبكرة.

وجه الغرابة الكبير هو لماذا انساق مناضلو وتيارات اليسار النقابي بكل حساسياته الفكرية والتنظيمية وراء هذه المساعي واقتعدوا هم الآخرون موقع الفرجة والانتظار؟ وإذا كان للسلطة والقيادة الحالية ولحواشيها ولكل الطامعين في رضائهما أو رضاء واحدة منهما على الأقل وبالتالي في مقعد في المكتب التنفيذي المقبل مبرر لتكتيكهما، بماذا يبرر سلوك اليسار الذي تعود أن يكون سباقا لفتح النقاشات وطرح قضايا الشغالين وتصورات التجاوز والمعالجات بصرف النظر عما إذا كانت مصيبة أو قافزة على الواقع؟ هل فقط لأن الساحة تفتقد لمنابر حوار، هيئات وجرائد الخ... ؟ ولكن حتى وإن كان ذلك صحيحا فإن الساحة كانت دوما فاقدة لهذه المنابر وكان اليسار دوما مقصيا من فضاءات التعبير القليلة التي ظهرت في بعض الأحيان ولكن ذلك لم يمنعه من أن يلعب دورا متميزا – نسبيا وقياسا بغيره من القوى – في طرح القضايا الأساسية والضغط من أجل تطوير أرضية العمل النقابي في تونس.

فشعارات الديمقراطية والاستقلالية والنضالية التي شكلت على امتداد أكثر من 20 سنة أرضية صراع لتطوير مفاهيم العمل النقابي هي من إبداعات اليسار ويعود له الفضل في إرسائها كمرجعية نقابية وقاعدة للفرز وتكبد في سبيل ذلك التضحيات الجسام (الملاحقات والمحاكمات والطرد من العمل والتجريد من المسؤولية ومن الانخراط النقابي...)

فاليسار النقابي هو الذي أعطى للنضال ضد التنصيب دفاعا على الشرعية ولرفع الاستثناء في مؤتمر قفصة ولمقاومة حملات إقصاء الخصوم قبيل أزمة 85 ولمناهضة السلم الاجتماعية سنة 84 وللوقوف في وجه الشرفاء ولوقف زحف البدائل الظلامية ولصراع اسماعيل السحباني فيما كان الآخرون – وهم أدرى بذلك – يتوددون له ويشجعونه ويحملونه على الأعناق ويدافعون عنه برا وبحرا وجوا، اليسار النقابي بكل حساسياته الفكرية والتنظيمية هو الذي أعطى لكل هذه النضالات وهجها ومغزاها فلماذا يكتفي اليوم بالفرجة وتعاليق المقاهي الهامشية؟

هل سقط هو الآخر في فخ انتظار مّنة من الأمين العام والقيادة طمعا في مقعد في المكتب التنفيذي القادم؟

نتمنى أن يكون ظننا مجرد ظن وأن ينهض اليسار من غفوته وأن يتحمل مسؤولياته بمناسبة هذا المؤتمر وأن يضرب مع التاريخ الذي منحه فرصة كبرى موعدا لأن التاريخ لن يغفر له إضاعتها لأي اعتبار كان.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني