الصفحة الأساسية > البديل الوطني > من يُزايـد على من؟
وجهة نظر:
من يُزايـد على من؟
6 كانون الثاني (يناير) 2009

تزامنت محاكمة قادة الحركة الاحتجاجية بالحوض المنجمي يوم 11 ديسمبر 2008، وما حفّ بها من خروقات وأحكام قاسية، بإطلاق السلطة وأحزاب الموالاة وبعض القوى الديمقراطية والنقابية لتـُهَم بتسييس القضية والملف وتوظيفهما.

لقد جاء في حديث الوزير الأول محمد الغنوشي في لقاء مع الصحافة التونسية يوم 20 ديسمبر الماضي متحدثا عن تطورات الأوضاع بالحوض المنجمي "أن هناك استغلال سياسي لمشاكل حقيقية"، وكانت الأحزاب المخزنية قد كررت الأقوال نفسها في بياناتها وتصريحات ممثليها. أما بيان المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل فعبّر عن رفضه "كافة أشكال التوظيف وكل أساليب التعكير"، في حين دعت "المبادرة الوطنية من أجل الديمقراطية والتقدم" إلى "تكثيف المساعي الإيجابية والتحركات التضامنية بعيدا عن المزايدات والتوظيف".

لقد كان منتظرا من وجوه السلطة أن يطلقوا مثل تلك التصريحات، وقد دأبوا على ذلك، باتخاذ بعض القوى كفزاعات لإخافة الجماهير الشعبية والتشكيلات السياسية ومكونات المجتمع المدني منها في محاولة لعزلها عن المساهمة الفعلية في كل الفعاليات النضالية، وفي هذه الحالة لمزيد الانفراد بأهالي الحوض المنجمي ومعتقليه والتنكيل بهم والتشفي فيهم على ما سموه "عصيانا" ورفضا لمجمل سياساتها في الجهة. والسلطة إذ ترمي خصومها بتوظيف التحركات الاحتجاجية فلكونها ترى أن التعاطي مع الشأن العام بصفة عامة هو من اختصاصها هي فحسب ولا يجوز لغيرها حتى مجرد إبداء الرأي فيه. وهذه في الحقيقة خاصيّة من خاصيات الأنظمة الدكتاتورية بصفة عامة.

لقد حاولت السلطة طيلة الأشهر الأولى من الاحتجاجات الشعبية في مدن الحوض المنجمي التعتيم عليها إعلاميا ومحاصرتها أمنيا بغاية إخفاء إخفاقاتها وانتهاكاتها ومنع تشكل حركة مساندة لها ومتضامنة معها، وأساسا لصدّ أي التقاء والتحام بين الحركة الاجتماعية والحركة السياسية قد يتم في إطاره تجذير النضالات وتوسيع آفاقها وتطوير أساليب دعايتها وتحريضها، وقد نجحت في ذلك نسبيا، وإن لم يمنع الأطراف التي لها حضور تقليدي في الجهة من لعب دورها في إسناد الحركة وضمان استمراريتها، وكان أن دفع العديد من مناضليها ضريبة ذلك تنكيلا وتعذيبا واعتقالات ومحاكمات صورية. ولما توسعت حركة التضامن مع الانتفاضة المنجمية وطنيا ودوليا والتحقت بها عديد القوى السياسية والاجتماعية التي طالما تجاهلت الحدث وأهملته، سعت السلطة مرة أخرى إلى عزل القوى الراديكالية وإبعادها عن هذا الملف بحكم معرفتها بأنها لا تساوم في نصرة الأهالي، وفي مقاومة تسلط الدكتاتورية عليهم، وخاصة في طرح الاختزالات الحقيقية لهذا الموضوع من تصادم بين الجماهير المفقرة والأقلية النهّابة الحاكمة، ومن تعارض بين إرادة التعبير عن الحقوق المشروعة في الشغل والتنمية العادلة والدفاع عنها وبين سياسة العصى الغليظة والقمع الأعمي التي تصادر فضاءات التعبير وتفرض منهج الأمر الواقع. إن نظام الحكم يريد من وراء كل ذلك، معارضة طيعة و"متفهّمة" و"راشدة"، ومجتمعا مدنيا منبتا ومعزولا وليّنا، ليختلي بطبقات المجتمع وفئاته المسحوقة ونخبه النيرة تفقيرا وتجويعا وقهرا.

أما أحزاب الديكور الديمقراطي والجمعيات الاصطناعية التي لا علاقة لها بالحراك الاجتماعي وبالنضالات السياسية والمدنية، والتي تعيش وتتمّعش من هبات السلطة ورشاويها، فإنها في هذا الإطار صوتُ سيّدها، تتلقف الأقاويل والاتهامات فتعيد إنتاجها وتزايد عليها خاصة في المهازل الانتخابية لتحصل على تعيينات إضافية في المؤسسات التمثيلية. وبصورة أوضح فإن الطبيعة الإدارية لهذه الأحزاب والجمعيات هي التي تفرض عليها القيام بهذا الدور، فهي فاقدة لاستقلالية قرارها وليس لها برامج وبدائل تقدمها للشعب.

وبالنسبة إلى قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل فهي آخر من يمكن أن يتحدث عن التوظيف والتعكير، وهي التي تسللت إلى الحركة بعد أكثر من ستة أشهر من انطلاقتها بدفع من قواعد المنظمة وهياكلها الوسطى، وبغرض نفعيّ ومصلحيّ حتى لا تخسر الحركة ولا تفقد زمام السيطرة على الاتحاد، بعد أن رفضت، ومنذ البداية، تلبية عدة نداءات من الاتحاد المحلي للشغل بالرديف للتحقيق في تـُهَمِ تورّطِ الاتحاد الجهوي ونقابات المناجم في فساد مناظرة شركة الفسفاط وللتدخل في المساهمة في معالجة القضايا التي طرحتها الحركة الاحتجاجية من موقعها كصائن لمصالح الشغيلة ومدافع عن حق الشغل. وعندما قررت التدخل بعد فوات الأوان وبعد إغراق الحركة في الدمّ، فكان ذلك للشماتة في قيادات الحركة وزعاماتها (انظر بيان المجلس الجهوي للاتحاد أواخر جوان 2008 والذي أشرف عليه علي رمضان ومحمد السحيمي) ولدعم قرار جهوي بتجميد عدنان الحاجي عن النشاط النقابي بالاعتماد على ملف أمني وعلى حجج واهية.

إن الانضمام المتأخر للاتحاد إلى حركة التضامن تلك قد قوبل بترحيب ونـُظر إليه بإيجابية في سبيل مزيد رصّ الصفوف لمساندة المنجميين، ولم يدفع لمحاسبة القيادة النقابية على تواطئها في هذا الملف ولا لمطالبتها بتقديم نقوداتها، إلا أن هذه الرؤية التجميعية قوبلت مرة أخرى بمحاولة الاستفراد بالقضية والسعي لخلق الهوّة مع الأحزاب السياسية والهيئات الحقوقية والإنسانية باتهام بعضها بـ"انتهاز الفرصة لتوظيف هذه التحركات الشعبية البريئة لأغراض أخرى ذات بعد غير واقعي" (المنصف الزاهي في حوار مع "مواطنون" في عدد 10 ديسمبر 2008). وإن كان السيد المنصف الزاهي (وأمثاله) لا يُلامُ على كلامه لأنه لم يعايش تلك الحركة ولم يتابعها، ويجهل حتى مواقف الأحزاب منها ومن الفعل داخلها، ونقدها لغلبة الطابع العفوي عليها، فإنه يزيف الحقائق حين يرى أن "الاتحاد العام التونسي للشغل هو الوحيد المتابع لقضايا الحوض المنجمي ومتدخلا فعليا وماديا لفائدة هذه العائلات" وهو الذي يتذكّر بالتأكيد كيف كشّر في وجه وفد قفصة النقابي الذي زاره (وزار غيره) في أوت الماضي طلبا لتدخل المنظمة، وكيف كال الشتائم لعدنان الحاجي ورفاقه المعتقلين، كما أنه أكثر من يعرف أن القيادة النقابية لم تفعل غير تحبير البيانات وإطلاق النداءات للسلطة السياسية طلبا للعفو على المسجونين واستجداء العطف عليهم (وكأنهم لصوص مذنبون)، أما حكاية المساعدة المالية فقد نُفخ فيها واستغلت للدعاية الرخيصة وإذلال الجماهير التي طالما نددت بتخاذل البيروقراطية النقابية وبفسادها، خاصة أنها كانت مساعدات رمزية واقتصرت في المرات النادرة على عائلات النقابيين، ولم ترق حتى لما تبرعت به بعض العائلات الفقيرة من قوت أبنائها في الوقت الذي تهدر فيه ملايين المنظمة على الدراسات الوهمية والندوات الاستعراضية والسفرات المشبوهة، وعلى شراء الضمائر وإسكات الأصوات الرافضة، وحتى عندما "تكرمت" المنظمة ووكلت محامييْن للدفاع عن المعتقلين فقد كان ذلك بعد أن تطوّع أحرار القطاع لنصرة أبناء الحركة وقادتها، وقطعوا أشواطا هامة في معركة الدفاع عنهم، وقد رأى العديد في ذلك التوكيل مناورة لبث البلبلة بين المحامين وسعيا لفرض "تسويات سياسية"، من خلالهم على ملف القضية قد تنزع عنه سماته الأساسية ومطالبه الجوهرية بما فيها التحقيق الفوري في الاعتداءات البوليسية على الأهالي وممتلكاتهم وإطلاق الرصاص الحيّ على المواطنين العزل وما خلفه من قتلى وجرحى، والإسراع برفع قضايا ضد المسؤولين عن التعذيب أمرا وتنفيذا خاصة وقد وردت أسماء البعض منهم في تقرير ختم البحث وفي تصريحات الضحايا لمحاميهم أو أمام أنظار المحاكم.

إنّه لمن الغريب أن تطلق الاتهامات ذاتها من أطراف ديمقراطية وتقدمية (المبادرة الديمقراطية) تنادي بالالتقاءات وبالنضالات المشتركة من أجل مصلحة البلاد والعباد وخاصة في معركة الحوض المنجمي. وإن كانت قد نُقدت في أشهر الحراك الأولى على عدم تحرّكها لمساندة الاحتجاج ودُحضت حجج تبرير انسحابها من التعاطي الملتزم مع هذا الملف على غرار ضعف حضورها في الجهة أو صدمتها من تهاوي تنظيراتها عن حالة جزر الحركة الاجتماعية والانخرام التام لموازين القوى وطنيا أو عملها على عدم استفزاز السلطة، فإنها لم تُهاجم فيما بعد على عقليتها في تغليب التموقع الحزبي على الانتصار لقضايا أساسية، ولم يُكشف على الملأ تورّطها في السعي للدفع بقادة الحركة الاحتجاجية لعقد جلسات شكلية وفوقية ومن وراء ظهر الجماهير المحتجة ودون علمها، مع مسؤولين أمنيين وسياسيين، يراد منها إيقاف الحركة ولجم مطالبها، ولم تُستغرب زيارات وفودها الحزبية لمدن الحوض المنجمي وتمضيتهم أحد الأعياد مع بعض أهاليها، ولم يُثار أحد من حضور بعض رموز المبادرة جلستيْ محاكمة "الوفاق"، وغُضّ الطرف عن التعاطي الانتخابوي مع تنظيم تظاهرات التضامن مع أهالي الحوض المنجمي وسعيُ تغطية "الطريق الجديد" لأحداث المناجم لبثّ أوهام العفو الرئاسي في أذهان القراء وإخفات يقظة الأهالي وحصر مواقف عائلات المعتقلين في الاستغاثة والصدمة وانتظار التدخلات التي تنهي الأزمة والعفو الذي يغلق الملف في الوقت الذي عبّرت فيه العائلات نفسها عمليا أو في وسائل إعلام أخرى عن توقعها للمنعرج الأمني لـ6 جوان الماضي وكل الانتهاكات التي أعقبته بما فيها قساوة الأحكام، وعن اعتزازها بقادة الحركة الاحتجاجية وشبانها واستعدادها للدفاع عنهم بكل السبل الممكنة (وهو ما تمّ فعلا بالاعتصامات والمسيرات النسائية التي أعقبت اعتقالات آخر شهر جوان الماضي، ومسيرة 27 جويلية الماضي، ومصادمات 12و13 ديسمبر 2008...) وعن اقتناعها بدور حركة المساندة الوطنية والدولية في المساهمة في تحرير المعتقلين وفي العمل على حلّ قضايا الفقر والبطالة والتهميش والانخرام التنموي بالجهة.

إنه إن كان يُقصد بالمزايدة والتسييس، المثابرة في الدفاع عن المنجميين وعن قضاياهم العادلة، وتجريم السلطة على تعاطيها الهمجي مع مطالبهم وحركتهم، والعمل على تجميع مختلف القوى لإسناد أهالي الحوض المنجمي متجردين من الحسابات الفئوية والانتخابوية، ورفض المعالجات "الذليلة" لملف المعتقلين والتي تنتهي في أفضل حالاتها بإدانتهم أخلاقيا... فنعم المزايدة... ونعم التسييس... وهنيئا للمتهمين بها...

سامي الصالحي


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني