الصفحة الأساسية > كتب ومنشورات > في اللائكية > أيّ نظام سياسي يريد الظلاميون؟ (مقتطفات من دراسة في خط "الاتجاه الإسلامي")
في اللائكية
أيّ نظام سياسي يريد الظلاميون؟ (مقتطفات من دراسة في خط "الاتجاه الإسلامي")
"الإسلاميون" يريدون إقامة نظام فاشي

لا يخفي الإسلاميون أن نمط الدولة التي يريدون إقامتها هو نمط تيوقراطي يعتمد الدين في مفهوم الحكم وفي أسلوب ممارسته. ففي البيان التأسيسي "لحركة الاتجاه الإسلامي" وقع التأكيد على أن هدف الحركة هو إرجاع الاعتبار للدين في مختلف المجالات بما في ذلك السياسة، وفي المائدة المستديرة التي نظمتها مجلة "المغرب" [1] حول موضوع "الإسلام والعمل السياسي" أكد الحبيب السويسي، عضو لجنة الإعلام التابعة "للاتجاه الإسلامي" أن لا تفريق بين الدين والسياسة مستندا إلى قولة لأبي بكر الخليفة الأوّل: "والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة"، أي بعبارة أخرى "والله لأقاتلنّ من فرق بين الدين والسياسة".

ونفس هذه الفكرة يقع التأكيد عليها في نص "رؤية في الخطة المرحلية للعمل السياسي"، إذ جاء في التوطئة: "إن السياسة يجب أن تكون محكومة بالدين تتبع منهجه وتقف عند حدوده وذلك سواء في مرحلة الحركة أو الدولة". والسؤال المطروح هو: ما هي طبيعية هذا النظام الذي يريد الإسلاميون إقامته وهل يستجيب لمطامح الجماهير الشعبية في أخذ مصيرها بيدها؟

لن نتردّد لحظة في الإجابة بأن دولة الإسلاميين لن تكون سوى دولة معادية للديمقراطية، فاشية مهما كانت الأغلفة التي ستتغلف بها، ولو حاولنا أن نبحث عن مصدر الفاشية بالنسبة لهذه الدولة لوجدناه بالضبط في قيامها على الدين، في الصفة الدينية نفسها التي يعتمد عليها الإسلاميون لتجميل نمط نظام الحكم الذي يرتؤونه. فمتى ارتبط الدين بالدولة وأصبح الأساس الذي تقوم عليه إلا وساد التعسف والظلم والجور. وليس من الصعب تفسير ذلك، إذ المسألة مرتبطة بمعادلة بسيطة: بما أن الدين هو ركيزة الحكم، وبما أن الشريعة مصدرها الإلهي، فهذا يعني أن أحكامها مقدّسة، ومطلقة وغير قابلة للنقاش والتحوير. وبما أن السلطة الإلهية، ليست في الواقع سوى سلطة الخليفة، أو الأمير الذي يسهر على صيانة تطبيق الشريعة، فإن مؤسسة الخليفة أو الأمير تصبح بدورها مقدسة، تمثل سلطة لها صلة بالسماء. وهذا المفهوم للسلطة هو الذي تلخصه نظرية "الحاكمية لله" أو "الحق الإلهي في الحكم". ومثل هذا النظام السياسي المؤسّس على الدين الذي ساد خلال قرون طويلة في أوروبا وساد ومازال حتى الآن في العديد من البلدان ذات الديانة الإسلامية، هو نظام قهر، "طاغوتي" (بلغة الإسلاميين) لأنه:

أولا: ينفي كل دور نشيط للجماهير الكادحة في تسيير شؤونها بنفسها، بأن تلعب دور المشرّع والمنفذ في الآن ذاته مباشرة وبواسطة هياكلها التمثيلية، لأنه يعتبر أن التشريعات مصدرها الله وأنها قد انتهت وهي موجودة في الكتاب. وأقصى ما يمكن أن تفعله الرعية، بل أولي الأمر منها، هو الاجتهاد في نطاق تلك التشريعات أي دون الخروج عن مبادئها الأساسية.

ثانيا: ينبني على الأوتوقراطية، أي على الحكم الفردي المطلق. وليس من الغريب أن تتخذ الدولة الدينية هذا الشكل فما دام التشريع واحدا، والأحكام قدسية، مطلقة، ومادام الجمهور لا دور له، فإن الشكل الذي يناسب هذه الدولة هو الحكم الفردي المطلق الذي يتخذ بدوره، ومن أجل تبريره، صبغة ما ورائية، قدسية فيصبح الخليفة أو الأمير سلطة فوقية، محملة برسالة تمثيل الله فوق الأرض. وفي هذا الصدد يستند الغنوشي إلى قول منسوب إلى محمد "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" وفي مكان آخر يقول : "لقد كان الإنسان وسيبقى في حاجة إلى النبوّة لكي يفقه معنى وجوده وليستبين نهج حياته وليقوم بدور الخلافة" وهو يضيف أن "أحد شرطي خلود الإسلام وبقاء أمّته هو أن الله قد تكفل بمنح الأمة الإسلامية رجالا أكفاء أقوياء يرثون الأنبياء" [2]. وهؤلاء الرجال هم الخليفة بالنسبة للبعض والإمام بالنسبة للبعض الآخر، والأمير بالنسبة "للاتجاه الإسلامي" إذا أردنا أن نتوسّع في معنى كلام راشد الغنوشي. فعجز الشعب وقصوره هما إذن سبب التدخل الإلهي فوق الأرض، الذي يبعث من وقت إلى آخر مرشدا للأمة.

بهذه الصورة يبرّر "الإسلاميون"، شأنهم شأن دعاة الأنظمة الدينية في كل أصقاع الدنيا، الطابع التيوقراطي والأوتوقراطي للنظام السياسي الذي يريدون إقامته، وهو مفهوم للحكم موروث من عهود العبودية والإقطاع البائدة، حينما كانت الطبقة المسيطرة على المجتمع في حاجة، لاستعباد الطبقات الأخرى المغلوبة على أمرها، إلى عنصر خارجي، ما ورائي، ترهبها وترغبها به.

إن هذه الدولة الدينية التي يريد تركيزها الإسلاميون، ليست كما يدّعون دولة فوق المجتمع "دولة الله" "لا رأسمالية" و"لا شيوعية" بل هي دولة طبقية، رغم كل القدسية والهالة التي يحيطونها بها. فالدولة في أيّ مجتمع كان ليست سوى أداة طبقية، أداة الطبقة التي تسيطر على وسائل الإنتاج الأساسية في المجتمع لتضطهد بها الطبقات الأخرى.

ولكن من تخدم دولة الإسلاميين، ما هي الطبقة أو الطبقات التي هي في حاجة إلى التسلط والقهر باسم الدين لصيانة مصالحها؟ أهي الطبقات الكادحة؟ كلاّ، لأن هذه الدولة موجهة لقمعها هي بالذات وحرمانها من تسييرها لنفسها بنفسها فالحبيب السويسي مثلا عندما يتحدث عن "مساوئ النظام الديمقراطي" يشير إلى "جعله الشعب مصدرا مطلقا للتشريع" أما أبو الأعلى المودودي زعيم الجماعة الإسلامية بباكستان وأحد مراجع الإسلاميين بتونس فإنه يقول صراحة "إن الشعب ليس حرّا في اختيار نظام الحكم الذي يريد... فهم معرضون للخطيئة ما لم يلزموا أنفسهم بحكومة تقوم على أسس دينية". كما يقول في مقام آخر، "إن نظرية الإسلام السياسية تتمثل في نزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر لأن الله هو المختص بذلك الأمر وحده... وبما أن الديمقراطية تكون فيها السلطة للشعب جميعا... فلا يصح إطلاق كلمة الديمقراطية على نظام الدولة الإسلامية بل أصدق منها تعبيرا كلمة الحكومة الإلهية أو التيوقراطية" [3]. إن هذه الحكومة تستبعد مثلما نرى مساهمة الشعب في الحياة السياسية، بل هي موجهة ضدّه، وينتج عن ذلك أن الفئة الاجتماعية التي يروم الإسلاميون الدفاع عنها وحراسة مصالحها هي الفئة المستشرية في المجتمع التي هي في حاجة إلى مثل هذا البناء الفوقي للحفاظ على قاعدتها في وجه الكادحين الذين يهددونها.

إن محتوى التشريع الديني مثلما سبق أن رأينا يقدّس الملكية الفردية لوسائل الإنتاج والمال، وقد خصّص عقاب قطع اليد لمن يمسّها، وهو يعتبر الفوارق الطبقية أمرا طبيعيا. لذلك فالبورجوازية نفسها والامبريالية التي ترتبط بها بإمكانهما أن يجدا في الإسلاميين في ظل أزمة حادة خير واق لمصالحهما من خطر التغيير الجذري، من الاشتراكية، بقطع النظر عن تظاهرهم بمعاداة "الاستبداد" و"الاستغلال". في ظل النظام الإسلامي الأوتوقراطي، لا يمكن أن يتصوّر الكادح أنه سيجد بصيصا من الحرية، حتى مثل ذلك البصيص من الحرية الشكلية الذي يمكنه أن يفرضه في لحظات معينة من الصراع الطبقي على الممثلين التقليديين للبورجوازية. فهذا النظام سيكون معاديا بالضرورة لحرية المعتقد معاداة مطلقة، جديرة بعصور الانحطاط المظلمة. فلا معتقد بالنسبة للإسلاميين سوى الإسلام، والإسلام بالطبع كما يفهمونه، ويؤوّلونه. ومن هذا المنطق فإنهم لا يعادون التيارات المادية والعقلانية فحسب، التي يعتبرونها مفسدة في الأرض، بل وكذلك التيارات الدينية التي لا تتفق معهم والتي يعتبرونها منافقة. ويمتدّ عداء الإسلاميين لحرية المعتقد إلى حاملي الأديان الأخرى. فلا دين بالنسبة إليهم إلا الإسلام. يقول راشد الغنوشي في مقال له بمجلة المعرفة:

"لقد كان المسلمون - قبل أن يبرز فيهم الساسة المهزومون والعلماء المهزومون ينطلقون في حوارهم من أرضية عقائدية تقوم على اعتبار الإسلام الحقيقة المطلقة الوحيدة المنزلة من عند الله، والتي حافظت على نقاوتها من كل شوب، الحقيقة التي استوعبت كل رسالات الأنبياء السابقين (...) ومن ثم نفي الإسلام بشدة مصطلح الديانات السماوية إذ الدين واحد، "إن الدين عند الله الإسلام" [4]. وهذا المفهوم ليس متخلفا فقط على النظرية الاشتراكية في مجال المعتقد، ولكنه متخلف حتى عما حققته البورجوازية الصاعدة في أوروبا في القرون 17 و18 و19، حينما أقرّت شكليا بأن لا تفريق بين الناس على أساس معتقدهم وبتساوي كل الديانات.

والإسلاميون من موقع نظرتهم التيوقراطية والأوتوقراطية للحكم يعادون كذلك حرية التعبير والتنظيم. إن اعتبار الدين، الحقيقة المطلقة، الوحيدة والمقدسة، يؤدّي حتما مثلما كان الشأن ولا يزال في ممارسة كل الأنظمة التيوقراطية إلى وأد حرية الفكر والتعبير، إذ أن كل ما فيه نقد أو تجاوز لهذه "الحقيقة" يعتبر زندقة وكفرا، ويجب التنكيل بصاحبه، والتاريخ مليء بالأمثلة عن الرؤوس التي قطعت والأجسام التي جلدت لا لشيء إلا لأن أصحابها عُدّوا من "الزنادقة".

واليوم يشكل الانتماء إلى الفكر المادي في العديد من الدول التيوقراطية جريمة في حد ذاتها يعاقب "مرتكبها". أما بخصوص حرية التنظيم فالإسلاميون في أوج فترات نشاطهم بالجوامع والمساجد كانوا يقسمون القوى السياسية إلى "حزب الله" و"حزب الشيطان". فالله واحد ودينه واحد وحزبه واحد أيضا. وكل من يخرج عن هذا فهو خارج عن "الأمة"، وينتمي إلى حزب الشيطان. ولنا في إيران خير أنموذج على قهر النظام الديني واستبداده، حيث يتولى نظام الخميني "الإمام المعصوم" قمع الشعوب الإيرانية والقوى الديمقراطية بشكل رهيب وحتى حزب "توده" الانتهازي، الذي خدم الخميني أحسن خدمة وساعده على قمع القوى التقدمية، لم تقه خيانته من غدر الإمام. وفي إيران لا تتمتع الأقليات الدينية بأيّ حق سياسي، فالسياسة حكر فقط على المسلمين والشيعة خاصة.

ولا يخفي الإسلاميون في تونس نيّتهم عند وصولهم إلى السلطة، في تطبيق الحدود الإسلامية، التي تتمثل في جملة من العقوبات البدنية، على مرتكبي بعض الجرائم كقطع يد السارق، ورجم الزاني والزانية، والجلد، والقتل عملا بمبدأ القصاص [5]. والواقع أن الإسلام لا ينفرد بهذه العقوبات ولكنها خاصية كل المجتمعات العبودية والإقطاعية القديمة، التي كان فيها مفهوم احترام الذات البشرية غائبا.

وقد ورثت البرجوازية في عصرنا الراهن عن تلك العهود المظلمة كل مساوئها لكنها صقلتها بالاعتماد على الطرق الأكثر تهذيبا التي استعملت فيها أحدث الاكتشافات التقنية وكذلك الطب فأصبح التعذيب تقنية من جملة التقنيات. والإسلاميون عندما يعلنون عن تمسّكهم بتطبيق تلك الحدود إنما يعلنون العودة إلى الطرق الأكثر وحشية التي تعتمد مبدأ الانتقام كأساس للإصلاح والتي لا تراعي العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للسرقة أو الزنا وغيرها وتعامل مرتكبها كشرير بطبعه.

"الإسلاميون" يتستّرون حاليا بالديمقراطية

غير أن الإسلاميين بدؤوا منذ قرابة السنتين يتظاهرون بتغيير سلوكهم السياسي، يزعمون أنهم يقبلون "بالتعددية السياسية" وبحق الشعب في اختيار من يمثله حتى ولو كان حزبا شيوعيا. كما أنهم أصبحوا يمدّون يدهم لأحزاب وحركات سياسية أخرى من أجل "العمل المشترك". وهذا السلوك لا يغيّر في حقيقة الأمر من طبيعة الإسلاميين في شيء بل إنه مجرد تكيف مع الواقع لا يمكن فهمه إلا في نطاق "تكتيك الدعوة" الذي يعتمدون فيه على كل الطرق الممكنة بغية الوصول إلى السلطة. وساعتها ينفذون برنامجهم الفاشستي.

لقد كشف راشد الغنوشي بوضوح عن هذا التكتيك في سنة 1981 حينما قال: "هكذا أثمر عمل التوعية الإسلامية استجابة الجماهير في قطاعها العريض لهذه الدعوة، فرضيت بتحكيم الإسلام في حياتها قامت للإسلام دعوته، وكان على تلك الدعوة أن تنفذ حكم الله وتمارس مهامها في نشر العدل ومنع الظلم بين رعيتها" [6]. فظهور الإسلاميين إذن بمظهر "الحركة الديمقراطية" ليس سوى واجهة لا تغيّر من جوهر نظرتهم إلى سلطة الدولة التي يريدون تركيزها وهي الدولة التيوقراطية التي "تنفذ حكم الله" وتفرض أحكامها على المجتمع بالقوة والعنف الرجعيين.

ليست الديمقراطية مسألة شكلية، تتمثل فقط في التصريح باحترام حق الشعب في أن يختار من يمثله. فالنازيون في ألمانيا، كانوا يتظاهرون أيضا بقبول "اللعبة الديمقراطية"، ووصلوا إلى السلطة عن طريق "انتخابات عامة". والجميع يعلم ما فعلوه بالطبقات الكادحة الألمانية وشعوب البسيطة. لذلك فالأهم من كل شيء عندما يتناول المرء بالدرس حركة سياسة معينة، أن يقف على نوعية النظام الاجتماعي الذي تدافع عنه والسلطة التي تريد تركيزها انطلاقا من برنامجها وممارساتها لا انطلاقا مما تقوله عن نفسها في مجال الدعاية.

إن تكتيك الدعوة، وهو تكتيك الإسلاميين قبل وصولهم إلى السلطة أي جملة الطرق والوسائل التي يستعملونها من أجل الإعداد للاستيلاء على الحكم، هو سلوك كامل وشامل. ولعل وثيقة "رؤية في الخطة المرحلية للعمل السياسي" هي أكثر وثائق "الاتجاه الإسلامي" التي تحوصل مقومات هذا السلوك. إنه يذكرنا بتكتيكات كل الحركات الفاشية قبل الوصول إلى السلطة والتي تتخذ من الماكيافيلية والإنتفاعية أساسا لنشاطها السياسي من أجل الوصول إلى الغاية. فهذا التكتيك يجيز المراوغة والمغالطة والإيمان بشيء والتصريح بضده، واستعمال هذا الطرف لتكسير الطرف الآخر، الخ. وحتى نأخذ فكرة ملموسة لنتمعن في هذه "الدرر".

تتناول الوثيقة المذكورة أعلاه العلاقة بالسلطة وبالحركات السياسية والاتحاد العام التونسي للشغل والأساليب التي يستعملها "الاتجاه" إزاءها جميعا. ففي علاقة بالسلطة يجيز "تكتيك الدعوة" التظاهر بمعارضتها من ناحية وربط الجسور معها من ناحية ثانية قصد الوصول إلى اتفاقات على حساب الطبقة العاملة والكادحين عموما. يؤكد الإسلاميون في هذا الصدد على إمكانية ربط صلة مباشرة أو غير مباشر ة مع بعض أفراد النظام قصد الاطلاع والتعرّف عن قرب عمّا يدور داخله وكذلك "لهدف التعريف بحقيقة مواقفنا وفكرتنا والعمل على تحييد هؤلاء إن أمكن لكن هذه الصلة تكون مشروطة بـ"... عدم التكلم الرسمي باسم الحركة... عدم الالتزام بأيّ اتفاق"، الخ.

أمّا في خصوص التعامل مع ما يسمونها "الأطراف المبعدة" من النظام فإنهم يحددون التكتيك التالي: "أن تسعى الحركة إلى إقامة علاقات طيبة معهم ذلك أن هذه العلاقات من شأنها أن تصحح كثيرا من المفاهيم والتصورات العالقة بأذهانهم حول "الاتجاه الإسلامي" وبحكم موقع هؤلاء الحالي خارج نطاق النظام وعدم الارتباط بمواقفه يكونون أكثر استعدادا لتقبل الأفكار الجديدة وأكثر استعدادا للتعامل معنا". إن هذا التكتيك يهدف إلى الاندساس في صلب السلطة وتحقيق تحالف مباشر مع الكتلة الحاكمة لاقتسام الحكم معها. وفي هذا السياق هناك أمثلة ما انفكت تتراكم ويمكن استخلاص بعض الدروس العامة منها. ففي باكستان بعد أن استولى العسكريون الموالون للامبريالية الأمريكية على السلطة التجؤوا تحت ضغط الأزمة الخانقة بتدبير من الامبرياليين إلى التحالف مع "الجماعة الإسلامية" التي يتزعمها الظلامي أبو الأعلى المودودي، والتي تحوّلت إلى ركيزة من ركائز النظام القائم في قمع الشعب والقوى التقدمية. وقد أدى هذا التحالف مع "الجماعة" داخليا للتصدي لكل نفس ديمقراطي وتحرك شعبي وخارجيا لمواجهة الاتحاد السوفيتي وحليفه النظام الهندي باعتبار أن "الجماعة" عدوّ لدود للشيوعية حتى وإن كان الاتحاد السوفيتي قد طلق الشيوعية من زمان وتحوّل إلى بلد بورجوازي امبريالي اشتراكي.

أمّا المثال الآخر، فهو السودان. فأمام الأزمة الخانقة التي يعيشها نظام النميري كنتيجة لسياسته الرجعية، اختار طريق التحالف مع الإخوان المسلمين لمواجهتها فحلّ المؤسسات التمثيلية الشكلية وألغى العمل بالقوانين "الوضعية" وأعلن العمل بالإسلام فكوّن مجلس شورى وتقاسم الحكم مع الإخوان المسلمين. وبمثل هذا التحالف أصبح يكسب نظامه شرعية إلهية ويبيح له ارتكاب أفظع الجرائم في حق الشعب السوداني.

والمثال الثالث الذي يمكن أن نسوقه بهذا الصدد هو المثال المصري. ففي الانتخابات الأخيرة وبرضى الحزب الحاكم تحالف الإخوان المسلمون مع حزب الوفد وتحصّلوا على مقاعد في البرلمان. وقد يكون مؤشرا لدخولهم في المستقبل مؤسسات السلطة: الحكومة وغيرها.

كلّ هذه الأمثلة تبيّن أن النظام الإسلامي يمكن أن يكون نظام أزمة، حينما تنفجر الأوضاع الاجتماعية والسياسية وتعجز القوى الثورية على تقديم البديل، فيشكل الحلّ الأكثر رجعية بالنسبة للبورجوازية والملاكين العقاريين والامبريالية ليتحكموا في الأوضاع. ولا يخرج النظام الإيراني في نهاية الأمر عن هذا الإطار على الرغم من أنه جاء على إثر ثورة شعبية أطاحت بنظام الشاه الدموي. فقد تبيّن اليوم أنه يمثل المعرقل أمام تطور هذه الثورة في اتجاه القضاء على النظام الاجتماعي القديم وتعويضه بنظام جديد قائم على العدل والديمقراطية، وأن الطبقات الرجعية والامبريالية نفسها تجد فيه خير واق لمصالحها من الحلول الثورية.

وبالاستناد إلى كل هذه الأمثلة، ليس من الغريب أن ينهج الإسلاميون في بلادنا نهج الإسلاميين في باكستان أو السودان أو مصر، للوصول إلى السلطة، عندما لا تجد الطبقات الرجعية أي مخرج أمام تصاعد الحركة الجماهيرية وتطوّر المعارضة الجذرية، فيشكلون درعا لها ويقيمون وحدهم أو بالتحالف مع إحدى الفرق الحاكمة نظاما ظلاميا قروسطيا.

أما إزاء الحركات السياسية المعارضة الموجودة على الساحة فإن ما يقود الإسلاميين هو أولا وقبل كل شيء كيفية استعمال إحداها لضرب الأخرى والاندساس في بعضها لفرقعتها وما إلى ذلك من الأساليب الجهنمية التي لا تخضع لأي أخلاقية سياسية. بينما يحصرون سلوكهم إزاء ما يسمونهم باليسراويين في ضرورة "دفعهم في مواجهة النظام" ويخصّص الإسلاميون فقرة لتحديد تكتيكهم إزاء الاتحاد العام التونسي للشغل. وممّا يلفت الانتباه فيه تأكيدهم على "المراهنة على شق عاشور في مواجهته للتيارات اليسراوية في صلب الاتحاد".

كل هذه التكتيكات مثلما نرى ترتكز على الإنتفاعية، على استعمال كل الطرق الممكنة قصد تقوية الاتجاه الإسلامي عن طريق الاندساس والدسائس.

الشعب يطمح إلى إقامة نظام ديمقراطي

إن الشعب التونسي الذي كافح البايات والاستعمار الفرنسي من أجل انعتاقه ويكافح حاليا من أجل الحصول على حقوقه الديمقراطية، من أجل حرية التعبير والتنظيم والاجتماع والتظاهر والإضراب والانتخاب ليس في حاجة إلى دكتاتورية جديدة، حتى ولو كان شعارها الإسلام، دكتاتورية تسلبه كل حرياته وترمي به في ظلمات عصور الانحطاط كما أن الشعب التونسي ليس في حاجة إلى "أمير" ينضاف إلى سلسلة الحكام المطلقين الذين عرفهم في تاريخه وعرف في ظلهم القهر والاضطهاد.

ليس عصرنا عصر أئمة وأمراء. بل عصر أصبحت فيه الطبقات الكادحة وفي مقدمتها الطبقة العاملة تطمح إلى تشييد نظام سياسي يوفر لها قانونا وممارسة كل حقوقها الديمقراطية. وهذا النظام هو الذي يناضل من أجله الماركسيون اللينينيون وهو نظام الديمقراطية الشعبية الذي يتحقق على قاعدة تغيير القاعدة الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية تغييرا جذريا.

إن دولة الديمقراطية الشعبية التي تضمن لكل الشعب حقوقه السياسية هي دولة لائكية أي لا تتدخل في قضية المعتقد وتعتبرها قضية خاصة بالنسبة لكل مواطن. والواقع أن اللائكية عرفت تشويهات لا تحصى من قبل أنصار الدولة الدينية. فهم يروّجون أن الدولة اللائكية معادية لحرية المعتقد التي تضمنها حسب زعمهم الدولة الدينية بينما العكس هو الصحيح. فالدولة اللائكية ظهرت تاريخيا لحماية حرية المعتقد، بعد أن انتهكتها الدولة الدينية طوال قرون. أن تكون الدولة لائكية فذلك يعني أنها تلازم الحياد في قضية المعتقد وليست تمنع ممارسة المعتقدات، يعني أنها لا تتدخل لفرض أحدها على المواطنين، ولا تخضع ممارستهم لحقوقهم السياسية لمعتقدهم، ولا تقمعهم لأنهم يؤمنون بدين ما وإنما تترك لهم المجال واسعا لممارسة معتقداتهم: الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو غيرها.

كما تضمن لهم أيضا حق عدم الإيمان بأيّ معتقد، بينما الدولة الدينية تنفي كل هذا، فتفرض شكلا من أشكال المعتقد، وتحرم الناس من حقوقهم السياسية لأن معتقدهم ليس معتقد الحاكم وتبيح لنفسها اضطهاد المواطنين بدعوى تمثيل الله فوق الأرض. فالدولة اللائكية إذن على عكس الدولة الدينية، توسّع بصورة مطلقة حرية المعتقد ولا تعترف إلا بالصراع الحر بين المعتقدات عن طريق "الأسلحة الفكرية والفكرية فقط".

هنالك "حجة" ثانية يروّجها أعداء الدولة اللائكية، وهي قولهم: "بما أن الشعب كله أو أغلبه مسلم فلماذا يحرم من أن تكون دولته معتنقة لدينه؟" يبدو هذا الموقف ظاهريا ديمقراطيا. كأنه ينمّ عن احترام "حق الأغلبية في المجتمع"، ولكنه في جوهره معاد للديمقراطية. ففي ظل الديانة الواحدة توجد مذاهب ولو أخذنا مثال تونس فقط، ولو حصرنا أنفسنا في نطاق الأحزاب السياسية الدينية لوجدنا عدة فرق، كل منها يعتبر نفسه الممثل الوحيد للدين ويكفّر ما عداه من الأحزاب الأخرى. وفضلا عن ذلك يوجد أتباع ديانات أخرى وأشخاص لا يؤمنون بأيّ دين فهل من باب الديمقراطية أن تفرض فرقة من الفرق الدينية تحت غطاء أن "الشعب مسلم" معتقدها وأن تقمع جملة المعتقدات الأخرى وتحرمهم من حقوقهم السياسية؟

كلا إنه عين التعسف، وتاريخ الأنظمة الإسلامية موجود ليسفه "مزاعم" أنصار الدولة الدينية. لذلك تبقى الدولة اللائكية التي ينادي بها الماركسيون اللينينيون وكل التقدميين الحقيقيين أكبر ضمان لحرية المعتقد في بلدنا.

ودولة الديمقراطية الشعبية اللائكية تضمن للكادحين أيضا ممارسة حقوقهم السياسية بصورة فعلية. فهي لا تكثر من الحديث عن حرية التعبير والتنظيم والاجتماع دون فعل، ولكنها توفر الشروط المادية لممارستها، فهي تضرب احتكار الرأسماليين لمخازن الورق والمطابع ودور النشر وتضعها تحت تصرف الشعب الكادح، وتسن القوانين التي تحمي حرية التعبير من تعسف الاستغلاليين والمضطهدين، وهي تضع القاعات العمومية على ذمّته ليجتمع فيها، كما أنها تفتح له باب حرية التنظيم على مصراعيه، وتمكنه من المساهمة النشيطة في تسيير شؤون الدولة سواء بصفة مباشرة عن طريق مناقشة برامجها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وقوانينها، الخ. أو عن طريق هياكلها التمثيلية التي تنتخبها بصفة حرّة ومباشرة وسرية ولا يكون دور هذه الهياكل شكليا كما هو الحال في ظل الديمقراطية البورجوازية ولكنه يكون فعليا باعتبارها ستشكل السلطة العليا بالبلاد التي تلعب دور المشرع والمنفذ في نفس الوقت كما يكون للشعب عليها حق المراقبة وحق سحب الثقة من كل من يحيد عن مصالحه.

"أطروحات" العدد المزدوج 5 و6

هوامش

[1"المغرب" مائدة مستديرة حول "الإسلام والعمل السياسي" الأعداد 81، 82 و83.

[2مجلة "أطروحات" - نظرية السلطة الدينية في الخطاب السلفي الإسلامي، عدد 2 ص 34.

[3المرجع السابق.

[4مجلة "المعرفة" عدد 6 السنة 5 – 25 جوان 1976.

[5"المغرب" مائدة مستديرة حول "الإسلام والعمل السياسي" الأعداد 81، 82 و83.

[6راشد الغنوشي - الإسلام والعنف، جريدة "المستقبل" 23 مارس 1981.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني