الصفحة الأساسية > البديل الوطني > "التأهيل الشامل" أمْ التشليل الشامل: مصنع الحليب "لينو" مثالا
"التأهيل الشامل" أمْ التشليل الشامل: مصنع الحليب "لينو" مثالا
22 حزيران (يونيو) 2004

أدى تطبيق برنامج الإصلاح (الخراب) الهيكلي و"إعادة تأهيل" مؤسسات الدولة ذات الصبغة الاقتصادية وحتى ذات الصبغة الخدماتية (مثل التعليم والصحة والنقل) إلى خوصصة نسبة مرتفعة منها في انتظار خوصصة الباقي. ولئن كانت هذه الإجراءات الناتجة عن إملاءات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي تهدف فيما تهدف إلى تعميق تبعية البلاد إلى الخارج وسد آفاق النهوض الوطني أمامها فإن المتنفذين في السلطة عملوا جاهدين على استغلال هذا الوضع لنهب خيرات البلاد ومزيد الإثراء بأيسر السبل وأقصر مدة زمنية ممكنة. فمن يدري فالتحوّلات التي تحدث بين الحين والآخر في عدة أنحاء من العالم قد تظهر في البلاد وتعصف بهؤلاء في أية لحظة لما تنتهي مهماتهم أو يصبحون غير قادرين على أدائها على الوجه المطلوب. لذلك كله فإن عبارة "آشكون يعرف! هاك تشوف آش صار في أندونيسيا والعراق و..!" زادت في وتيرة امتصاص دم الشعب فلعل القرش الأبيض ينفع لليوم الأسود. وليس أدل على ذلك من تنقيح الدستور لإرساء رئاسة مدى الحياة وضمان الحصانة القضائية لبن علي. تحسبا لهذا الوضع الممكن عاجلا والحتمي آجلا.

والمؤسسات الاقتصادية التي تمّ التلاعب بها للأغراض المذكورة أعلاه كثيرة ومتنوعة وسنكتفي هذه المرة بالتعرض لإحداها وهي مصنع الحليب "لينو" ببوسالم اعتمادا على معطيات مستقات من الهياكل النقابية المعنية مباشرة ومن جريدة "الشعب".

يعتبر مركز "لينو" لتصنيع الحليب مثالا دالا على ما ذهبنا إليه آنفا. فهذا الأخير وبعد أن ساهم بقسط كبير في تحقيق الاكتفاء الذاتي في هذه المادة خلال السنوات الأخيرة ارتأت الدولة في إطار تأهيله (تشليله) بيعه للخواص بعد أن برّكته ليظهر بمظهر العاجز عن مسايرة نسق السوق بإدارة عمومية. وبعد إشهاره للبيع رُسِيَ المزاد صدفة على جلال بن عيسى الذي يمثل الواجهة الخارجية للمالك الحقيقي (ل.ب.ع). وقد تفننت الإدارة الجديدة في نسج الألاعيب للتفصي من مستحقات لدى المؤسسات والفلاحين الذين يزودون هذا المصنع بالمادة الأولية (الحليب). ففي ما يتعلق بالمؤسسات نذكر على سبيل المثال ضيعة "المرجى" التي تنتج يوميا ما يقارب 30 ألف لتر من الحليب كانت تزود بجزء هام منها المصنع المذكور. وأمام امتناع صاحبه (صاحبته) عن دفع المستحقات المالية لها أوقفت هذه الأخيرة تزويده ووجهت منتوجها نحو العاصمة.

أما الفلاحون الذين كانوا يزودون المصنع بالحليب فإنهم لجأوا مرارا إلى الوالي للمطالبة بمستحقاتهم لدى صاحب/صاحبة المصنع ولكنهم لم يحصلوا إلا على وعود سرعان مع تتناثر مع مهب الرياح. ولكن في المقابل ازدادت قناعتهم بصعوبة نيل حقوقهم بالتفاوض لأن الطرف المقابل متنفذ ولا يبالي حتى بملاحظات السلط الجهوية (عندما طلب الوالي من بن عيسى تسوية هذه الوضعية ردّ قائلا –حسب بعض المصادر النقابية-: خلّي يخلصهم هو") وقد انعكس سلبا على إنتاج الحليب وأصبح الفلاحون غير متحمسين بل تخلى العديد منهم عن تربية الأبقار المنتجة للحليب حتى لا تذهب مجهوداتهم إلى غير مستحقيها.

ونتيجة لذلك كله تفاقمت أزمة المصنع والخاسر الوحيد طبعا هو عماله الذين يفوق عددهم الـ500 مما يعني أن مصير 500 عائلة أصبح الجوع والتهميش. ولم يستسلم هؤلاء بل اقتنعوا أن النضال وحده كفيل بضمان حقوقهم فتجمعوا عدة مرات أمام مقر المعتمدية معتصمين اليد في اليد في شكل حلقة حول مركز ساحة المعتمدية مانعين حركة المرور من السير الطبيعي، مطالبين بضمان حقوقهم. وكدليل على تفاقم الأزمة تجمّع هؤلاء في الأسبوع الثاني من شهر أفريل المنصرم أمام نفس المقر ولكن هذه المرة للمطالبة بدفع أجورهم المتخلدة بذمة صاحب المصنع. فمنهم من لم يتسلم مليما واحدا لمدة 4 أشهر وقد عبروا عن استعدادهم لتنظيم مسيرة من بوسالم إلى العاصمة وذلك للدفاع عن حقوقهم. خاصة –كما يشاع- وأن العديد منهم قد استغلت أميته للامضاء على وثائق تنص على عدم المطالبة بحقوقهم التي يضمنها القانون (من هبوط وغير ذلك…) عند الاستغناء عنهم.

وعوض أن تتحسن حالة المصنع كما ادعت السلطة ذلك بعد خوصصته تفاقمت أزمته وعصفت بحياة المئات من العائلات. والهدف من وراء ذلك هو رغبة صاحب/صاحبة المصنع في نقل آلاته إلى تونس العاصمة وإلى المرناقية بالتحديد. ويعود ذلك إلى أن النموذج الاقتصادي الحالي يساعد أو يشجع على التوطين بالعاصمة أو المدن الساحلية والمدن الموانئ عامة ويساهم في ركود الأقاليم الداخلية: فنتيجة لسياسة التفتح على العالم الخارجي وعلى الأسواق الخارجية أصبحت المصانع مرتبطة بالخارج ولذا فإنها تنتصب في المدن الساحلية ومنها العاصمة لأنها مجهزة بالبنوك وشركات التأمين وكل وسائل النقل والاتصالات السلكية واللاسلكية وتملك الإطارات القادرة على توفير الربح السريع خلافا للمدن الداخلية التي ما زالت تفتقر إلى المرافق العصرية.

لم تعد تخفى على أحد هجمة العائلتين على الأملاك العمومية وحتى الخاصة منها وذلك بالاستفادة من السياسة الاقتصادية من جهة وباستغلال النفوذ من جهة أخرى.

إن الوعي بهذه الحقائق يدعونا إلى كشف مظاهر الاستغلال الحالية حتى يدرك الشعب زيف وديماغوجية الخطاب السياسي الذي يصوّر الأوضاع على أنها تحسن مطرد. ولكشف تواطئ البيروقراطية النقابية في السمسرة بالعمال لضمان مواقعها ومصالحها. فسياسة التأهيل/التشليل الشامل تخدم مصالح بعض فئات المجتمع وتتضارب مع مصالح فئات أخرى والدولة ليست بعيدة عن هذه المصالح أي ليست محايدة بل بالعكس. ويعكس سلوك الدولة هيمنة فئة أو فئات معيّنة من المجتمع على حساب فئات أخرى.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني