الصفحة الأساسية > البديل العربي > آلام فارغ وإجراءات شكلية...
" قمة سرت":
آلام فارغ وإجراءات شكلية...
1 نيسان (أبريل) 2010

مثلما تقتضي بديهيات العمل الديبلوماسي، أنهى الحكام العرب اجتماع الدورة الثانية والعشرين لمجلس جامعة الدول العربية بإعلان حمل اسم مدينة "سرت" التي احتضنت اجتماعهم.

ومثلما كان متوقعا انتهت القمة إلى فشل ذريع في بلورة موقف عربي موحد حول مجمل القضايا المطروحة بصغيرها وكبيرها، مما يقيم الدليل مرة أخرى على عقم هذه الاجتماعات ويعطي كل المشروعية لطرح أسئلة كثيرة حول الجدوى من الأطر الحاضنة لتلك الأشغال. والحقيقة أن عبثية هذه القمم وهياكلها لا تتأتى فقط من العجز الرسمي في مسايرة مطامح وتطلعات الشعوب العربية ولو في حدودها الدنيا، وإنما القدرة على استيعاب التناقضات الكثيرة التي تشق ما يسمونه صفّا عربيا، ولعل العودة المتأنية لإعلان "سرت" تأكيد لما ذهبنا إليه.

1 – جدول أعمال مثقل

يبدو أن القضايا التي طرحها القادة العرب في قمتهم الأخيرة وفق ما يفهم من البيان الختامي وما تناقلته وسائل الإعلام، قد ناهز العشرين قضية توزعت على محاور مختلفة فيها ما يتصل بالجوانب التنظيمية، وفيها الخلافات العربية، ومسائل متصلة بفلسطين والعراق واليمن والسودان... وجدول أعمال بهذه الشاكلة يُعبّر من الزاوية الموضوعية عن تفاقم معضلات الوطن العربي ودرجات السوء التي آلت إليها أوضاع الشعوب.

وفي نفس الوقت فإن ذلك الفيض المدرج للنقاش يمثل علامة مؤكدة على لا جدية المجتمعين، أولا لأن أغلب القضايا كانت على الدوام حاضرة في قمم العشريتين، وثانيا لأن ذلك الكم الهائل من المشاكل المستعصية لا يمكن تدارسه ضمن الحيز الزمني المخصص. فهل يومان من اجتماع القادة مضافا لهما نهار اجتماع وزراء الخارجية كافيان لعرض المشكلات والاختلاف ثم الاتفاق حولهما؟

إن هؤلاء القادة يتعمدون ذلك الأسلوب لتعويم القضايا والتنصل من مسؤولية اتخاذ قرارات عملية فيما يطرحونه مما أفضى تدريجيا إلى تحوّل قممهم إلى مجرد لقاءات فلكلورية تبدأ بالمناكفات وتتوسطها الخطابات وتنتهي بمزيد التشرذم والتشظي الذي يتخفى وراء استصدار بيانات تكرر محتوياتها من قمة إلى أخرى بعبارات ممجوجة مثل "تمسكنا بالتضامن العربي" و"مواصلة الجهود الرامية إلى تطوير وتحديث جامعة الدول العربية"، وبطبيعة الحال "توجيه تحية إكبار وإجلال للشعب الفلسطيني"...

2 – قمة دعم القدس تتجاهل القدس

يبدو أن قضية القدس، وبصفة عامة الصراع العربي/الصهيوني كان الملف الأكثر حضورا في المداولات الأخيرة، فقد ورد في الفقرة الأخيرة من ديباجة "إعلان سرت":" وإذ نجتمع اليوم في قمة دعم صمود القدس.." مما يفترض وجود جملة من القرارات السياسية والاقتصادية الكفيلة بكبح الوتائر المتسارعة لصهينة القدس وتهويدها. فالقمة انعقدت في سياق شديد الخطورة من أهم مميزاته استمرار حكومة "نتنياهو" في اعتداءاتها الإجرامية على الشعب الفلسطيني من خلال الحصار والاستيطان والاعتقالات والتقتيل في غزة والضفة الغربية على حد السواء. وهي أمور معروفة لدى القاصي والداني فما بالك بـ"قادة" هذه الدول الذين يفاخرون كذبا بمسؤولياتهم القومية في الدفاع عن القدس وفلسطين، وهي ذات المعزوفة التي جمّلوا ويجمّلون بها على امتداد عقود سياساتهم الاستسلامية تجاه تمدد المشروع الصهيوني. ورغم أن هذه القمة انعقدت تحت شعار "دعم صمود القدس" فإنها اكتفت بتضمين بيانها الختامي في نقطته الثانية فقرة جمعت بين الإدانة للانتهاكات الصهيونية والإشادة بصمود الفلسطينيين مع "التأكيد على أن القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967..." مع التعهد بـ"عقد مؤتمر دولي..." خلال هذا العام للدفاع عن القدس و"حمايتها على كافة الأصعدة". وقد سبق في اجتماع وزراء خارجية الدول العربية إقرار 500 مليون دولار لدعم صمود المقدسيين. فهل بمثل هذه القرارات يمكن حماية القدس؟ وهل بمثل هذه الخطوات يمكن كبح الجموح الصهيوني؟ وهل بما تقرر يمكن للحكام العرب المفاخرة بالدفاع عن المقدسات والأمن القومي العربي؟

إن الإدانة والشجب والتهديد باللجوء إلى المحافل الدولية (أمم متحدة ومجلس أمن) وعقد المؤتمرات العالمية ليس لها قيمة في مقارعة المشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة وسواها وهو مجرد كلام لم يعد قادرا على أداء وظائفه التقليدية (تجميل السياسة الرسمية العربية ومغالطة الشعوب...). ولعل ترديده في ظل الأوضاع الحالية يمثل إشارة خضراء لحكومة "نتنياهو" حتى تمضي قدما في سياسة التهجير والتوطين وتهويد القدس الغريبة والشرقية على حد السواء ضمن مخطط كامل يستهدف فرض الأمر الواقع في ظل أي مفاوضات سواء كانت بالوكالة أو مباشرة.

وفي الوقت الذي يكتفي فيه "القادة العرب" بالكلام، نرى حكومة "نتنياهو" تجسد تهديداتها على أرض الواقع. وفي هذا الإطار خصّصت هذه الحكومة 14 مليار دولار لقضم الأرض وتهويدها، ببناء أكثر من 60 كنيسا في القدس الشرقية آخرها "قدّاس الخراب" كمقدمة لهدم المسجد الأقصى وإقامة "هيكل سليمان". والقمة التي وضعها قادتها تحت شعار "دعم صمود الأقصى" وعدت بتخصيص 500 مليون دولار من الأكيد أنها لن تصل إلى المعنيين حقيقة بالنضال من أجل الحفاظ على الأقصى والتصدي لتهويد القدس، في ظل الاختلاف بخصوص الجهة التي ستتكفل بصرف هذه الأموال. وبناء عليه فإن هذا المبلغ، على محدوديته قياسا بما رصدته الحكومة الصهيونية، لن يكون كافيا لـ"دعم صمود الأقصى" و"التصدي لتهويد القدس".

إن الضجيج الرسمي حول المقدار المالي المخصص ليس إلا أكذوبة لا جدوى من ورائها، مثلها مثل العمل على عقد "مؤتمر دولي" خلال هذا العام تحت رعاية جامعة الدول العربية و"هيئات المجتمع المدني" (نقابات، جمعيات...). وبطبيعة الحال فإن المقصود وفق المنطق الرسمي بالمجتمع المدني في الداخل هو الديكور الديمقراطي للأنظمة الشمولية، وفي الخارج المنظمات والهيئات الرسمية التي تغض الطرف عن هتك حقوق الإنسان وتبذير المال العام...

3 – القمة والصراع العربي الصهيوني

لم تحمل قمة "سرت" أي جديد فيما يتعلق بالصراع العربي الصهيوني. فهي قد اكتفت بإعادة صياغة الموقف العربي الرسمي المحكوم بقرار التقسيم وإقامة الدولتين مع التأكيد على "أن القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من الأراضي المحتلة عام 67.."والإعلان مجددا على أن السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة بما في ذلك الجولان المحتل ومن المناطق المحتلة في جنوب لبنان".

ومثلما هو واضح فإن القمة أعادت ما عهدت الشعوب العربية سماعه ولم تأخذ بعين الاعتبار لا الهجوم الصهيوني على الأرض والبشر، ولا التجربة الحاصلة مع هذا الكيان فيما يتعلق بالمفاوضات منذ "أوسلو" تحت عنوان "مقايضة السلام بالأرض" الذي انتهى بالرغم من التفريط في الحقوق الفلسطينية تحت ذرائع "الشرعية الدولية" ومقرراتها إلى الفشل في إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967. فكما هو معلوم، انقلبت تلك المفاوضات، بحكم اختلال موازين القوى والغطرسة الصهيونية المدعومة كليا من قبل القوى الامبريالية وعلى الأخص الولايات المتحدة الأمريكية، إلى مطية لمزيد ابتزاز الطرف الفلسطيني المهيء طبقيا وسياسيا لمزيد الانحدار والتفريط في الحقوق الوطنية خصوصا في عهد "أبو مازن" الذي حوّل السلطة إلى أداة لقمع المقاومة المسلحة في الضفة الغربية وخنق الفعاليات الشعبية المعادية للاحتلال تحت ذارئع متطلبات إنجاح المفاوضات وما تمليه متطلبات إنجاحها والتقدم بها وفق مبدأ "الأمن مقابل الأرض" الذي تكشّف بعد سنوات على أنه غطاء صهيوني لربح مزيد من الوقت ومزيد من التهجير والتوطين وفرقعة الساحة الفلسطينية وزرع مستلزمات الاقتتال داخلها.

وبالرغم من فشل تلك المفاوضات وإقرار الجميع بذلك، وبالرغم من توقفها لمدة طويلة، فإن قمة "سرت" لم تكلف نفسها عناء سحب "المبادرة العربية" التي قال عنها عمرو موسى في قمة غزة أنها لن تبقى دوما على الطاولة... ولا نظن أحدا يجادل في أن أفضل الأوقات لإيقاف العمل بهذه المبادرة هو أيامنا هذه. وهو ما كان سيقود إلى طرح خيارات أخرى للتعامل مع العدو الصهيوني وصلفه اللامتناهي. والحقيقة أن الإبقاء على "المبادرة" والحديث عن "السلام العادل" وخلو البيان من أي إشارة إلى المقاومة الفلسطينية وإقرار قمة "استثنائية" في موفى العام الحالي، جميعها يصب في عجز النظام العربي الرسمي عن الدفاع عن الحد الأدنى التفريطي (حلّ الدولتين). فمثل هذا الحد كان من الممكن النظر إلى إمكانات تحقيقه بخيارات أخرى تمزج بين ما هو سياسي واقتصادي وحتى على الأقل من زاوية دعم المقاومة الفلسطينية المسلحة. وخروج القمة بمثل هذه القرارات الهزيلة يعكس بصفة جلية موازين القوى المختلة لصالح ما عرف بمحور "الاعتدال" الذي تتزعمه السعودية ومصر والأردن والمغرب وتونس... وهو محور لا يُخفي عداءه الصريح للمقاومة المسلحة، ويدفع في السر والعلن لمزيد التطبيع مع الكيان الصهيوني ويضع كما يقال "كل بيضة في السلة الأمريكية". وما إقرار "قمة استثنائية" في أكتوبر القادم، ومعارضة بعض الدول كسوريا وليبيا لسحب المبادرة العربية والإشادة بالمقاومة، إلا استجابة للمحور الأول الذي يراهن على الاستفادة من "تطور الخلاف الأمريكي/الإسرائيلي".

4 – قضايا شائكة، مواقف باهتة

كان من المفترض أن نتطرق إلى موقف القمة من حصار غزة في المحور السابق إلا أننا خيرنا إبقاءه ليكون عينة لفهم الموقف الرسمي العربي من معالجة القضايا الكثيرة التي وقع إدراجها في جدول القمة. فحصار غزة يُلحق الأضرار الجسيمة بأكثر من مليون ونصف فلسطيني ويُحوّلهم إلى مساجين بالجملة في معتقلهم المفتوح القائم حتى هذه اللحظة، وهي جريمة يقترفها العدو الصهيوني بتعلة مقاومة "حماس" وحكومتها، ويشارك فيها بصفة مباشرة النظام المصري من خلال بناء الجدار الفولاذي وتكثيف المراقبة الأمنية على الحدود.

واللافت للانتباه أن محاولات كسر الحصار الجائر جاءت من خارج السياق العربي وتحديدا من الغرب (قوافل جورج غالاوي ومحاولات أخرى) ولم تقدر دولة عربية واحدة على خرق هذا الحصار خوفا من العقاب الأمريكي الصهيوني ونكاية في حركة المقاومة وحكومة "حماس". وأكثر من ذلك فإن الأجهزة القمعية للدول العربية تقف بالمرصاد للإجهاز على كل المحاولات الشعبية لفك الحصار ونصرة غزة إضافة إلى تكفل نظام حسني مبارك بوضع العراقيل والتنكيل بنشطاء المجتمع المدني الوافدين من الغرب.

وأمام هذا الواقع، لم يجد الحكام العرب سوى "المطالبة برفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة ودعوة المجتمع الدولي وعلى رأسه مجلس الأمن لاتخاذ موقف واضح...".

إن مثل هذا الكلام معد للاستهلاك الدعائي لا أكثر ولا أقل، فمثلما سبقت الإشارة فإن حصار غزة يستمر بإعانة دول عربية مثل مصر وبتواطؤ من الجميع. وهو يتم خارج الشرعية الدولية ومقرراتها. والجهة القائمة على مثل هذا القرار معلومة، الكيان الصهيوني، وهي على الدوام فوق كل الشرعيات، ولم يسبق لها أن استجابت لأي طلب عربيّ ولا حتى لقرارات الهيئات الدولية.

وعليه فإن المنطق كان يفترض الإقلاع عن مثل هذه المطالبات التي يصر "القادة" على اتباعها وكأنهم هيئات مجتمع مدني أو أحزاب معارضة تفتقر إلى الأدوات العملية للشروع الفوري في فك الحصار أولا وقبل كل شيء مع إلزام دولة مصر الحاضرة معهم في إزالة فضيحة "الجدار الفولاذي" وفتح المعابر وكل الحدود أمام البشر والبضائع لتخفيف الأوضاع المزرية في قطاع غزة.

وفق هذه العقلية الوفاقية التآمرية تم تناول مجمل القضايا العربية. فالفقرة الرابعة من الإعلان وقع تخصيصها للعراق وخلت من أي إشارة إلى الاحتلال الأمريكي أو إلى المقاومة، واكتفت من جهة بـ"الترحيب بإجراء الانتخابات البرلمانية" و"دعوة القيادات العراقية بمختلف انتماءاتها الطائفية والعرقية والحزبية إلى تغليب المصلحة الوطنية..". هكذا يمجّدون عملية سياسية محكومة بحراب المحتلين وبأدوات محلية غارقة حتى النخاع في الطائفية والعرقية التي تتجه رويدا رويدا نحو القضاء على الوحدة الترابية للعراق الشقيق.

وفي كلمة فإن النظام العربي الرسمي يفتقر إلى أدنى مقومات القوة للدفاع عن الأمن القومي العربي، كما أنه يفتقر إلى الحد الأدنى من الانسجام في تناول قضاياه وهو ما جعله مكتفيا في مسائل كثيرة (اليمن والسودان وجزر القمر...)، سجين عبارات تبرئة الذمة من قبيل "الترحيب بالخطوات التي تم التوصل إليها فيما يخص تسوية الأزمة في دارفور.." و"الإشادة بالجهود المبذولة من حكومتي تشاد والسودان...".

عمار عمروسية
1 أفريل 2010



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني