الصفحة الأساسية > كتب ومنشورات > في اللائكية > لا مجتمع مستقبليا دون دولة لائكية
في اللائكية
لا مجتمع مستقبليا دون دولة لائكية
(رد على نداء المثقفين)

صدر هذا النداء خلال شهر فيفري في كل من جريدة "الموقف" و"البطل" و"الطريق الجديد" و"المستقبل".

نشرت عدّة صحف في الأيام الأخيرة نداء أصدرته مجموعة من المثقفين التونسيين تحت عنوان "من أجل بلورة مشروع مستقبلي للدولة والمجتمع". وهذا النداء موجّه إلى السلطة كما هو موجّه إلى الرأي العام الوطني بمختلف مكوناته. وقد أراده أصحابه إسهاما منهم في معالجة "مسائل جوهرية" تشغل بالهم. وعلى الرغم من الصبغة العامة لعنوان النداء وما توحي به من إمكانية تناول عديد القضايا المتصلة بالدولة والمجتمع فإن محتواه اقتصر على تناول نقاط محدودة تتعلق بتحوير الدستور الحالي وبعض القوانين الخاصة بالحريات وببعض خصائص الخطاب السياسي الرسمي.

لن أتعرّض لكل ما ورد في هذا النداء ولجميع الإشكاليات التي يثيرها بل سأركز ردّي على نقطة بالغة الأهمية تمّ تناولها وهي النقطة الخاصة بعلاقة الدين بالدولة. جاء في النداء في الفقرة المتعلقة بالإسلام ما يلي: "ورد في توطئة الدستور "أن هذا الشعب... مصمّم على تعلقه بتعاليم الإسلام". كما ورد في الفصل (1) "أن تونس دولة ... الإسلام دينها" إنه نظرا لمكانة الإسلام في بلادنا، دينا وتراثا وثقافة... نرى أن تستبدل الجملة المتصلة بالإسلام في هذا الفصل بنص مستقل في مادة مستقلة بالقول "الإسلام دين الدولة" وهكذا يضمن الموقعون على النداء "مشروعهم المستقبلي" ضرورة تأسيس الدولة على الدين أو بعبارة أوضح ضرورة إرساء دولة دينية، إذ لا معنى لـ"الإسلام دين الدولة" غير هذا.

لئن كان صدور هذا الموقف عن البعض ممّن أمضوا على النداء لا يثير أيّ استغراب لما عوّدونا به من "تقلب" و"تأقلم مستمر" مع الأوضاع وفقا لمصالح سياسية ضيقة وظرفية فإن توقيع مثقفين آخرين عليه ممّن عوّدوا الرأي العام بنضالهم من أجل الديمقراطية هو الداعي إلى الإستغراب باعتبار أن هذه المسألة، مسألة علاقة الدين بالدولة هي من ضمن المسائل الهامة التي تثمل جزءا لا يجزأ من المسألة الديمقراطية العامة. وحسب الموقف منها ينقسم الناس في نهاية المطاف إلى قسمين، الديمقراطيون وهم دعاة الفصل بين الدين والدولة. وأنصار الطغيان والتسلط وهم دعاة الدولة الدينية. وما البحث عن موقع بين هؤلاء وأولئك سوى محاولة غير متماسكة قائمة عل التلفيق الذي سرعان ما تنكشف حدوده.

إن الهجمة التي تشنها القوى السياسية الظلامية المتلاعبة بمشاعر الناس الدينية لتوظيفها في خدمة مواقف وسياسات رجعية، وهي هجمة تهدّد إذا ما تمكنت هذه القوى من السيطرة عل المجتمع، بالإجهاز على كل خيط من خيوط النور فيه، الأمر الذي أربك ويربك العديد من الناس، إن هذه الهجمة لا ينبغي أن تكون مدعاة للتخاذل الفكري والانتهازية السياسية بل على العكس من الواجب أن تشكل بالنسبة لأنصار الديمقراطية والتقدم الحقيقيين، حافزا للمزيد من الصرامة والنضالية الفكرية والتماسك السياسي البعيد عن الحسابات الظرفية الضيقة، وهو ما من شأنه أن يسدّ الطريق بجدية أمام تقدم جحافل الظلام.

موقف "ماضوي"

إن موقف الموقعين على النداء من علاقة الدين بالدولة لا يحتوي على أيّة بذرة لنظرة مستقبلية تقدمية بل هو موقف "ماضوي" ودون حتى ذلك الموقف الوارد في الدستور الحالي والذي يترك الباب مفتوحا أمام شيء من التسامح المعتقدي، فهؤلاء يتعمّدون الخلط بين التراث والثقافة من جهة والدين- المعتقد من جهة ثانية فيحوّلون المعتقد جزافا إلى عنصر من عناصر الهوية وكأن الهوية دينية أو لا تكون ثم يعتمدون ذلك لتبرير دعوتهم إلى تأسيس الدولة على الدين.

ينبغي التأكيد دون لفّ ودوران بعيدا عن التلفيق والنفاق، أن تأسيس الدولة على الدين يعني أنها ستضع أنفها بشكل أكبر وأهم في الشؤون الدينية للناس وهو ما يعرف الجميع عاقبته أي فتح الباب أمام الجور والتعسّف والتمييز باسم الدين. فتأسيس الدولة على الدين أو "توجيه الدين للدولة" يعني منطقيا تحوّله إلى مصدر لتشاريعها. وفي هذه الحالة ما المانع من العودة إلى ممارسة الجلد والرجم وبتر الأطراف؟ وما المانع أيضا من العودة إلى تعدّد الزوجات والتطليق والاسترقاق ومن الدعوة إلى مراجعة كل المكاسب المحققة في هذا الميدان أو ذاك بدعوى أنها غير دستورية؟ ثم ما المانع من تحوّل الحاكم إلى "ممثل لله فوق الأرض" يفصل الدين حسب مصالحه فيستغل ويضطهد ويقتل باسم الدين كما جرى على مرّ القرون الماضية التي سيطرت فيها الدولة الدينية؟

من الأكيد أن الموقعين على النداء سيردّون بأن ليست هذه نظرتهم وأنهم رغم دعوتهم إلى ربط الدين بالدولة، ينادون بـ"حرية المعتقد والحفاظ على حقوق المرأة ومساواتها وإرساء العدالة الاجتماعية ودعمها" [1]. وفي الواقع فإن هذا الموقف يسقط في التلفيق. فالممضون على النداء أدرى من غيرهم بأن الشريعة تميّز بوضوح بين الجنسين وتقيم الفوارق بين الطبقات وتبيح الاسترقاق والعقوبات الجسدية. ومحاولة الإتكال على "الاجتهاد" للخروج من هذا التناقض لا تحل المشكل بصورة جذرية ومبدئية. فـ"الاجتهاد" له حدوده "الشرعية" المعروفة التي لا يمكن تجاوزها. ومهما يكن من أمر هذا "الاجتهاد" فإنه لا يسدّ الباب أمام الجور والتعسف باسم الدين، اللذين لا يخدمان سوى مصالح الطبقات المحظوظة المعادية للديمقراطية والتقدم. ولابدّ هنا من توجيه السؤال التالي إلى بعض الموقعين على النداء: إذا كنتم تناضلون من أجل إلغاء عقوبة الإعدام فكيف يمكن تحقيق ذلك في ظل الدولة الدينية والحال أن القصاص يمثل إحدى دعائمها؟ وإذا كنتم تناضلون من أجل "مجتمع مدني" قائم على "مؤسسات مدنية" فهل تعتبرون أن ذلك ممكن التحقيق أيضا في ظل مثل هذا النمط من الدولة؟

الدولة اللائكية ركيزة لكل مشروع تقدمي

إن النضال من أجل فصل الدين عن الدولة يمثل اليوم أكثر من أيّ وقت مضى شرطا أساسيا لتقدّم المجتمع السياسي والحضاري وهو أمر يخدم الطبقة العاملة والشعب صاحبي المصلحة في هذا التقدم. ولابدّ من الإشارة إلى أن القوى السياسية الظلامية وغيرها من القوى الرجعية روّجت وتروج وابلا من الأكاذيب والافتراءات بشأن اللائكية (أو العلمانية). فهي تزعم أن اللائكية تعني الإلحاد وقمع المؤمنين ومنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية في كنف الحرية والطمأنينة. وفي الحقيقة لو عكسوا لأصابوا. فليس ثمة من ضامن لحرية المعتقد أكثر من الدولة اللائكية.

إن اللائكية، وليكن ذلك واضحا للجميع، لا تعني الإلحاد، بل فقط تحويل الدولة إلى مؤسسة مدنية تضمن مساواة أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات مهما كان جنسهم أو معتقدهم أو مذهبهم. فيمارس المواطن معتقده بكل حرية ودون أن تتدخل الإدارة لتفرض عليه هذا المعتقد أو ذاك أو لتميّز بين هذا المواطن أو ذاك بسب معتقده أو لتمنع الناس من التفكير الحرّ بدعوى أن ذلك مناف لتعاليم الدين، الخ. بعبارة أوضح يعتبر المعتقد في ظل الدولة اللائكية مسألة شخصية يحسمها الفرد بينه وبين نفسه دون أن ينجرّ عن ذلك مساس بحقوقه أو بذاته.

لقد بيّنت التجربة التاريخية أن الفصل بين الدين والدولة خطوة ديمقراطية هامة في تاريخ البشرية. فهو وسيلة لمنع الحكام أو أيّة قوّة أخرى من استغلال الدين لتبرير طغيانهم وتسلطهم. كما أنه يفتح الباب أمام الإنسانية التقدمية لكي تطور تشاريعها الاجتماعية والسياسية والثقافية حسب متطلبات تطوّر المجتمع، هاجسها الاستجابة المستمرّة للحاجيات الجديدة التي يقتضيها التقدم والرقي الحضاري فلا تكون مشدودة إلى الوراء تحت أي تعلة كانت.

وبالمقابل ينتفي في ظل الدولة الدينية التسامح المعتقدي ويباح التمييز بين أبناء الوطن الواحد ويكبت التفكير الحر. وتكفي الإشارة إلى أن الدول القائمة اليوم على الدين هي من ضمن البلدان الأكثر تخلفا من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية. فنظام الحكم فيها ملكي مطلق. ويتخذ الدين فيها مطية لقمع جميع الحريات. وإذا تساءلنا من هي الطبقات الاجتماعية التي لها مصلحة في هذا النمط من الحكم وجدنا أنها الطبقات المستغِلة والمضطهِدة والموغلة في الرجعية وهي بقايا الإقطاعية وفئات البورجوازية العميلة للاستعمار والامبريالية، وحتى بعض البلدان التي أعلنت نفسها جمهورية مع التمسك بربط الدين بالدولة إلى حدّ ما فإن تشاريعها السياسية والاجتماعية متخلفة في أكثر من مستوى ومن المعلوم أن الضحية الأساسية في ظل مثل هذه الأوضاع هي الطبقات الشعبية والفئات السكانية المضطهَدة مثل النساء.

إن لنا في واقع تونس بالذات ما يؤكد الدور السلبي الذي لعبه ويلعبه ربط الدين بالدولة والسياسة. وعلى سبيل الذكر لا الحصر يعرف الجميع أن الرئيس السابق استغل الدين لتكريس السلطة الفردية وعبادة الشخص فتحولت المدائح والأذكار وخطب الجمعة والأعياد إلى مناسبات لتعداد "خوارقه" وتأليهه. ثم يمكن للمرء أن يلاحظ النتائج السلبية والخطيرة المنجرة عن بروز تطور التيارات السياسية الظلامية. فهذه التيارات تسعى مثلا إلى تفتيت وحدة أبناء الشعب الواحد بدعوى أن هذا "ملحد" والآخر "مؤمن" والثالث "منافق" وهلم جرا. بل إن هذه التيارات لا تتوانى حتى عن تكفير بعضها البعض إلى درجة ينحصر فيها "المسلم الحقيقي" في المنتمي إلى هذا التيار أو ذاك دون غيره. وعوض أن تتوحد جهود أبناء الشعب بقطع النظر عن معتقداتهم ومذاهبهم الفلسفية، للنضال من أجل الخبز والحرية والكرامة الوطنية، ترى هذه التيارات تسعى إلى تحويل اهتمامهم عن مشاكلهم الحقيقية والزج بهم في صراعات هامشية أصبحت تشق أحيانا العائلة الواحدة مثل: هل يتم الصيام والإفطار حسب الرؤية أو الحساب؟ هل ينبغي أن تحتجب المرأة أو تخرج سافرة؟ ودائما وتحت ستار الدين تعمل هذه التيارات على إعادة فرض ممارسات تجاوزها الزمن مثل الحجاب وتعدّد الزوجات والجلد وبتر الأطراف، الخ. وجميع هذه المواقف والممارسات شاهد على الضرر الذي يلحق الشعب من جراء ربط الدين بالسياسة وبالدولة كجهاز إداري وسياسي.

الشعب التونسي لائكي في جوهره

إن الشعب التونسي، إذا أمعنا النظر في تاريخه بموضوعية ونزاهة نستنتج أنه، رغم إيمان أغلبيته، شعب لائكي في الأساس، ينبذ الدولة من النمط الديني ويناصر الدولة المدنية القائمة على مؤسسات ديمقراطية. فالشعب التونسي بعد أن عانى الويلات من حكم البايات المطلق القائم على الدين ومن نير الاستعمار الذي وجد سندا له في رجال الدين الذين أفتوا بحق فرنسا في استعمار تونس، نهض منذ بداية هذا القرن ليطالب بدستور يضمن له حقوقه الأساسية، ومن المعلوم أن الدولة الدينية لا تعترف بالدساتير الوضعية. كما ناضل من أجل "برلمان" يمثل إرادته في حين أن الدولة الدينية لا تعترف بالتمثيلية. ومن ناحية أخرى فإن الطبقة العاملة التونسية سعت بصورة مبكرة إلى الانتظام في نقابة ومن المعلوم أن النقابات العمالية ممنوعة في ظل الدولة الدينية. وفضلا عن ذلك طالب الشعب التونسي منذ مطلع القرن بإرساء تعليم عصري كما شهد دعوات إصلاحية لفائدة تعليم المرأة وتحريرها من الحجاب ومنع تعدد الزوجات والتطليق ودخل كل ذلك اليوم ضمن عاداته وتقاليده. والشعب التونسي شعب يرفض الاستغلال ويرنو إلى العدالة الاجتماعية متحديا ما يروّجه رجال الدين والتيارات الظلامية من أن "الرزق عطاء من الله والفقر امتحان من الله". والمواطن التونسي متسامح في خصوص المعتقد ولا يحكّم في علاقته بغيره عنصر التدين بل إنه يضع كمقياس للحكم على الآخرين ممارستهم الاجتماعية أي أفعالهم ومدى تطابقها مع أقوالهم. ومجمل هذه المظاهر تمثل برهانا قاطعا على أن الشعب التونسي لائكي في جوهره وليس من أنصار الدولة الدينية. وليس هذا بغريب عن شعب عرف تاريخيا بتسامحه المعتقدي الذي نوه به أكثر من أحد، ولم يشهد تلك التناحرات الدامية ذات الباعث الديني بين مختلف "الملل والنحل".

انتعاشة التيارات الدينية لا تعني فشل اللائكية

إن انتعاشة التيارات الدينية خلال السنوات الأخيرة لا يمكن تفسيرها بأن الشعب التونسي من أنصار الدولة الدينية وأنه ضد لائكية الدولة وضد التقدم. كما لا يمكن اعتبارها علامة على "فشل اللائكية" في تونس أو على "عدم ملاءمتها للتربة التونسية" وأن كل دعوة إلى اللائكية تؤدي حتما إلى الخيبة السياسية. فالذي لا يدركه أصحاب هذا الرأي هو أن اللائكية عندما ظهرت في البلدان البورجوازية أو الاشتراكية تمّت على إثر ثورة شاملة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية خلقت الظروف المناسبة للائكية التي كانت عنصرا من جملة عناصر التحوّل الثوري في المجتمع. فبروز اللائكية في البلدان البورجوازية الأولى مثلا ارتبط بضرب الأسس الاقتصادية للدولة الدينية أي الإقطاع وأسسها السياسة أي الحكم المطلق الذي عُوّض بحكم ديمقراطي تقدمي في سياقه التدريجي. كما ارتبط أيضا على المستوى الثقافي والإيديولوجي بنهضة علمية وفلسفية دكت معاقل الخرافة والظلامية. ولم يتمّ التراجع في بعض المكاسب اللائكية والعودة إلى اللاهوتية والكهنوتية إلا عندما دخلت البورجوازية مرحلة انحدارها التاريخي وتحوّلت إلى قوة رجعية محافظة.

ولم تتحقق اللائكية بشكل متماسك إلا مع انتصار أول ثورة اشتراكية، مع الثورة البلشفية والسلطة السوفيتية التي قضت على الاستغلال البورجوازي وبالتالي على الأسس المادية في المجتمع للفكر المثالي بجميع مكوناته فاتحة الباب أمام ازدهار الفكر وتفتق طاقات الشعب على جميع المستويات. ومع ذلك فإن لينين ورفاقه لم يهدموا كنيسة أو جامعا وعاملوا رجال الدين كغيرهم من المواطنين، ليس على أساس معتقدهم بل على أساس مواقفهم وممارستهم السياسية، وقوفهم إلى جانب الشعب أو إلى جانب القوى الرجعية المُطاح بها والقوى الامبريالية التي غزت البلاد وحاولت أن تخنقها.

أمّا ما حدث في تونس طوال الثلاثين سنة الماضية فإنه لا يمتّ بصلة إلى مثل هذه التحولات الجوهرية والجذرية. فالذي حصل لم يكن سوى محاولة "عصرنة" هشة وسطحية، قامت اقتصاديا على ربط البلاد عضويا بالاحتكارات والسوق الامبريالية العالمية وسياسيا على القمع والقهر وثقافيا على معاداة التراث والهوية الوطنيين. لقد اضطرت البورجوازية خلال هذه السيرورة ومن أجل توسيع نطاق الاستغلال الرأسمالي إلى ضرب بعض معاقل الإقطاع (حلّ الأحباس، الخ.) لكن هذه العملية التي تمّت في نطاق التبعية للامبريالية لم تكن جذرية بل إنها مسّت في بعض الأحيان بقايا المجتمع القديم بشكل سطحي فاستمر بعضها في ظل التركيبة الاجتماعية الرأسمالية فلم تشهد البلاد نهضة اقتصادية وطنية في خدمة حاجيات الشعب ولا قيام نظام ديمقراطي ولا تطوّرا ثقافيا تقدميا وهو ما كان من شأنه أن يشكل قاعدة صلبة للائكية. وقد انعكس ذلك التطور المشوه للمجتمع على المستوى الحقوقي في ذلك الخليط من القوانين الوضعية (البورجوازية) وجملة الأحكام المستوحاة من "الشريعة" كما هو الحال في بعض بنود الدستور وفي مجلة الأحوال الشخصية (المهر، القوامة، الإرث، الخ.).

إن هذه "العصرنة" الهشة لم تصمد أمام أول أزمة اقتصادية واجتماعية هزت البلاد في أواخر الستينات. ومن الملاحظ أن النظام نفسه هو الذي بادر بمراجعة "تلك العصرنة". ففي سنة 1973 صرّح بورقيبة قائلا: "أوصيكم بالدين فهو خير واق لكم من التيارات الهدامة". وانبرى الحزب الحاكم بإدارة محمد الصياح يدعم التيارات السياسية التي ستشكل لاحقا "الاتجاه الإسلامي" لكي تساعده على ضرب القوى الاجتماعية الصاعدة عمالا وشبانا ومثقفين تقدميين والقوى اليسارية المناضلة. وهكذا فما شُرّع بالأمس بعنوان "مواكبة التقدم" و"مقاومة التخلف" و"اللحاق بركب الحضارة" (أي الحضارة البورجوازية) أصبح يُراجع بعنوان "الأصالة" و"الحفاظ على الشخصية الوطنية" و"مقاومة التيارات الهدامة". وقد نمت التيارات السياسية الظلامية على قاعدة فشل تلك "العصرنة" الزائفة المرتبطة بالامبريالية وعلى الأرضية التي وفرها لها نظام الحكم نفسه.

ومع مرّ الأيام واشتداد أزمة النظام تنامى تأثير هذه التيارات ويرجع سبب ذلك إلى جملة من العوامل التي يطول شرحها هنا لكن يكفي التأكيد على أنه في أوقات الأزمات الحادة وعندما لا يجد المجتمع ممثلا في طبقته الأكثر ثورية مخرجا عقلانيا لها يمكن أن يتجه وجدان الناس في ظروف محددة إلى الحلول الغيبية، الخيالية واللاعقلانية، وعامة ما تكون الطبقة أو الطبقات الرجعية المتسببة في أزمة المجتمع هي التي تشكل دعامة هذا الإرتداد فتشجعه ماديا وسياسيا لخشيتها من الحلول العقلانية التي تقتضي أوّل ما تقتضي زوال هذه الطبقة أو الطبقات التي تعرقل تطور المجتمع ليفتح الباب أمام علاقات اقتصادية واجتماعية ونظم سياسية وثقافة جديدة قادرة على تلبية حاجيات المجتمع الجديدة.

لذلك لا غرابة أن نرى اليوم في تونس شرائح من البورجوازية الكبيرة تدعم التيارات السياسية الظلامية وتشجعها على تأطير العمال والفلاحين والطلاب والتلاميذ والنساء حتى لا يخرجوا عن تأثيرها. كما أنه لا غرابة في أن نجد ضمن القوى الخارجية التي لها علاقة بهذه التيارات نفس القوى التي تزعم هذه التيارات مقاومتها باعتبارها أصل الداء. لقد أجاب زعيم "الاتجاه الإسلامي" رئيس محكمة أمن الدولة عندما سأله "هل لكم علاقات مع إيران"، أجابه بالنفي مضيفا "نحن لنا علاقات مع العربية السعودية وفرنسا والولايات المتحدة". وبهذه الصورة يتضح من هم الذين يقاومون اللائكية والعقلانية.

موقف يخدم تيار الردة الظلامي

إن موقف الموقعين على النداء بشأن علاقة الدين بالدولة يدعم القوى السياسية الظلامية مهما كانت النوايا الحسنة المعلنة. كما أنه يندرج ضمن تيار الردّة العام الذي يسعى إلى التمكن من مفاصل المجتمع التونسي. ويمكن للمرء أن يلاحظ بهذا الصدد أن محاولات استيعاب الظاهرة الدينية قد تعدّدت وتكاثرت هذه الأيام. وإذا كان هدفها هو سحب البساط من تحت أقدام القوى السياسية الظلامية فما ذلك في الحقيقة إلا تقدير خاطئ سيكون مآله الفشل لأن فيه، أحب أصحابه أم كرهوا، دعما للتيار الظلامي وخلق تربة أخصب وأرضية أنسب لتنامي تأثيره. فمواجهة هذا التيار تقتضي الجرأة الفكرية والثبات على المبدأ.

ومن ناحية أخرى فإن الرهان اليوم على مستوى شعبي ليس رهانا دينيا لأن المشاكل الحقيقية التي تؤرق الناس وتحركهم ليست ذات صبغة دينية. بل هي في الأساس مشاكل متصلة بالاستغلال والفقر والبؤس المادي وبانعدام الحرية السياسية وبالمهانة القومية وإذا لم تحل هذه المشاكل فليست تلك الإجراءات الدينية هي التي سترضي الشعب.

يعتقد البعض أن نهوض الشعب التونسي للنضال من أجل حقوقه هو "صحوة دينية". وهذا الكلام يروجه طرفان: القوى السياسية الظلامية التي تريد أن تستحوذ على هذا النهوض النضالي والقوى الامبريالية الغربية التي تريد إعطاءه طابعا "صليبيا" قصد تشويهه وطمس أسبابه الحقيقية ومسؤوليتها في تردي أوضاع الشعب. وفي الواقع يجب التمييز بين أمرين مختلفين، بين نهوض الشعب للنضال من أجل الخبز والحرية والكرامة الوطنية، وهو نهوض له قاعدته الموضوعية في العوامل التي أشرنا إليها أعلاه. وبين التيارات السياسية الظلامية التي تريد أن تلبس هذا النهوض لبوسا دينيا قصد احتوائه وتوجيهه وجهة تخدم مصالح الرجعية والامبريالية. ولنا في المثال الإيراني عبرة كبيرة. فقد أدى استيعاب رجال الدين لثورة الشعب الإيراني على الاستغلال والظلم والقهر الوطني إلى إحلال الدمار بالبلاد والقمع الوحشي فضلا عن العدوانية والشوفينية في المجال الخارجي وفي علاقة بالجيران خاصة.

لذا فإن مجاراة تيار الردّة بدعوى "صيانة الهوية" أو بدعوى "سحب البساط" من تحت أقدامه باستعمال نفس أسلحته هي محاولة بائسة وفاشلة. إن المثقفين التقدميين الحقيقيين "المشدودي الهدب إلى الشمس" كما يقول الشاعر إنما يركزون اهتمامهم على القضايا المحورية للشعب، على النضال ضد الاستغلال والكبت السياسي وضد الاضطهاد الامبريالي، في نطاق برنامج تقدمي وعقلاني تشكل لائكية الدولة أحد عناصره وهم لا يخشون في هذا النضال المصاعب والمتاعب.

نداء

لا يسعني في خاتمة هذا الردّ إلا أن أوجّه هذا النداء إلى المثقفين الموقعين على الوثيقة المذكورة "من أجل بلورة مشروع مستقبلي للدولة والمجتمع": أيّها المثقفون إن الدولة اللائكية هي من الانجازات التاريخية للطبقة البورجوازية. وقد شكلت دعامة أساسية من دعائم ثورتها ضد الإقطاع حيث نادت بفصل الدين عن الدولة والمدرسة والأخلاق لتحرر المجتمع من كابوس الحكم المطلق والخرافة والنفاق والازدواجية الأخلاقية اللصيقة بالظلاميين، وقد تمّ ذلك منذ ما يزيد عن القرنين. فكونوا على الأقل في مستوى هذه البورجوازية العقلانية، بورجوازية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ليس المطلوب منكم أن ترتقوا إلى أكثر من ذلك، إلى الفكر المادي الجدلي، بل على الأقل كونوا أوفياء لتراث الطبقة التي تدافعون عن مبادئها الليبرالية، وقفوا إلى جانب النور ضدّ الظلامية والتقدم ضدّ الانحطاط وارفعوا راية العقل ضد الخرافة جاعلين على الأقل من قولة ضرير معرة النّعمان "كذب الظن لا إمام سوى العقل" نبراسا لكم حتى لا يلحقكم خزي التاريخ. وإذا كنتم بحق تريدون لهذا المجتمع التقدم ناضلوا من الآن من أجل أن تعكس المراجعات والتحويرات الجارية سواء لنص الدستور أو لقانون الصحافة وقانون الأحزاب توجها واضحا نحو تركيز الدولة اللائكية الديمقراطية كمطلب مصيري إذا لم يتحقق فلا أمل في النهضة!

تونس في 15 فيفري 1988

هوامش

[1انظر نص النداء


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني