الصفحة الأساسية > البديل الوطني > التعليم كالماء والهواء
التعليم كالماء والهواء
8 أيار (مايو) 2010

هذه العبارة الشهيرة هي للدكتور طه حسين الملقب بـ"عميد الأدب العربي". وكان الرجل أطلقها عندما تولى في مصر، وزارة المعارف العمومية في حكومة "الوفد"، في أواخر المنتصف الأول من القرن العشرين. وكان مراد طه حسين من تلك العبارة، التأكيد على أن التعليم هو في أهمية الماء والهواء بالنسبة إلى الإنسان، أي أنه من ضرورات الحياة القصوى التي لا يمكن للمواطن المصري، رجلا كان أو امرأة، أن يعيش من دونها. وما دام التعليم يكتسي مثل هذه الأهمية فلا يمكن أن يكون إلا مجانيا، حتى يتمكن الجميع من التمتع به دون تمييز بسبب المكانة الاجتماعية. وبعبارة أخرى فإن التعليم في نظر عميد الأدب العربي لا ينبغي أن يكون مرهونا بالثروة الشخصية. ومن كان له مال تعلم، ومن لا مال له يبقى جاهلا، أو من كان ثريّا تمتع بتعليم راق، ومن كان فقيرا يحصل على تعليم رديء. ومن هذا المنطلق اعتبر طه حسين أن تعلم المواطن المصري من مسؤوليات الدولة المصرية وعليه ينبغي أن يكون التعليم عموميا ومجانيا ليتحقق به نهوض مصر، أفرادا ومجموعة.

لقد تذكرتُ عبارة طه حسين وأنا أقرأ الحوار الصحفي الذي أجرته صحيفة "الموقف المعارضة بتاريخ الجمعة 26 مارس 2010، مع الأستاذ الجامعي الصادق بلعيد، الذي تولى عدة مسؤوليات، كان آخرها رئاسة "الجامعة الحرة بتونس" التابعة للسيد محمد بوعبدلي، قبل غلقها هذا العام بقرار سياسي جائر من وزارة التعليم العالي، بعد أن كانت أغلقت وزارة التربية، في عام 2007 معهدا آخر للسيد بوعبدلي (معهد قرطاج الدولي). وقد انتقد الأستاذ بلعيد في الحوار الصحفي المذكور مبدأ مجانية التعليم التي ذهب إلى حد اعتبارها "آفة" (إلى جانب "آفة" أخرى هي اعتبار الحصول على الباكالوريا جوازا للالتحاق بالجامعة) تنخر المنظومة التربوية ببلادنا. وقد علل موقفه هذا باستحالة الجمع بين مجانية التعليم وتوفير كل المتطلبات المادية لمنظومة تعليمية ناجحة بالنظر إلى التطوّر الهائل لعدد الطلبة خلال السنوات القادمة..."، مضيفا أنه من باب "الحيف الاجتماعي"، "أن يتمتع الجميع سواء كانوا ضعفاء الحال أو متوسطي الدخل أو الأغنياء بنفس الامتيازات عبر مجانية التعليم".

قبل الردّ على الأستاذ بلعيد، نودّ الإشارة إلى أننا في "صوت الشعب" ندّدنا بغلق المؤسستين المذكورتين التابعتين للسيد بوعبدلي والتي يدير إحداهما الأستاذ بلعيد، لأن هذا الغلق لم يتمّ لا دفاعا عن التعليم العمومي ولا لخطأ ارتكبه صاحب المؤسستين على حساب حرفائه من التلاميذ والطلبة، بل في إطار استغلال النفوذ، لأسباب تجارية أو سياسية، ممّا يجعل هذا الغلق مظهرا من مظاهر الفساد المستشري في السلطة في بلادنا. بعد هذا التوضيح، نود القول إن الأستاذ بلعيد لم يأت بجديد في هجومه على مجانية التعليم ودفاعه عن التعليم الخاص أو مدفوع الأجر. فهو يكرّر نفس التعلات التي اعتمدتها المؤسسات المالية الدولية (البنك العالمي، صندوق النقد الدولي) في هجومها على التعليم العمومي في غمرة السياسية الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة التي تبنتها وكرستها منذ ثلاثة عقود وفرضتها على معظم البلدان التابعة مثل بلادنا، بعد أن تم فرضها في البلدان الرأسمالية المتطوّرة على يد حكومات بورجوازية متطرفة (ريغن في الولايات المتحدة، وتاتشر في أنجلترا...).

إن المؤسّسات المالية الدولية الخاضعة لمبررات الدول الرأسمالية، تحاول الإيهام، لتمرير سياساتها، بأن التعليم العمومي، والمجاني يمثل "عبئا" على الدولة ويثقل كاهلها ويعمّق عجز موازنتها، وفوق ذلك فهو لا يحقق "منتوجا جيدا" بل هو "رديف الرداءة". وعلى هذا الأساس لا بد من التخلص من هذا "العبء" بتخفيض الدولة نفقاتها المخصصة للتعليم وتحميل المواطنين جانبا من هذه النفقات إن لم نقل كلها أو غالبيتها وفسح المجال لأصحاب رأس المال، أفرادا وجماعات لكي يستثمروا في هذا القطاع و"يسهموا" في "الارتقاء بجودة التعليم". وفي الواقع فإن غاية المؤسسات المالية من توجهها هذا، الذي يشمل كل الخدمات الاجتماعية، بما في ذلك الصحة، هي، أولا: خفض النفقات الاجتماعية للدولة لتحويلها إلى أصحاب رأس المال في شكل مساعدات مباشرة أو غير مباشرة على حساب الطبقات والفئات الفقيرة التي كانت تنتفع من تلك النفقات. ثانيا: تكثيف استغلال العمال والكادحين والفقراء وذلك بإثقال كاهلهم بمصاريف جديدة على تعليم أبنائهم وبناتهم من أجور البؤس التي يتلقونها، رغم ما يدفعونه من ضرائب وأداءات للدولة من المفروض أن تنفق على الخدمات الاجتماعية ومنها التعليم. ثالثا: تمكين أصحاب رأس المال من مجال جديد للاستثمار والربح وذلك بتحويل التعليم من خدمة عمومية إلى سلعة، كسائر السلع، تباع وتشترى، كل حسب ثروته، فمن كان له مال كثير، يحصل على تعليم راق، ومن ليس له مال يحصل على تعليم/سلعة رديئة أو حتى يبقى أميّا وجاهلا فـ"المسؤولية مسؤوليته وليست مسؤولية الدولة"!

وقد فرض هذا التوجه على بلادنا خلال النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي بعد أن وقعت بين فكي كماشة البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وباتت تطبّق ما يسمّى بـ"برنامج الإصلاح الهيكلي" سيء الصيت الذي يمثل الحد من النفقات الاجتماعية وخوصصة القطاعات العمومية بما فيها الصحة والتعليم أحد أهدافه الرئيسية. ومنذ ذلك الوقت والتعليم العالي ببلادنا بل التعليم بشكل عام يخضع لـ"الإصلاح" تلو "الإصلاح" وفقا لما تطلبه تلك المؤسسات المالية التي لا هدف لها غير استرجاع قروضها أولا، وإخضاع التعليم العالي لما يخدم المصالح المباشرة والمتقلبة لأصحاب رأس المال المحليين والأجانب. وقد فـُرضت هذه الإصلاحات المتتالية والفاشلة على الطلاب والأساتذة والباحثين دون أن يشاركوا في تقريرها. فعمقت الفوضى والارتجال وتدني مستوى التعليم وفقدت الشهادات مصداقيتها، وبدأنا نشهد بروز نمطين من التعليم العالي أحدهما راق للأغنياء الذين لهم القدرة على تعليم أبنائهم بالمؤسسات الخاصة أو على إرسالهم لجامعات أجنبية، وآخر عمومي، رديء، للفقراء ومتوسطي الحال. وحتى هذا التعليم العالي العمومي ارتفعت تكلفته. فالأولياء مطالبون بدفع معاليم التسجيل وبتوفير اللوازم المدرسية والسكن ومعلوم الأكل والنقل لبناتهم وأبنائهم بالنظر إلى العدد القليل من الطلاب الذين يحصلون على منح وعلى الإقامة في المبيتات الجامعية.

وهكذا فقدت تونس كل إمكانية لبلورة استراجية تربوية خاصة مرتبطة بحاجاتها ومستجيبة لتطلعات شعبها، ورغم أن السلطة تدّعي أن الهدف من "إصلاح" التعليم العالي هو تحسين جودته وجعله يساير "معايير العصر" فإن النتيجة ماثلة أمام أعيننا. فالجامعة التونسية توجد في مؤخرة الجامعات في العالم ناهيك أنه لا توجد أيّ جامعة من جامعاتنا ضمن الـ500 جامعة الأولى في العالم، كما أنه لا توجد أيّ جامعة عمومية من جامعاتنا ضمن الـ6 آلاف جامعة الأولى في العالم. وفي الوقت الذي تدّعي فيه الحكومة أيضا أن الهدف من "الإصلاح" هو ربط الجامعة بالدورة الاقتصادية وبسوق "الشغل" فإن النتيجة هي أن جامعاتنا أصبحت مؤسسات لتخريج المعطلين عن العمل لا غير، فأصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل يُعَدّون بعشرات الآلاف، وحسب إحصائيات رسمية فإن نسبتهم إلى مجموع خريجي الجامعات أصبحت تفوق الـ20%، ومن المنتظر أن ترتفع هذه النسبة في القادم من السنوات.

إن أزمة التعليم العالي والبحث العلمي في بلادنا، ليس مأتاها، في رأينا، لامجانية التعليم وتكاثر عدد الطلبة، وليس أدل على ذلك من النتائج التي ذكرناها والتي رافقت الخطوات الأولى لخوصصة التعليم و"تسليعه". ومن المؤكد أن مزيد الخوصصة والتسليع لن يؤدي إلا إلى نتائج كارثية. ومن المفيد هنا تذكير الأستاذ الصادق بلعيد أنه هو نفسه خريج جامعة عمومية، وتلقى مثله مثل العديد من أبناء جيله من أصحاب المستويات العلمية المرموقة، تعليما مجانيا. وإلى ذلك أين كوّنت فرنسا وبريطانيا وغيرهما من البلدان الرأسمالية أجيالا من العلماء والباحثين؟ أليس في الجامعات العمومية التي تسدي تعليما راقيا؟ ولكن ما تروّجه البرجوازية اليوم ضد التعليم العمومي والمجاني ليس إلا غلافا أيديولوجيا للهجوم السافر على أبناء وبنات الطبقات الكادحة والفقيرة والذي يرمي إلى حرمانهم من حقهم في المعرفة.

إنّ السّبب الرئيسي لأزمة التعليم في تونس يكمن أولا وقبل كل شيء في غياب مشروع وطني اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي، يحتل فيه التعليم العالي المكانة المرموقة الراجعة إليه في إنتاج المعرفة وتكوين الأساتذة والباحثين ليسهموا في النهوض بالمجتمع والبلاد. إن من يقرر اليوم السياسية التعليمية الجامعية في تونس، لا هو الشعب التونسي ولا هم الطلبة والأساتذة بل المؤسسات المالية الدولية التي تكتفي الحكومة التونسية بتنفيذ قراراتها وتوصياتها بطرق مرتجلة وغير مدروسة، فتكون النتائج سيئة للغاية. وبعبارة أخرى فإن تخفيض الدولة النفقات المخصصة للتعليم واتجاهها نحو الخوصصة هو جزء من الأزمة وليس علاجا لها، وبالتالي فإن المضيّ فيه قدما من شأنه أن يعمّق الأزمة. وإذا ما أردنا أن ننقذ التعليم العالي في بلادنا فما على المعنيين إلا أن يتكتلوا ويقاوموا تيار الخوصصة ويطالبوا بتعليم عالي عمومي وراق في خدمة الشعب والبلاد. وهو أمر ممكن إذا تغيّرت الاختيارات والسياسات. إن مجانية التعليم تبقى ضرورية لأن التعليم العالي ينبغي أن يبقى خدمة عمومية وأن لا يتحوّل إلى مشروع رأسمالي للربح، إلى سلعة تباع وتشترى.

إن العمال والكادحين والموظفين وغيرهم من أبناء الشعب وبناته يدفعون القسم الأوفر من الضرائب والأداءات، بينما لا يدفع الأثرياء إلا نسبة ضئيلة. فبأيّ حق نحرمهم من تعليم عالي مجاني وراق؟ وبأيّ حق نطالبهم بدفع المزيد لتعليم أبنائهم؟ إن تمويل التعليم العالي ممكن شريطة وضع حد للفساد وتبذير المال العام في المشاريع الهشة وتوريد الكماليات وتمويل جهاز ضخم من البوليس لقمع الشعب. وهو ممكن أيضا شريطة إجبار أصحاب الأعمال على دفع الضرائب. لقد علل الأستاذ بلعيد رفضه لمبدأ مجانية التعليم العالي المطلقة، بأنه من "الحيف الاجتماعي" أن يتمتع بها الفقير والغنيّ. وهذه الحجة من قبيل الحق الذي يراد به باطل. نحن ضد الحيف الاجتماعي، ولكن مواجهة هذا الحيف، اليوم، في المجتمع الحالي، لا يمكن أن تتمّ عن طريق خوصصة التعليم، لأن ذلك سيؤدي فعلا إلى تطوير تعليم للأغنياء وآخر للفقراء، ويكون التعليم بذلك، أداة في إعادة إنتاج نفس المشهد الطبقي (وهو حاصل اليوم)، بل إن الحل هو إبقاء مجانية التعليم، مع تطبيق مبدأ الضريبة التصاعدية على الدخل بشكل صارم، فتكون مساهمة الأغنياء وقتها أكثر بكثير من مساهمتهم اليوم، إذ أن الحاصل اليوم هو العكس، الفقراء يدفعون الضرائب والأغنياء يتملصون منها.

أمّا الحجة الأخرى التي يستعملها الأستاذ بلعيد والمتعلقة بتكاثر عدد الطلبة فهي حجة باطلة أيضا. إن الشعوب التي تطمح إلى التقدم من المفروض أن تفخر بتكاثر عدد طلبتها لأن انعكاسات ذلك على تطوّرها ونهوضها عظيمة للغاية. وبالتالي فإنه من مصلحتها توفير التكوين الضروري والراقي لهؤلاء الطلبة حتى يقوموا بدورهم يوم تخرّجهم على أحسن وجه. ولكن كثرة عدد الطلبة لا تصبح مشكلا إلا إذا كان نظام الحكم، كما هو الحال في بلادنا، نظاما استبداديا وتابعا، وبالتالي لا يملك مشروعا وطنيا للنهوض بالبلاد وهو ما يحتم عليه ساعتها استغلال كل الطاقات المتوفرة لتحقيق هذا المشروع. وفي مثل هذه الحالة، أي في مثل حالتنا اليوم فإن الحل لا يكمن في الدعوة إلى التخلي عن مجانية التعليم، وإلى خوصصته، بل في مقاومة نظام الحكم وإجباره على تعديل سياساته، في أفق تغييره تغييرا جذريا وإقامة نظام ديمقراطي، وطني، شعبي على أنقاضه، يولي التعليم العالي المكانة التي يستحق في مشروعه المجتمعي.

تلك هي الأفكار التي أردنا التعبير عنها دفاعا عن تعليم عالي، مجاني وراق.

علي العروسي



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني