الصفحة الأساسية > الشيوعي > العــدد 14 - فيفري 2004
نعود بعد احتجاب
شباط (فبراير) 2004

كل سنة وأنتم بخير

نعيد إصدار مجلة "الشيوعي" بعد احتجاب دام مدة طويلة نسبيا بسبب جملة من المصاعب والعوائق الأمنية والعملية. وقد اخترنا إصدار هذا العدد خلال هذه الفترة بالذات لصلة فصل الشتاء الرمزية بسلسلة طويلة من الأحداث والمحطات التي عرفها تاريخ بلادنا . ففي مثل هذه الفترة من كل سنة يحيي الشغّالون والنقابيون والثوريون منهم على وجه الخصوص ذكريات لها دلالتها التاريخية والسياسية الخاصة. فعلى امتداد حوالي قرن من الزمن كان الشتاء دوما موسم النضالات الاجتماعية والانتفاضات الشعبية العارمة، ابتداء من إضرابات شتاء 1924/1925 تحت قيادة جامعة عموم العملة التونسيين مرورا بتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل في 20 جانفي واغتيال الزعيم النقابي والوطني فرحات حشاد في 5 ديسمبر 1952 وأحداث الإضراب العام الأليمة في 26 جانفي 78 وثورة الخبز يوم 3 جانفي 84 وصولا إلى 3 جانفي 86 تاريخ إعلان تأسيس حزب العمال الشيوعي التونسي.

غير أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو ما سبب خفوت الحركة طوال السنوات الأخيرة وخلال هذه المدة بالذات؟ ألأنّ الأوضاع الاجتماعية العامة للشعب والعمال قد تحسنت وتطورت بما لم يعد هناك من داع للنضال؟ أم لأن حركة المقاومة باتت تشكو من عوائق ذاتية داخلية أقعدتها عن النهوض؟

لا نخال الإجابة عن ذلك صعبة.

فخلافا لما تروجه الدعاية الرسمية لا نعتقد أن أحدا منا يشك اليوم في أن الشعب التونسي وطبقاته الكادحة بصورة أخص لم يغنم من نمط التنمية المتبع في عهد بن علي، كما في عهد بورقيبة من قبله، سوى تعمّق الفوارق بين الطبقات وبين الجهات وازدياد معدلات الفقر والبطالة وتردي ظروف المعيشة من حيث تدهور المقدرة الشرائية وغلاء الأسعار وتراجع خدمات الصحة والنقل والتعليم والثقافة والترفيه رغم طغيان الطفرة الاستهلاكية والتداين في مستوى الدولة والمؤسسات والأسرة.

أما على الصعيد السياسي فقد رضخت البلاد مجددا لنمط الحكم الفردي الاستبدادي وانعدمت فيها الحريات العامة والفردية بل وعاشت فترات قمع وتعسف ومظالم قلما شهدت مثيلا لها في تاريخها المعاصر.

ذلك ما يعني أن الظروف العامة السيئة التي كانت من قبل مبعثا لاحتجاجات ونضالات أخذت أحيانا طابع الانتفاضة ما تزال مستمرة إذا لم تكن قد ازداد عمقها واشتد سوءها.

والواضح أيضا، وبشهادة الجميع في الداخل والخارج، أن سبب الجفاف النضالي إن صح التعبير هو الاختلال الخطير في علاقات الدولة بالمجتمع، أي بين نظام الدكتاتورية بكل أجهزته، حزب الدستور والبوليس والإدارة ووسائل الدعاية الأيديولوجية والسياسية والثقافية والأخلاقية، من جهة وبين حركة المقاومة الشعبية السياسية والاجتماعية والثقافية والحقوقية من جهة ثانية.

ومن أبرز وجوه هذا الاختلال – وليس هو الوجه الوحيد – تراجع أداء تعبيرات الشعب المنظمة، أحزاب ومنظمات وجمعيات ونقابة. البعض منها بسبب القمع والبعض بسبب القصور في الرؤى والتصورات والنخبوية والانعزال عن الشعب.

ولعل تراجع وزن وصيت المنظمة النقابية وقبولها بالانتصار للحكم بدلا من العمال والشعب كان الأمر المحسوس أكثر من غيره والعامل الذي انعكس بسلبية أخطر على الحركة الاجتماعية.

لذلك رأينا أن نخصص هذا العدد للمسألة النقابية.

وننشر في هذا العدد مجموعة من المقالات التحليلية المطولة تتركز كلها حول المسألة النقابية. بعضها كان نشر في مجالات أخرى (مساهمة الأستاذ صالح الحمزاوي) والبعض الآخر سبق أن قدّمه أصحابه في شكل محاضرات ومداخلات على منبر " منتدى الموقف " (مقالة عضو المكتب التنفيذي السابق لاتحاد الشغل مصطفى بن أحمد ومقالة الكاتب العام السابق لجامعة البريد جيلاني الهمامي) فيما وردت بقية المساهمات ضمن نقاشات في علاقة بأوضاع طرأت على الساحة النقابية (تقييم الكنفدرالية مثلا) وخيّر أصحابها نشرها بأسماء مستعارة.

تتوزع هذه المقالات بين العودة إلى جوانب نظرية ومبدئية في العمل النقابي وتكمن أهميتها في إحياء الجدل حول مفاهيم نقابية غاب الاهتمام بها منذ فترة لصالح جوانب عملية وسطحية تحوّلت في أحيان كثيرة إلى ممارسات مبتذلة. وأردنا بنشر هذا الصنف من المقالات دعوة تيارات اليسار والتقدميين عموما إلى العودة للعناية بهذا الجانب من أجل مزيد التجادل فيه لبلورة تصورات مشتركة وإرساء أسس فكرية للنشاط عسى أن تصبح مرجعية يحتكم إليها المناضلون.

وتحوز المقالات التقييميّة لمسيرة النشاط النقابي عموما ولتجربتي الاتحاد العام التونسي للشغل وللكنفدرالية على مساحة لا بأس بها في هذا العدد. وهو ما يعكس انشغال الكثير من المناضلين بما آلت إليه أوضاع النشاط النقابي وأوضاع المنظمة الشغيلة اليوم من ترد ووهن. وتحاول التقييمات الواردة في هذا العدد الوقوف كل من منظوره وزاوية اهتمامه على الأسباب الجوهرية التي أدت إلى هذه الحالة.

وقد تعمّدنا نشر مقالة تقييمية لتجربة الكنفدرالية حتى تنال هذه التجربة بصرف النظر عن إيجابياتها أو سلبياتها حظها من النقاش لأننا نعتقد أن ذلك لم يحصل من قبل والحال كان يدعو أن لا يمرّ ميلاد "الكنفدرالية الديمقراطية للشغل" في ظرف كانت الحركة النقابية تعيش منعرجا هاما وخطيرا هكذا مرّ الكرام عدا بعض المقالات القصيرة والمقتضبة والسطحية التي نشرت على أعمدة الصحف (جريدتا "الصباح" و"الشعب").

مرد ذلك كان بالأساس ضعف إنتاج الحركة وانغماس مناضليها في "الأشياء المعتادة واليومية".

لقد بينت تجربة اليسار الطويلة داخل المنظمة النقابية أن محاولات تطوير الحركة النقابية وتثوير مقولاتها وممارساتها وإصلاح أوضاع المنظمة من الداخل كانت في العموم مستندة إلى رؤية عفوية أو اجتهادات فردية ضيقة الآفاق سرعان ما تحولت إلى نزعات نقابوية بل وحتى بيروقراطية ناشئة. وقد زاد تناحر مجموعات اليسار الوضع سوء على سوء.

وإذا كان اليسار اليوم مدعوا إلى وقفة تأمل جدية وهادفة لتقييم تجربته ومراجعة توجهاته في الحركة النقابية قد يجد نفسه مجبرا على تناول الموضوع على غير ما فعل من قبل. لأن الانصهار بالحركة العمالية فقط من باب "التموقع" سيكون أكثر ضررا له ولمجمل الحركة.

إن الحركة اليوم في حاجة أكثر إلى تأسيس تيار نقابي مستقل ديمقراطي ومناضل يقيم للمبادئ وللعمل الميداني نفس القدر من الأولوية والأهمية.

موضوع يطرح نفسه بإلحاح ومشروع يدغدغ مطامح أوساط مختلفة ومتعددة من النقابيين أولى وأحرى بمناضلي اليسار قيادةُ عمليةِ تأسيسه وبنائه. عملية ستحتاج إلى طاقات الجميع وإمكانيات كثيرة وخبرات متنوعة، سياسية وفكرية وعملية ومادية، لن ندخر أي جهد في الانخراط فيها بما ملكنا وسنسخّر "الشيوعي" لأن تكون إحدى أدوات هذا المسار.

لا بد أن نشير في الأخير إلى أن المقالات المنشورة تلزم أصحابها سواء كنا نتفق معها أو نختلف مع البعض منها جزئيا أو كليا.

هكذا إذن أردنا أن تكون "الشيوعي" فضاءا للتعبير وإطارا للصراع الفكري والسياسي بين مناضلي الحركة اليسارية. وكما خصصنا هذا العدد للمسألة النقابية سنخصص الأعداد المقبلة لقضايا أخرى مركزية في التفكير السياسي المتصل بأوضاع بلادنا وحاجات نضال شعبنا ومستقبله.

فمرحبا بمساهماتكم.

هيئة تحرير "الشيوعي".


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني