الصفحة الأساسية > البديل الوطني > مـاء آسـن
مـاء آسـن
27 آذار (مارس) 2010

الوطن بركة ماء آسن، ودماؤنا تلوّثت بحبر الجرائد القذرة، بطوننا تسمّمت بالموائد العفنة.. هل كان عليّ أن أكون ركيكا حتى أصف حالنا.. نحن نسابق لغة تمتـدّ كوباء قاتل.. يرغموننا أن نرتشف من مائهم الفاسد.. الهواء بالغبار ينثر الموت فوق رؤوسنا وعلينا أن نصبر، والبحر يفتح جحيمه لشباب يحلم أن يغنم.. قطعة خشب تكفي للوصول حيث لا وطن، وربّما أقلّ منها ستكون تابوته المزيّن المحمول على أكتاف الحالمين العابثين الخائبين..

أتذكّر عمرا راح بلا تجريد جارح أو تعذيب صارخ.. تذكّرت وما تخيّلت أن تصبح البلاد رمادا للرجال وحنينا للمستنقعات والبرك الضحلة.. وبكاء وعويلا مجنونا.. خمسون سنة ونحن نندب الحياة بوهج شديد والحصاد يحترق قبل نضوجه، وشبابنا يعلّب قبل بلوغه.. خمسون سنة لم نغث فيها حتى ندّخر للسنوات العجاف.. هيه والبقرات السمان يأكلهن العجاف.. يأكلن الأخضر واليابس ونحن عجاف خفاف في موازين السفهاء والأغبياء..

الرّاعي والرعيّة.. والمرعى يكتظ بالأعشاب المسمومة.. خمسون سنة من المواطنة المثيرة للضحك الهستيري.. وأن تكتب عن مرعاك الكثير من الحكايات والخرافات وتتوهّم أنّـك ستحيى أكثر في جنّة الأغبياء والأشقياء.. الوطن هناك يمـتدّ طيفا والإنسان وهم كاذب.. أنت وأنا بلا معنى.. والمعنى لا يمتلكه الذين سكبوا الزيت على الماء، ولكم كذبوا علينا.. كم كذبوا حين توهّمنا أن المرعى للرعية وأنّ الوطن للجميع والقطيع.. حسبي الله نعم المولى ونعم السّميع..

الفقر هواؤنا اليومي... قالوا لنا الفقر هو قدر، كدنا نقتنع أنّ الفقر قدر لكل البشر وعلينا أن نشمّـر سراويلنا وننحت بقايانا من أوساخنا وقاذوراتنا اليوميّة.. الوطن نتن بما رشح عن مجالسه بمداولاته ونقاشاته.. أيّها السّادة أجهدناكم.. أتعبناكم.. أزعجناكم وكدنا نكتم أنفاسنا خوفا على راحتكم وأنتم تجتمعون لترسموا خريطة الوطن وتقسّموها بينكم.. لا تغضبوا.. لا تغضبوا من غابت حصّته فجسدي يسدّ الحاجة من بقايا العبيد والرعيّة.. لا تغضبوا الوطن للاستئجار فتداولوا على الغنيمة..

خمسون سنة ونحن نكتب ولم نتعب، خمسون سنة ونحن ندخل لنخرج، خمسون سنة من السقوط المدوّي للنخيل.. ليس لدينا جدار نسند عليه ظهورنا التي ألهبتها السياط الفاجرة، والحبال الفارطة من مقصلة الإعدام.. ولكم حلمت بالربيع حين امتدّ هذا الخريف منذ الأزل يرسمه شيطان أهوج، من نصّبه علينا وصيّا أبديّا ينخر أمعاءنا ويملؤها ترابا ويعمّرنا خرابا.. أنا لا أثق في حربه للنّوى وسلمه للهوى، فكيف وقد جنح قوّادوه نحو أيتامنا يجوّعونهم ويشرّدونهم..

اليتم يشرّدنا بين الحانة والزّوايا، كلّ في سكرته يسبح في هواه، الوطن لا يحتاج خمرة الحلاّج ولا خمرة أبي نوّاس وبشّار.. الوطن بلا جسور نحو القادم.. نهيم على وجوهنا بلا أمل والحلم تحوّل كابوسا بين مفترق الطرقات التي توهّمناها بلا عثرات أو سقطـات.. تائهون، ضائعون، شاردون مشرّدين.. لكنّنـا نكابر عجزنا ونرتمي في أحضان العهر والقهر وندّعي علم السّابقين واللاحقين..

الحزب، الحرب، الحزن.. ما أقرب المفردات من بعضها وقد تجانس فينا الحزن بالحرب في الحزب، ولكنّنا نبحث عن مفردات تكفي لتوصيف مجاعتنا ورعبنا من شيطان رسمناه بأنفسنا ونّصبنـاه مرشدنا وهادينا إلى الوحشة والغربة والضياع.. خذ بيدي رفيقي، مذ خمسين سنة وأنا أتحـسّس طريقي في ظلمة المتـاع والجياع، أتحسّس أنفاس المساجين وهم يلفظون ما تبقّى من زهرة العمر.. وغاب عن التجانس الحب.. نحن لا نعرف كيف نحبّ ونعشق.. قتلوا فينا الحب بحربهم..

في الرديف، تلك المدينة الملعونة، يحدّثني أبي أنّ الرّاية لها عمرا أطول من أعمار حامليها، وأنّهم حتما راحلون وتاركوها مثلما تركهم أسيادهم قبل خمسين سنة.. وخمسون سنة والرّاية ترفرف ولم تطرد ذباب المزابل والقمامة، وما حجبت عن أعدائنا عوراتنا، تكشّفنا.. وما تقشّفنا.. ومـا أذهبت عنّـا حرّ الصيف ولهيبه.. تمضي السنون كالجنون، والبؤس يوزّع بالطابور في وطني، جـوع وخضوع ونحن نجلد ذواتنا ونبحث عن أخطائنا وكوارثنا..

الشهداء أكـرم منّا جميعا، لم أشعر بمعنى هذه الجملة إلا عندما لامست أناملي جثمان الحفناوي مغزاوي، ونحن نحمله على أكتافنا نحو قبره الأخير.. ويلي على نفسي.. ويلي على وطني يشرب من دمي ولا يساويه، في سجني تخيّلتني أحمل بعده عبد الخالق عميدي بعد أن حمل الرصاصة في خصره خمسون يوما.. أنا لا أحتاج ذاكرتي كثيرا لأستعرض قائمة الشهداء.. الجرح أكبر منّي ومنّا، وأشـرف منهم جميعـا.. هــل كنّا نحتاج كــلّ هذا الدم لنرتوي من جموحنا وعنفنا الوحشيّ..

المشهد لم يكتمل لكنّه ينذر بالفضيحة.. والدم بين أرجلنا يسيل قمعا وبطشا وعطشا.. كيف لي أن أحيى بينكم حاملا لوائي وحزني.. أنا رجل مهزوم بما أرى في عيون أطفالنا، والحيرة تقتلع البسمة من الصبايا وهنّ يهجرن المرايا.. ما لهذا الجمال من فتنة سوى الوجوم على شباب ينضح بالخمر والميسر والعثرات الفالتة من مصاحفنا وبياناتنا الرّسمية والعرفيّة.. كتابك خـرابك، كتابك عذابك...

خطب الخطيب، كم خطب ونثر الحروف فوق رؤوسنا كالأسبرين.. لكنّ صداعا استفحل بنـا كالورم الخبيث وهو يضحك من عقولنا ويسخر من أعذارنا وأوهامنا البائسة.. خطب الخطيب وفي جعبته الكثير من أحلامنا وأوهامنا.. صفّق المهرّجون وضحكوا.. كم ضحكوا من بؤسي ومن حزني ومن جوعي للكلمات الشاردة من معاجم السّفلة وقطّاع الطرق.. كم ضحكوا منّي ومن جهلي..

خمسون سنة.. فشلت مرّة في العدّ وأنا أبحث في وطني عن عود الندّ.. خمسون.. السنة أوسع من أمالهم، والعمر أضيق من تجاربهم، الشيطان يعيش ألف مرّة لكنّ هذا الشعب لا يعرف كيف يعيد الكــرّة.. خمسون.. ونعجتي جاوزت الخمسون، ضرعها يابس شاحب لا يدرّ لبنا أو خمرا.. والمرعى يباب.. والسّماء كالحة لا تنذر بالمطر.. ولن تمطر.. لن تمطر..

البركة ستتعفّن أكـثر فأكثر...

عبيد خليفي
باحث في الفكر العربي الإسلامي
وسجين الحوض المنجمي

"الطريق الجديد" عدد 173 في 27 مارس 2010


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني