الصفحة الأساسية > البديل الوطني > ملفّ الحوض المنجمي:الجرح المفتوح
ملفّ الحوض المنجمي:الجرح المفتوح
18 آذار (مارس) 2010

ما أن تمّ الإفراج عن المناضل "عدنان الحاجي" ورفاقه حتى ساد اعتقاد خاطئ وسط قطاعات واسعة من الحركة الديمقراطية في الداخل والخارج.هذا الاعتقاد تمثّل في حديث البعض إمّا بصفة واضحة أو مُبطّنة عن طيّ هذا الملف ممّا أسهم في إضعاف الاهتمام بهذه القضيّة وضحاياها الكُثر وسهّل الديماغوجيا الرسمية التي طالما روّجت للنجاح الحكومي في معالجة تلك الأزمة وهو إدّعاء يُجانب الحقيقة للأسباب التالية:

1/ الحرية الملغومة

مثـّل تسريح المناضل عدنان الحاجي ورفاقه يوم 04 نوفمبر الماضي مكسبا مهمّا للمعتقلين وأسرهم ولمجمل الحركة الديمقراطية. غير أنّ هذا القرار على أهميته لم يرتق بالمرّة ليكون حتى خطوة أولى نحو المعالجة الجديّة لقضيّة الحوض المنجمي. فالتسريح تمّ وفق ما يُعرف بآلية "السراح الشرطي" الذي يُبقي على مصادرة الحقوق السياسيّة والمدنيّة للمنتفعين به إضافة إلى الإمكانيات القانونية التي تُخوّل للجهة التي أصدرت ذلك القرار التراجع عنه متى عنّ لها ذلك.وعليه فإنّ حرية المعتقلين من الممكن أن تكون وقتيّة ومُرتهنة ليس فقط بالقرار السياسي للمتنفذين وإنّما لبعض الدوائر الأمنيّة المتهوّرة والمتشنّجة، علما بأنّ أبرز الوجوه المُسرّحة تعاني من مراقبة بوليسية لصيقة تطال كلّ حركاتهم وسكناتهم "وتقتحم التفاصيل البسيطة من حياتهم" على حدّ تعبير أحدهم. والأهمّ من ذلك أن لا أحد منهم عاد إلى شغله السابق بالرغم من الوعود الكثيرة التي أطلقتها جهات عديدة وعلى الأخصّ البيروقراطيّة النقابية ممثلة في أمينها العام "عبد السلام جراد" الذي دفعته الأوضاع في مرحلة متأخّرة من سحق الحركة الاجتماعية إلى الالتحاق بصفوف المدافعين عن ضحايا القمع النوفمبري. وكالعادة حرصت القيادة النقابية كلّ الحرص على أن تكون مساندتها بطرق دبلوماسية لا تُغضب نظام الحكم مع التّصريح سرّا وعلنا على أنّ وقوفها ذلك كان حاسما في قرار الإفراج.

2/ دفعات جديدة في السجون

يعرف الجميع أنّ العشرات من المحالين في قضايا الحوض المنجمي تحصّنوا بالفرار فكان أن صدرت في شأنهم أحكام قاسية وصلت للبعض حدّ العشر سنوات مع النفاذ العاجل. علما أنّ جلّ من تواروا هم من الشباب المعدومي التجربة السياسية وحتى النقابية ممّا يُقيم الدليل على انعدام الثقة الشعبية في جهازي البوليس والقضاء. كما يعلم الجميع أنّ عددا من هؤلاء الشبان سارع بتقديم اعتراضات أياما قليلة بعد خروج عدنان الحاجي ورفاقه من السجن اعتقادا منهم أنّ حريتهم مضمونة فكان مصيرهم الإيداع بالسجن المدني بقفصة حيث مازالوا يقبعون في ظروف جدّ سيّئة وهو ذات المصير الذي انتهى إليه "حسن بن عبد الله" ومن الممكن أن يصل إليه الصحفي "الفاهم بوكدّوس" في الأيام القليلة القادمة. نعم، خرجت مجموعة من السجون وفي وقت قياسي عوّضهم ضحايا جدد وبعد هذا يتحدّثون عن انفراج. فالملفّ القضائي المتّصل بانتفاضة الحوض المنجمي مازال مفتوحا وفق تصميم رسمي على الاستمرار في التنكيل بالمحالين والانتقام من أسرهم.

3/ مسؤولون فوق المحاسبة

بعد قمع الحركة الإحتجاجيّة وفي صائفة 2008 أطلّ رئيس الدولة ليلقي كلمة تناول فيها الاحتجاجات المذكورة ولعلّ أوّل ما شدّ الانتباه هو إقراره بأنّ نتائج مناظرة شركة فسفاط قفصة مثلت شرارة تلك الاحتجاجات بالنظر إلى خيبة الأمل التي انتابت البعض والفساد الذي شاب نتائجها. وهو أمر عدّه الكثيرون وقتها بداية لتصحيح الانحرافات في المعالجة الحكوميّة إلاّ أنّ شيئا من ذلك لم يحدث. فقول بن علي بالفساد الذي ميّز الإعلان عن النتائج كان بالضرورة يقتضي تحديد المُفسد والمفسدين وهو ما لم يقع وقتها ولا بعدها. كما أنّ الإقرار بـ"الفساد" يفترض المحاسبة لمن أفسدوا وهو ما لم يقع حتى يومنا هذا. على النقيض من ذلك فقد تمّت ترقية بعض المسؤولين عن الكارثة وعلى الأخصّ العناصر الأكثر شراسة وهمجيّة في الجهاز البوليسي مثلما هو الحال بالنسبة لمدير إقليم الأمن سامي اليحياوي الذي نُقل إلى شرم الشيخ وسيء الذكر محمّد اليوسفي الذي قفز من رئيس فرقة إرشاد إلى رئيس منطقة قصر هلال. وفي كلمة إمّا حافظ المفسدون على مواقعهم (معتمد الرديف، عمارة العباسي، رئيس منطقة شرطة قفصة...) وإمّا تمّ تحريكهم في وظائف جديدة (معتمدي الجهة...) والحساب والتنكيل طال ولازال الأبرياء وطالبي الحقوق.

4/ السلطة تتحايل على المطالب

أشرف رئيس الدولة في صائفة 2008 على مجلس جهوي للتنمية حول جهة قفصة خصّص لتدارس الأوضاع وانتهى مثلما هو معلوم إلى اتخاذ سيل من الإجراءات والتدابير المتّصلة مثلما قيل بـ"النهوض بالتنمية بجهة قفصة". وبقطع النظر عن صواب تلك التدابير من عدمها فإنّها مثلت تأكيدا على شرعيّة مطالب الحركة الإحتجاجية ممّا كان يستوجب حينها إخلاء سبيل كلّ المعتقلين والتعويض المادي والمعنوي لكلّ المتضرّرين مع محاسبة المسؤولين عن تلك الأوضاع، لكن شيئا من ذلك لم يحصل وهو أمر منطقي لأنّ ثقافة المحاسبة لا يمكن أن تصل لنظام يقوم على الفساد والاستبداد.

ولعلّ إلقاء نظرة خاطفة على أوضاع الجهة بعد كلّ هذا الوقت من اتخاذ تلك "التدابير" يجعل المرء يقف على حقيقة مفزعة يمكن دون مبالغة حوصلتها في القول:"دار لقمان على حالها". فالقضايا التي حرّكت الأهالي ما زالت قائمة وهي في تفاقم مستمرّ.فالتشغيل الذي مثل أهمّ للحركة الاجتماعية مازال مطمح شرائح واسعة من المعطّلين ذوي الشهادات العليا وسواهم. فالإجراءات الرئاسية والحكومية التي رافقتها عالة إعلاميّة كبيرة هدفت أوّلا وقبل كلّ شيء لتحقيق مكاسب سياسويّة لنظام الحكم فحتى هذه الساعة مازال الأهالي يسمعون كلاما من هذا المسؤول أو ذاك عن تركيز معامل ومصانع إمّا بالرديّف أو سواها من المنطقة، إلاّ أنّ الحصيلة الواقعيّة كانت مجموعة من شركات المناولة تركّز أغلبها بمدينة الرديف تمّ إسنادها وفق درجة الولاء للحزب الحاكم مع الحرص الشديد على معاقبة أصحاب الشهائد الذين أسهموا من قريب أو من بعيد في الحركة الإحتجاجية وبذلك أصبحت تلك الشركات قاعدة لتكديس الأموال الطّائلة لأصحابها ومبعث استقطاب جديد يُغذّي الميليشيات التجمّعية التي فقدت الكثير من قواها في السنوات الماضية. بطبيعة الحال تلك الشركات استوعبت أعدادا من طوابير المعطّلين، ومرّة أخرى كان التشغيل محكوما بعقليّة انتقامية وراءها تقارير أمنيّة مشبوهة. وحتى من تمّ قبولهم تمّ إخضاعهم أكثر من مرّة بطرق قسريّة للإسهام في احتفالات واستقبالات رجالات الحزب الحاكم. فالقوّة الغاشمة والتحكّم في الأرزاق أصبحتا من الوسائل الأكثر اعتمادا من قبل السلطة لفرض الصمت والهدوء وخلق حركيّة بشرية حول أدوات الدولة التي أصابها الإهتراء والتآكل.

5/ طريق المعالجة يبدأ من هنا

وحدهم الواهمون يعتقدون في قدرة النظام الحالي على معالجة جذريّة لقضايا البطالة والتفاوت الجهوي وانتشار الفساد المالي وشيوع المحسوبيّة... فكلّ الآفات التي تفتك بالأهالي وتعسّر حياتهم ليست إلاّ نتاجا منطقيّا لاختيارات سياسية واقتصادية واجتماعية للبرجوازية العميلة الحاكمة، مارستها ولازالت أكثر من نصف قرن. فالحلول الجذرية لتلك القضايا وغيرها بالجهة والبلاد لن تكون إلاّ عن أنقاض هذا النظام وبناء جمهورية ديمقراطية شعبية تصون قولا وفعلا الحقوق والحريات وتضمن كرامة المواطن والوطن. غير أنّ الإيمان والنضال الجدّي من أجل تحسين الأوضاع ضمن الشروط الاقتصادية والسياسية القائمة أمر ممكن. فتحقيق المكتسبات أيّا كان مجالها يظلّ مرتبطا بخلق موازين طبقية جديدة تجبر البرجوازية الكمبرادورية المتوحّشة على تعديل جنوحها الجنوني نحو مراكمة الثروة بأكثر الأساليب وحشية وهمجية. فتجربة شعبنا الخاصة وتجارب غيرنا تؤكّد إمكانية فرض التنازلات على أعتي الدكتاتوريّات، وهي تنازلات من الممكن أن تطال الجانب الاجتماعي وحتى السياسي. وقد بيّنت انتفاضة الحوض المنجمي المجيدة من جهة خور الرهان على الجانب الإنساني المزعوم في المشروع النوفمبري وعلى الطابع الديماغوجي لما يُسمّونه اللفتة الرئاسية، فالرهان أوّلا وأخيرا يظلّ على استنهاض الحركة الشعبية وتفجير طاقاتها النضالية الكامنة وصهرها لتحقيق مطالب واضحة ومُحدّدة مع الوعي المسبّق بصعوبة انتزاع مكتسبات من الفريق الحاكم بالنظر إلى تحجّره الكبير وضيق مجالات المناورة لديه في ظلّ الأزمة المالية العالمية وتداعياتها على الاقتصاد "الوطني" المنهك أصلا بالفساد المالي والنهب الذي ترعاه وتستفيد منه بعض العائلات المتنفذة. ومعلوم أنّ تبديد المال العام والإثراء الفاحش على حساب التنمية وصون كرامة المواطن يتّخذ أبعادا خطيرة في الجهات الداخلية مثلما هو الحال في جهة قفصة حيث القمع والفساد يتضاعفان حتى أنّ الأموال الكثيرة التي صُرفت مُؤخّرا في إطار ما أسموه "النهوض بالحوض المنجمي" تبخّرت بين أيادي ومؤسّسات أهلكهما الفساد ولم يصل منها للمواطن سوى النزر القليل ممّا أبقى فتيل الأزمة قائما وقابلا للانفجار في كلّ وقت.

فبداية المعالجة الجديّة لن تكون إلاّ باستجابة السلطة للحدّ الأدنى التالي:
- غلق الملفّ القضائي بصفة نهائية ضدّ كلّ الملاحقين فيما عرف بقضيّة "الحوض المنجمي".
- إرجاع المطرودين إلى سالف عملهم دون قيود أو شروط.
- محاسبة كلّ المسؤولين عن تدهور الأوضاع وعلى الأخصّ ممارسي القتل والتعذيب والعنف مع جبر الأضرار المادية والمعنوية لأسر الشهداء وكلّ المتضرّرين.
- تركيز منشآت اقتصادية تتأقلم مع خصوصيّات الجهة بإمكانها التخفيف من وطأة البطالة المستشرية.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني