الصفحة الأساسية > كتب ومنشورات > حزب العمال الشيوعي التونسي: موقف ثابت ومتماسك من انقلاب 7 نوفمبر 1987 > "الديكور الديمقراطي" أو الوجه الآخر لاستمرار الدكتاتورية الدستورية
الفهرس
حزب العمال الشيوعي التونسي: موقف ثابت ومتماسك من انقلاب 7 نوفمبر 1987
"الديكور الديمقراطي" أو الوجه الآخر لاستمرار الدكتاتورية الدستورية

أصبحت عبارة "الديكور الديمقراطي" من العبارات المتداولة منذ مدة على الساحة السياسية في بلادنا. وقد ظهرت بشكل خاص بعد السابع منن نوفمبر 1987 لتعبر عن واقع يتميز بالخاصية التالية: نظام يفتعل الديمقراطية ويدعيها ويتحدث باسمها على مستوى الخطاب الرسمي وينتهكها بل يغتالها ويحرم منها الشعب والقوى الديمقراطية والتقدمية على صعيد الممارسة العملية مستندا إلى ترسانة من القوانين القمعية وإدارة تحت تصرفه التام وجهاز بوليس سري ضخم لا رقيب عليه ولا رادع له.

ولـ"الديكور الديمقراطي" خصائصه وآلياته التي سنتطرق إليها في هذا المقال. لكن قبل الخوض في ذلك لا بد من الإشارة إلى أن سياسة "الديكور الديمقراطي" أو الديمقراطية المزيفة التي ما انفك ينتهجها فريق السابع من نوفمبر لم تكن وليدة الصدفة، بل أملاها عليه الظرف المحلي والدولي الذي جاء فيه إلى الحكم حتى يتمكن من التغطية على تواصل دكتاتورية الحزب (التجمع) الدستوري واحتكاره للحياة العامة مؤسسات وإدارة ووسائل إعلام.

لقد اعتلى بن علي وفريقه سدة الحكم بواسطة انقلاب أبيض في ظل أزمة سياسية واقتصادية خانقة كانت تهدد الدكتاتورية الدستورية بزعامة بورقيبة، في وجودها. لذلك لم يكن له من سبيل لاحتواء هذه الأزمة وإعادة ترتيب البيت الدستوري وصيانة المصالح العامة للبرجوازية الكبيرة ومحاولة كسب شيء من الشرعية غير الوعد بإرساء نظام ديمقراطي وبوضع حد لثلاثين سنة ونيف من الحكم البورقيبي المطلق.

كما أن الظرف الدولي كان هو الآخر يدفع ببن علي وفريقه إلى انتهاج سياسة "الديكور الديمقراطي". فقد دب الوهن في جسم كل الدكتاتوريات المدنية والعسكرية القائمة على الحزب الواحد وعلى الحكم الفردي في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأصبحت تلقى معارضة من الشعب (وحتى من قطاعات برجوازية) تهدد بإسقاطها. فما كان من الدول الامبريالية الغربية، ولية أمر تلك الدكتاتوريات وحاميتها، إلا أن تستبق الأحداث، وتنصحها أو ترغمها على إدخال ترميمات على أنظمتها قبل فوات الأوان. وقد اضطرت في بعض الحالات إلى التخلص من حلفاء لها لما افتضحوا أو هم أقل افتضاحا. ولم يكن خافيا على أحد اهتمام الدول الغربية (خاصة المسيطرة تقليديا على بلادنا: الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا) بالوضع في تونس ومراقبتها لتطوره خلال الفترة الأخيرة من حكم بورقيببة.

هذه هي إذن الظرفية المحلية والدولية التي يندرج ضمنها ظهور سياسة "الديكور الديمقراطي". فما هي مظاهرها؟ وما هي آلياتها؟ وكيف السبييل إلى مقاومتها من أجل إقامة نظام سياسي ديمقراطي بحق تتوفر في ظله الحريات السياسية وتحترم حقوق الإنسان؟ تلك هي الأسئلة التي سنحاول فيما يلي الإجابة عنها.

1 - الديكور الديمقراطي: المظاهر والآليات

ترتكز سياسة "الديكور الديمقراطي" على جملة من العناصر التي يمكن حوصلتها كالآتي.

أولا: إرساء تعددية حزبية شكلية قائمة على الاعتراف بأحزاب (6 أحزاب إلى حد الآن) لا وزن ولا تأثير جديا لها داخل المجتمع وقابلة للعمل ضمن الشروط التي حددتها لها الدكتاتورية الدستورية والمضمنة في قانون الأحزاب (ماي 1988). ويطلق على هذه "المعارضة" تارة اسم "المعارضة الوطنية" وطورا "المعارضة المسؤولة". ويطلق عليها في كواليس الحزب (التجمع) الدستوري "أحزاب المعاضدة" أي معاضدة هذا الحزب على الحكم وهي التسمية التي تعبر أكثر من غيرها عن الواقع. ويظهر زعماء هذه الأحزاب في المناسبات لتقديم التهاني أو للتعبير عن الولاء والتأييد. وتتلقى أحزاب "المعاضدة" مساعدة مالية من السلطة، حرصت على عدم تقنينها حتى تظل وسيلة ضغط بين يديها فيحرم كل حزب يحيد عن الخط المرسوم له.

وفي الحالات التي يتبلور فيها تيار داخل حزب من هذه الأحزاب يريد الاستقلالية عن السلطة والالتزام بحد أدنى من المطالب الشعبية، تتدخل السلطة بكل الوسائل بما في ذلك بوليسها السياسي ومحاكمها لقمع هذا التيار ولو كان أغلبيا (حزب الوحدة الشعبية-جلول عزونة) ودعـم الطرف الموالي وإبقائه على رأس الحزب.

وبطبيعة الحال فإن الهدف من هذه التعددية الحزبية الشكلية هو الإيهام بتوفر حرية التنظم في البلاد ووجود معارضة ومنافسة على الحكم وإكساب احتكار الحزب (التجمع) الدستوري للسلطة "شرعية ديمقراطية" في نظر الرأي العام المحلي والدولي.

وفي إطار هذه التعددية الحزبية الشكلية فإن نصيب الأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية التي تتمتع بتأثير في المجتمع وترفض الانصياع لإرادة الدكتاتورية الدستورية هو القمع والملاحقات والمحاكمات والسجون (حزب العمال الشيوعي التونسي، حزب الوحدة الشعبية-جلول عزونة، بعض التيارات القومية...). ويطول هذا القمع كذلك حتى بعض الأحزاب الرجعية التي تمثل خطرا أو بالأحرى منافسا جديا على السلطة بالنسبة للحزب (التجمع) الدستوري ("حركة النهضة" الإخوانية...).

ثانيا: بعث عدد كبير من الجمعيات الصورية في عدة مجالات

وقد بلغ عدد الجمعيات حسب آخر إحصاء قدمته وزارة الداخلية 5317 جمعية منها 3224جمعية تكونت بعد 7 نوفمبر 1987. إلا أن المتمعن في هذه الجمعيات يلاحظ أنها، عدا أقلية قليلة، خاضعة مباشرة لرقابة الحزب (التجمع) الدستوري وسلطته التي رفضت إلى حد الآن منح التأشيرة لمن يريد بعث جمعية مستقلة حقا مهما كان مجال نشاطها. بالإضافة إلى ذلك فإن معظم الجمعيات المذكورة لها وجود صوري. أما ألأقلية القليلة من الجمعيات المستقلة عن السلطة والمكونة غالبا قبل 7 نوفمبر 1987 فإنها تعيش وضع حصار مادي وإعلامي وبوليسي مستمر بهدف تدجينها وضرب تأثيرها مهما كان ميدان نشاطها حتى ولو كان رياضيا. وإذا تمكنت رغم ذلك جمعية من الجمعيات منن فرض نفسها وإسماع صوتها فإن سلطة السابع من نوفمبر لا تتردد في حلها وإعلانها خارج القانون حتى ولو اقتضى ذلك إصدار قانون على قياسها. وهو ما حصل للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

ومن البديهي أن الهدف من الإكثار من الجمعيات الصورية هو الإيهام بتوفر حياة مدنية متطورة في تونس وللتغطية على الحصار المضروب على الجمعيات المستقلة ومنع ظهور جمعيات مستقلة أخرى بدعوى أن البلاد "تعج" بالجمعيات في مختلف المجالات. فعلى سبيل المثال عندما أثارت بعض الصحف الأجنبية والمنظمات العالمية لحقوق الإنسان موضوع الرابطة، واتخذته مثالا على قمع الحياة الجمعياتية في تونس أجابتها "صحافة التعليمات" بما معناه: أفلا توجد في تونس غير هذه الجمعية؟ لماذا التركيز على جمعية واحدة "أخلت بالقانون" والحال أن البلاد فيها 5316 جمعية أخرى؟

ثالثا: إنشاء مؤسسات وهيئات صورية: ومن هذه المؤسسات التي جاءت لتعزز المؤسسات الصورية الموجودة في عهد بورقيبة (مجلس النواب، المجالس البلدية، المجلس الاقتصادي والاجتماعي…) نذكر المجلس الدستوري الذي تكون في ديسمبر 1987 لاحتواء المطلب الذي رفعته الحركة الديمقراطية من قبل لمراقبة دستورية القوانين. فهذا المجلس يختار أعضاءه بن علي، ومهمته استشارية فقط وآراؤه لا تنشر علنيا بل توجه إلى رئيس الدولة الذي له وحده صلاحية الاطلاع عليها. وإلى حد الآن زكى هذا المجلس كل القوانين اللادستورية التي تقدم له بها بن علي.

وقد استقال منه خلال الصائفة الماضية عضوان (الأستاذان عياض بن عاشور وعبد الفتاح عمر احتجاجا على تحوير قانون الجمعيات. وهو أول نشاز يظهر في صلب هذا المجلس منذ تكوينه. وبالإضافة إلى المجلس الدستوري، كونت سلطة السابع من نوفمبر سلسلة مما يسمى بـ"المجالس العليا" (المجلس الأعلى للإعلام، المجلس الأعلى للطفولة، المجلس الإسلامي الأعلى...) التي زينت ببعض الوجوه "المستقلة" أو "المعارضة" المنتقاة من قبل السلطة إلا أن كل تلك المجالس هي مجالس شكلية لا أثر لها في الواقع. ولا تتجاوز مهمتها تزكية "القرارات الرئاسية الرشيدة".

إن الهدف من بعث هذه المجالس والهيئات كان ولا يزال الإيهام بأن الدولة التونسية هي "دولة مؤسسات" وذلك للتغطية على الطابع الفردي للحكم وعلى هيمنة الحزب الواحد على جميع المؤسسات القائمة.

رابعا: إصدار قوانين "شبه ديمقراطية" تحت غطاء "تنظيم الحياة السياسية" و"إرساء ديمقراطية مسؤولة" أو "منظمة" والمتمعن في هذه القوانين، سواء جاءت في شكل قواني جديدة (مثل قانون الأحزاب...) أو في شكل تحوير للقوانين القديمة (مجلة الصحافة، المجلة الانتخابية، قانون الجمعيات...) يلاحظ أنها تضع المزيد من العراقيل على ممارسة الحريات وترهن التمتع بها بموافقة السلطة التنفيذية ممثلة في وزير الداخلية الذي تمنحه تلك القوانين سلطات لا حد لها تمكنه من تكييف كل الحياة السياسية والعامة وفقا لمصالح الحزب (التجمع) الدستوري خاصة وأن الجهاز القضائي ببلادنا لا يتمتع باي استقلالية وينحصر دوره في تطبيق ما يصله من تعليمات من السلطة التنفيذية.

إن الهدف من سن قوانين جديدة أو مراجعة القوانين القديمة هو الايهام بأن الدولة التونسيية هي "دولة قانون" وإلزام المواطنين بالامتثال لهذه القوانين رغم طابعها اللاديمقراطي وصدورها عن هيئات غير ممثلة وتبرير قمع كل نشاط يتجاوز الحدود التي رسمتها الدكتاتورية الدستورية بدعوى أنه نشاط "فوضوي" و"مخالف للقانون"...

خامسا: التظاهر بالدفاع عن حقوق الانسان: وذلك بسن بعض القوانين لحمايتها في الظاهر (قانون الاحتفاظ، قانون السجون...) وتبني مواثيق دولية (مثل المعاهدة الدولية لمناهضة التعذيب...) وبعث لجان وخلايا "تعنى بحقوق الإنسان" (الهيئة العليا للحريات وحقوق الإنسان، خلايا حقوق الإنسان التابعة لوزارتي الداخلية والعدل...) وإحداث خطة مستشار لدى رئاسة الجمهورية مكلف بحقوق الإنسان وتخصيص جائزة في مجال حقوق الإنسان وتعليق وثيقة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان بمراكز الشرطة والحرس الوطني والضابطة العدلية عموما وتبني خطاب رسمي ذي "نبرة إنسانية" و"رفض الظلم والقهر" ...وبالمقابل فإن الواقع على عكس هذا الخطاب والاعلانات. فقانون الاحتفاظ مثلا جاء على درجة من الالتباس والغموض والنقص (غياب أي ضمان فعلي لتنفيذ ما جاء فيه من إجراءات...) تمكن السلطة من انتهاكه بسهولة دون أن يتمكن الضحية من متابعتها ومحاسبتها. وهو بالفعل منتهك بشكل منهجي ومسترسل. فالبوليس السياسي مثلا لا يحترم المدة القانونية للاحتفاظ (4+4+2=10أيام) ويكتفي بتزوير تاريخ الإيقاف عند تقديم الضحية لوكيل الجمهورية وحاكم التحقيق أو المحكمة الذين يرفضون بدورهم كل طعن في ذلك التاريخ كما يرفضون المطالب المقدمة لعرض الضحية على الفحص الطبي. أما المعاهدة الدولية لمناهضة التعذيب فقد بقيت حبرا على ورق فلا البوليس ولا وكلاء الجمهورية ولا حكام التحقيق ولا المحاكم يلتزمون بها. وقد ظل التعذيب في بلادنا ممارسة منهجية وشاملة خاصة في القضايا السياسية. وذهب ضحيتها خلال العامين الأخيرين فقط حوالي 10 موقوفين منهم ثمانية في قضايا سياسية. وحتى التحقيقات التي أذن بها تحت ضغط الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان (المنحلة منذ جوان 1992) ومنظمة العفو الدولية والرأي العام الديمقراطي فإن نتائجها جاءت لتبيض وجه السلطة وتتفه ممارسة التعذيب وتحصرها في "بعض التجاوزات الفردية" من أعوان الأمن وتلقي المزيد من الغموض حول الوفيات الناجمة عن التعذيب والسبب في ذلك راجع إلى أن التحقيقات لم يعهد بها إلى هيئات مستقلة ونزيهة وذات مصداقية.

ومن ناحية أخرى فقد تواصلت محاكمات الرأي: ومنها عشرات المحاكمات ضد مناضلات حزب العمال الشيوعي التونسي ومناضليه. ومن المظاهر الجديدة في ظل سياسة "الديكور الديمقراطي" هو فبركة قضايا الحق العام ضد الخصوم السياسيين للتظاهر أمام الرأي العام بأن ليس هناك مواطنون يحاكمون من أجل آرائهم. وهكذا فغن الهدف من كل الضجة المقامة حول حقوق الإنسان هو إعطاء الفاشية الدستورية واجهة ديمقراطية وإنسانية وشرعوية ومتحضرة قصد التغطية على الانتهاك المنهجي والمستمر لتلك الحقوق، وإن كان ذلك لم يعد يغالط أحدا لا في الداخل ولا في الخارج.

سادسا: إرساء تعددية إعلامية زائفة: وذلك بمنح الترخيص لبعض العناوين الجديدة وإجراء مراجعة شكلية لقانون الصحافة والإكثار من الخطب و"التوصيات" حول "موضوعية الإعلام" و"نزاهته" و"نعبيره عن مختلف الآراء" وتنظيم "ملفات تلفزية تستدعي لها بعض الوجوه "المستقلة" أو "المعارضة" المنتقاة. وفي الواقع يواصل الحزب (التجمع) الدستوري سيطرته المطلقة على وسائل الإعلام الرسمية خاصة منها الإذاعة والتلفزة اللتين يستخدمهما للكذب والتضليل والتزوير وتدعيم الحكم الفردي وعبادة الشخص. أما بالنسبة للصحافة المكتوبة فلم يتبق منها على الساحة سوى "صحافة التعليمات" وبعض صحف معارضة الديكور التي تتلقى "مساعدة" مالية. ورغم هذه المساعدة فإنها تظهر شهرا لتحتجب ثلاثة. وقد توقفت الصحافة المستقلة والتقدمية ومنها "البديل" اللسان غير الرسمي لحزب العمال الشيوعي التونسي، سواء بسبب أحكام جزائية وخطايا مالية ضد مديريها أو بسبب الحصار المادي باعتبار أن الدولة هي التي تمسك بورقة الاشهار ولا تمنحه إلا لصحافة التعليمات. كما أن الورق، يمثل وسيلة ضغط أخرى، تتحكم فيه بعض الشركات التابعة للسلطة. وحتى الصحف التجارية فإنها تخضع لمراقبة مباشرة وأحيانا مسبقة من قبل وزارتي الإعلام والداخلية اللتين تمليان عليها ما تنشر وما لا تنشر ولمن تنشر ولمن لا تنشر. فتراها تنتهك الأعراض وتشوه الخصوم السياسيين وتنشر ثقافة الدعارة وتتكتم على انتهاك الحريات وحقوق الإنسان.

وهكذا فإن فريق السابع من نوفمبر لم يمس في الواقع الأسس الجوهرية التي قامت عليها الدكتاتورية منذ العهد البورقيبي ولكنه حافظ عليها متخفيا وراء عديد الإجراءات الشكلية في مستوى القوانين والتنظيمات والأحزاب والمؤسسات والإعلام وحقوق الإنسان. وبالتالي فإن الشكل الفاشي والدكتاتوري للسلطة في بلادنا لم يتغير.

2 - سياسة "الديكور الديمقراطي" تدمر المجتمع المدني وتقعده

تعرضنا في الفقرات السابقة لمكونات "الديكور الديمقراطي". ويمكن القول أن هذه السياسة كانت ولا تزال تخضع في تطورها للآليات التالية: فكلما أمعنت سلطة السابع من نوفمبر في انتهاك الحريات وحقوق الإنسان وفي نشر حالة من الرعب البوليسيفي كامل أنحاء البلاد وفي مختلف الأوساط الشعبية كلما شعرت بمزيد الحاجة إلى الإكثار من التصريحات والخطب والإجراءات الشكلية المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان وإلى إقامة شرعية ظاهرية لمغالطة الرأي العام الداخلي وخاصة الخارجي.

لقد أدت هذه السياسة المؤسسة على الرياء (hypocrisie) والصلف (cynisme) إلى مواصلة تدمير الطاقات الخلاقة الكامنة في المجتمع وتحويله إلى مجتمع مقعد، يشعر بالعجز عن القيام بأي عمل احتجاجي مستقل ومنظم لتجاوز هذا الوضع رغم إدراك معظم المواطنين للهوة السحيقة التي تفصل الواقع عن الخطاب.

إن فريق السابع من نوفمبر تمكن من تفتيت النسيج الجنيني للمجتمع المدني الذي بدا يتكون في السنوات الأخيرة للحكم البورقيبي بعد تضحيات جسيمة ونضالات عديدة. ونعني بهذا النسيج نواة الحركة الفكرية والثقافية النشطة التي كانت تعمل لتأسيس نهضة تقدمية في مختلف المجالات. نواة صحافة (جرائد وصحفيون) مستقلة وديمقراطية، بوادر حركة نقابية قاعدية مستقلة عن السلطة، حركة حقوق إنسان آخذة في نشر قيم التسامح المعتقدي واحترام الحرمة الجسدية والمعنوية للمواطن، نواة حركة نسائية ديمقراطية...

إن الواقع الناجم عن تدمير هذا النسيج الجنيني هو الذي تسميه سلطة السابع من نوفمبر "استقرارا سياسيا". وما كان لها أن تحقق هذا الهدف دون الاعتماد على جهاز بوليس سياسي تضخم بشكل مفزع وتعظم دوره بعد 7 نوفمبر 1987. لقد أصبح هذا الجهاز بمختلف فرقه يغطي كامل المدن ويؤطر الحياة السياسية تأطيرا كليا. فما من قطاع وما منن مؤسسة (حزب، جمعية، نقابة، نادي، مدرسة، معهد، كلية، مصنع...) وما من نشاط مهما كان نوعه أو حجمه يفلت من مراقبته. إضافة إلى المراقبة التي يمارسها في الطرقات والشوارع والأحياء وحملات "الرافل" وهو يتمتع بإمكانيات بشرية ومادية ووسائل اتصال ومراقبة (أجهزة تنصت...) هائلة. وله صلاحيات مطلقة في مراقبة المواطنين (رسائل، هاتف، فاكس...) ولا يخضع في نشاطه إلى أي قانون.

إن هذا الجهاز البوليسي اللادستوري هو المرتكز الرئيسي للدكتاتورية التي هي دكتاتورية بوليسية بالدرجة الأولى. وتساند هذا الجهاز ميليشيات الحزب الحاكم "لجان اليقظة" التي تتجسس على المواطنين وتشي بهم وتتسبب في حرمان العديد من شغل أو رخصة تجارية أو رخصة بناء أو منحة دراسية... وهي كلها أوجه من حياة المواطنين الخاضعة للرقابة المباشرة للشعب الترابية والمهنية ولجان التنسيق الحزبي.

وبالإضافة إلى أساليب القمع البوليسي هناك أسلوب آخر تطور بشكل بارز في "العهد الجديد" وهو الارتشاء وشراء الضمائر. فقد أصبح معلوما أنك إذا سمعت "مثقفا" أو "سياسيا" (مستقلا أو متحزبا) أو "مسؤولا" في جمعية أو منظمة ما يطري بلا حساب على السابع من نوفمبر فتيقن أنه يلهث وراء مصلحة أو حصل على منفعة (منصب، تسهيلات مالية...) أو أن "صبعو تحت الزرسة) كما يقول المثل الشعبي: تورط في قضية سوء تصرف أو قضية أخلاقية. في كلمة "عندهم عليه دوسي". وبالتالي فإن المعني مستعد لتأدية كل الخدمات المطلوبة منه اجتنابا للفضيحة أو العقاب.

ولد هذا الوضع حالة من الاستقالة العامة الناجمة عن الخوف والشعور بالإحباط. وتراجعت روح التضامن التي أفرزتها سنوات من النضال ضد الاستغلال والقهر في الحركة النقابية والطلابية والحركة الثقافية ورابطة حقوق الإنسان. ولم تصب حالة الإقعاد المواطن العادي فحسب ولكنها أصابت النخبة المثقفة أيضا التي تميزت بشيء من الجرأة في أحلك فترات الحكم البورقيبي: تحتج على المظالم وتتضامن مع ضحاياها وتدافع عن استقلاليتها وتغار على مصداقيتها الفكرية. صار المثقفون اليوم عدا قلة ظلت صامدة ومكافحة، منطوين على أنفسهم، محبطين، يتكلمون في "التراكن"ويخشون على حرمتهم الجسدية والمعنوية وعلى مورد رزقهم بعدما لاحظوا بأعينهم ما حصل لبعضهم من مهانة (هشام جعيط الذي أحيل على التحقيق لأنه انتقد غياب الديمقراطية في افتتاحية لـ"حقائق" 1989، المنصف المرزوقي رئيس الرابطة الذي اقتيد من منزله كمجرم حق عام واستنطق وهدد في ذاته...) كما يخشون من واش يبلغ عما يفكرون فيه ومن جهاز تنصت مدسوس في أحد الزوايا أو كاميرا موضوعة في موقع ما من المنزل أو المكتب فتفضح علاقة عاطفية لبعضهم وتصبح تعرض في نهج "زرقون" في "كاسيت فيديو" والقاصي والداني يتفرج على عورته (أو عورتها). ولن يفيد وقتها تصريح صادر عن مسؤول من المسؤولين يدعو فيه الصحافة إلى "احترام أعراض الناس" تصريح تتقبله الصحيفة المعنية على أنه شكر وامتنان ودعوة إلى المزيد، فتعيد الكرة بلا رادع.

وإلى جانب ذلك تطورت عاهات أخرى مثل عاهة الرقابة الذاتية في أوساط الصحفيين والناشرين. لقد أصبح أصحاب الأقلام يخضعون لرقيبين: رقيب وزارتي الداخلية والإعلام ورقيب في أنفسهم أكثر تدميرا من الرقيب الخارجي يجعلهم يستنكفون عن الكتابة أو يكتبونفيمالا يعني الناس. ومن المعلوم أن النفاق والتملق هما لازمة من لازمات الخوف في ظل أي دكتاتورية. وقد تطورت هذه العاهة أيضا بشكل واسع وخطير في المجتمع. ومن المفارقات أنها تشتد كلما صرح أحدهم بان السابع من نوفمبر "ليس في حاجة إلى المدح والإطراء". فكأنما ذلك هو كلمة السر التي يتلقاها المداحون بمعنى: أن زيدوا في المدح والإطراء. وكلما ازداد المدح والإطراء أصبح النقد بمثابة الجريمة و"خيانة الوطن" و" التواطؤ مع أعدائه" وحتى العديد من تراهم يعبرون عن ضجرهم من الأوضاع في البلاد في محيطهم الضيق، سرعان ما ينقلبون إلى مداحين إذا واجهوا مصدح الإذاعة والتلفزة أو أسئلة أحد الصحافيين.

إن الدكتاتورية لا تساعد على خلق مواطن حر، صريح، متحمل لمسؤولية موقفه، بل تخلق جيشا من الأفراد منفصمي الشخصية، يظهرون ما لا يضمرون خوفا من الاضطهاد.

إن استقرارا بوليسيا كالذي تعيشه بلادنا حاليا لا يمكن اعتباره البتة استقرارا سياسيا كما تدعي أبواق الدعاية الرسمية. ولا يمكن اعتبار هذا النوع من الاستقرار أيضا مؤشرا على قوة النظام القائم. على العكس من ذلك فهو علامة ضعف ومؤشر على أن الحزب (التجمع) الدستوري يدرك تمام الإدراك أن بقاءه في السلطة غير مضمون بالمرة لو كان باب حرية التعبير والتنظيم والاجتماع والترشح والانتخاب واحترام حرمة الذات البشرية مفتوحا. فهو يخشى حرية التعبير والصحافة لأنها تكشف الحقائق وتعري الزيف، وهو يخشى حرية التنظيم لأنها تسمح للشعب بأن يتكتل. كما يخشى حرية الانتخاب لأنها تفتح الباب لإزاحته من السلطة. وهو لا يمكنه أن يتخلى عن ممارسة التعذيب وغيرها من الانتهاكات لأنه لا يريد مواطنين معتزين بكرامتهم بل قطيعا من الخائفين الأذلاء. لذلك اختار فريق السابع من نوفمبر الاستمرار في النهج الدكتاتوري لتكميم الأفواه وتفتيت كل تكتل ومحاولة إذلال كل حر عزيز.

إن هذا النهج، نهج الدكتاتورية والقمع، يؤجل نهضة مجتمعنا ويعوق تقدمه.

3 - الحرية ممكنة لمن يريدها ويضحي من أجلها

بينا في الفقرات السابقة الطابع الرجعي لسياسة "الديكور الديمقراطي". وكشفنا عن كونها مجرد وسيلة لتأمين الدكتاتورية الدستورية في ظل الأوضاع المحلية والدولية الجديدة. ومن الواضح أن هذه السياسة لم تعد تخدع معظم المواطنين المتمتعين بحد أدنى من الوعي والحس السليم. ورغم ما أحدثته من تدمير لطاقات المجتمع وما خلقته من شعور بالخوف والإرهاب فإن مشاعر النقمة تتنامى في صفوف قطاعات واسعة من الشعب. لكن هذه المشاعر لم تتطور بعد إلى تيار واع ومنظم. وهو ما يتطلب وقتا وعمل توعية وتعبئة من القوى الديمقراطية والتقدمية الحقيقية للرفع من همم الكادحين وكل الفئات الشعبية الأخرى.

إن الشعب التونسي ليس مكتوبا عليه أن يظل إلى الأبد رازحا تحت نير الدكتاتورية الدستورية محروما من ممارسة حقوقه السياسية في وقت تمكنت فيه معظم شعوب العالم بما في ذلك العديد من الشعوب الإفريقية والأمريكية اللاتينية والآسيوية من تحقيق مكاسب لا يستهان بها في مجال الحريات رغم الطابع المحدود لتلك المكاسب وقابليتها لأن تكون عرضة للمراجعة من قبل الكتل البرجوازية الحاكمة. وفي هذا النطاق لا بد من إدراك هذه الحقيقة وهي أن سياسة "الديكور الديمقراطي"، سياسة النفاق والكذب والتزييف، لم تنجح فقط لأن فريق السابع من نوفمبر يعتمد على جهاز بوليس ضخم وعلى القمع والاضطهاد وإنما لأنه عرف أيضا كيف يستغل نقاط ضعف الحركة الشعبية والديمقراطية في وقت حظي فيه بتواطؤ القوى الليبيرالية والإصلاحية والدينية ورموز البيروقراطية النقابية. وعندما تعرف الحركة الشعبية والديمقراطية كيف تتجاوز نقاط ضعفها فسوف تكون قادرة على مبارزة الدكتاتورية وأذيالها والانتصار عليهم.

عندما جاء فريق السابع من نوفمبر إلى الحكم لم يجد في مواجهته حركة شعبية وديمقراطية متطورة لها أهداف وبرامج واضحة ومستقلة وعلى درجة متقدمة من التنظيم والانتشار مما يجعلها قادرة على فرض تحول ديمقراطي حقيقي على أنقاض الحكم البورقيبي، رافضة للترميمات والإجراءات الشكلية الاحتوائية. لقد كانت الحركة ضعيفة ومدجنة نتيجة القمع الذي عرفته خلال السنتين السابقتين لـ7 نوفمبر (تفكيك الحركة النقابية والحركة الطلابية، محاصرة الرابطة بخلق رابطة الضاوي حنابلية الصورية…) وكان حزب العمال الشيوعي التونسي، الحزب الثوري الوحيد على الساحة وقتها حديث النشأة ومقموعا ومحدود التأثير (إيقافات 1986 و1987) أما الأحزاب الليبيرالية والإصلاحية والدينية فقد ارتمت في أحضان الفريق الحاكم منذ اليوم الأول ومنحته صكا على بياض أملا في أن تتقاسم السلطة معه. وأصبحت بعض الأطراف منها تحلم بـ"حكومة ائتلافية" وتتصور نفسها بعد في قصر باردو أو قصر القصبة. وكان فريق 7 نوفمبر يثير شهيتها ويسيل لعابها بالوعود الكاذبة ويراهن على تناقضاتها ويعمل على عزل بعض الرموز القادرة على عرقلة مشاريعه. وكل ذلك ربحا للوقت من أجل إعادة ترتيب البيت. ولم يكن موقف أهم رموز اتحاد الشغل يختلف عن موقف قيادات الأحزاب الليبيرالية والإصلاحية والدينينة. فقد منحت ثقتها في الفريق الحاكم الجديد. ولم يبق في معارضة السلطة إلا حزب العمال الشيوعي التونسي الذي نادى بتحولات ديمقراطية حقيقية وبكنس الأسس التي قامت عليها الدكتاتورية الدستورية.

وما هي إلا مدة قصيرة حتى تبخرت أوهام المعارضة الليبيرالية والإصلاحية التي لم يعد لها مع الوقت أي وزن جدي على الساحة. وتمكنت السلطة من محاصرتها وتلغيمها من الداخل. ولم يبق لها بعد فترة من المزايدات إلا الإذعان بالكامل لشروط "الديكور الديمقراطي". ولعل أكبر مثال على بؤس هذه المعارضة وتردي وضعها التخريفات الأخيرة لمحمد مواعدة رئيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين حول ما اسماه أحد الصحفيين بـ"المعارضة المشاركة" أو بعبارة أوضح "استراتيجية" "معاضدة" الحزب (التجمع) الدستوري ودعمه مقابل منصب في البرلمان أو حقيبة في الحكومة والتي يحاول أن يقدمها مواعدة على أنها "استراتيجية جديدة" نمليها التغيرات الدولية التي صحبتها تغيرات للمفاهيم بما في ذلك مفهوم المعارضة ، التي خجل مواعدة أن يقول أنها في نظره "معاضدة" خاصة بعد أن أطرد من حزبه كل المناوئين لطموحاته الشخصية. أما "الإخوان" فبعد أن وضعوا ثقتهم في "الله وفي بن علي" (تصريح راشد الغنوشي لوكالة الأنباء الرسمية يوم خروجه من السجن في مارس 1988) وجدوا أنفسهم بعد مدة يملؤون مجددا سجون النظام الدستوري. خاب ظنهم في فريق السابع من نوفمبر فخططوا للإطاحة به، فأطاح بهم. وظلت البيروقراطية النقابية أسيرة توجهها منذ اليوم الأول: التبعية للقصر وهو ما تسبب في إفراغ المنظمة النقابية من عدد كبير من منخرطيها وحولها إلى جزء من الديكور.

لقد استغل فريق السابع من نوفمبر فترة الراحة التي وفرتها له الأحزاب الليبيرالية والإصلاحية والدينية والبيروقراطية النقابية بين 19 نوفمبر 1987 وأفريل 1989 ليعيد ترتيب البيت الدستوري بالكامل: إعادة تنظيم الحزب الدستوري، تدعيم جهاز البوليس السياسي وتجديده، استكمال ترسانة القوانين الفاشية (قانون الأحزاب...) وأخيرا تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية صورية لاستكمال الديكور. ومنذ ذلك الوقت بدأ العد العكسي: الإيقافات والمحاكمات، تدجين الصحافة تدجينا تاما، عسكرة الجامعة، تشديد الحصار على الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ثم حلها... وها أننا نعيش اليوم فترة من أشد فترات القمع "النوفمبري" الذي سبق أن حددنا ملامحه وآلياته وتبعاته. وها أن حزب العمال الذي كافح ولا يزال الدكتاتورية الدستورية في عهديها يشكل من جديد هدفا لقمعها واضطهادها.

وهكذا فإن الأوضاع السيئة التي تعيشها الحركة الشعبية والديمقراطية اليوم لها ما يفسرها وليست قدرا محتوما. واليوم لا يمكن مواجهة الأوضاع القائمة دون استخلاص الدروس من تجربة الخمس سنوات الماضية ، لأن الشرط الأول لنهضة الحركة الشعبية والديمقراطية هو تسلحها بنظرة سياسية سليمة للوضع ولكيفية تغييره. وفي الحقيقة فإن الدروس التي سنأتي على ذكرها فيما يلي تؤكد سلامة المواقف التي طالما عبر عنها حزب العمال خلال السنوات الماضية والتي وصفها،أنذاك، التافهون وضيقو الأفق بأنها مواقف متطرفة.

يتمثل الدرس الأول في أنه من الوهم الاعتقاد في أن بلادنا يمكنها أن تنعم بحياة ديمقراطية في ظل الحزب (التجمع) الدستوري، هذا الحزب الذي ظل يحتكر الحياة العامة احتكارا مطلقا لأكثر من ثلاثين سنة ويكبت كل تعبيرة سياسية وتنظيمية شعبية مستقلة عنه. إن الديمقراطية لن تتحقق لا بواسطة الحزب الدستوري ولا بالاشتراك معه بل ضده وعلى أنقاضه. فقد بينت التجربة أنه حتى وإن تظاهر في فترات أزماته (69-70-80-81-87...) بالتنازل والمرونة فما ذلك إلا ربحا للوقت لإعادة ترتيب البيت والعودة من جديد إلى أشنع أساليب القمع قصد استعادة الفضاءات التي خسرها وبسط نفوذه على كامل المجتمع. وهذا أمر بديهي، فأي حزب فاشي لا يمكنه أن يتحول إلى حزب ديمقراطي أو يترك كرسي الحكم عن طواعية و"طيب خاطر".

أما الدرس الثاني فيتمثل في ان إقامة نظام ديمقراطي لن يتحقق بمجرد استبدال رئيس بآخر أو حكومة بأخرى مع الحفاظ على نفس المؤسسات وترسانة القوانين القمعية الجاري بها العمل. إنها لن تتحقق إلا إذا كنست كل المؤسسات والقوانين التي قامت عليها الدكتاتورية الدستورية وشيدت مكانها مؤسسات ديمقراطية جديدة منتخبة من قبل الشعب، ممثلة لإرادته مكرسة لسيادته خاضعة لمراقبته، وسنت محل القوانين القديمة قوانين جديدة لحماية الحريات وتوفير الظروف المادية لممارستها دون خوف من عقاب أو اضطهاد.

ويتمثل الدرس الثالث في أنه من الخطإ الفصل بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية القائمة على اختيارات اقتصادية شعبية ووطنية، مستقلة عن مصالح الدول والمؤسسات الامبريالية. فالدكتاتورية البوليسية الدستورية ليست اختيارا اعتباطيا معزولا عن الواقع الطبقي في المجتمع وإنما هي الإطار السياسي العام الذي يجري فيه استغلال الطبقات الكادحة استغلالا فاحشا من قبل رأس المال المحلي والأجنبي. إن فريق السابع من نوفمبر ليس قادرا على فرض اختياراته الاقتصادية والاجتماعية الحالية (رهن البلاد لدى المؤسسات الامبريالية، فتح الأبواب للشركات والبضائع الأجنبية، تصفية القطاع العمومي، طرد العمال بالجملة، تلهيب الأسعار...) إلا بطرق غير ديمقراطية لأنه يعرف أن وجود متنفس من الحريات في مثل هذا الظرف سيمكن الشعب من التعبير عن آرائه المناهضة لهذه الاختيارات وتنظيم احتجاجاته. وعلى هذا الأساس فإن النظام الديمقراطي المنشود لن يكون إلا نقيض الدكتاتورية الدستورية، حيث أنه سيشكل الإطار السياسي العام الذي يتحقق في ظله التحرر الاقتصادي للطبقات الكادحة واستقلال الوطن عن الدول والمؤسسات الامبريالية وتدعيم الأواصر القومية مع الشعوب العربية الأخرى ذات الطموحات المشتركة في الوحدة والنهوض.

أهداف غير مشروعة بوسائل غير مشروعة، تلك هي الدكتاتورية الدستورية. أهداف مشروعة بوسائل مشروعة، ذلك هو النظام السياسي الديمقراطي الذي يريده الشعب.

إذا كانت هذه هي الشروط الأولية لقيام نظام ديمقراطي في بلادنا فمن البديهي أن يتساءل المرء ما هو المطلب السياسي الذي ينبغي أن تتركز عليه وحوله جهود الطبقة العاملة وبقية الفئات الكادحة وكل الحركة الديمقراطية في المرحلة الراهنة من أجل تجسيد القطيعة مع الدكتاتورية الدستورية؟ إنه المجلس التأسيسي الذي يدعى الشعب إلى انتخابه بكل حرية ويفتح باب الترشح إليه لكل القوى السياسية والمهنية الديمقراطية دون قيد أو استثناء. ويوكل إلى هذا المجلس بلورة دستور جديد يرسي القواعد الأساسية للنظام الديمقراطي المنشود ويضمن للشعب حقوقه الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية ويحدد للبلاد معالم توجهاتها في السياسة الخارجية على أساس من الاستقلالية التامة والتضامن الكلي مع القضايا القومية والعالمية العادلة.

إن انتخاب المجلس التأسيسي لا علاقة له بالانتخابات الصورية التي تجريها كل خمس سنوات الدكتاتورية الدستورية لتعطي كل مرة نفس النتائج ، بل إنه يختلف عنها اختلافا جوهريا لأنه لن يتم وفقا للشروط التي تفرضها هذه الدكتاتورية على تلك الانتخابات، ولن يكون له نفس الهدف الذي تحدده لها وهو ضمان استمرارية هيمنتها على المجتمع. إنه سيكون كما رأينا في قطيعة مع تلك الشروط ومع ذلك الهدف. انتخابا حرا في ظل ظروف سياسية مناسبة، تتوفر فيها حرية التعبير والاجتماع والانتظام والترشح والانتخاب، أي في ظل ظروف تكون فيها هيمنة الحزب (التجمع) الدستوري على الحياة العامة قد سقطت من الأساس وترسانة القوانين الفاشستية قد ألغيت وجهاز البوليس السياسي وكل المؤسسات الصورية التي تعتمد عليها الدكتاتورية الدستورية قد حلت وكل المواطنين يتمتعون بحقوقهم المدنية والسياسية وكل الأحزاب والتنظيمات السياسية والمهنية والثقافية قد تم الاعتراف بها ووفرت لها نفس الحظوظ لتتنافس على كسب ثقة الشعب.

من الأكيد أن الدكتاتورية الدستورية لن تذعن لإرادة الشعب عن طواعية، بل إنها لن تتردد كما لم تتردد في السابق ، في استعمال أبشع الوسائل لضمان بقائها والحيلولة دون وصول الشعب إلى السلطة. هذا الأمر بديهي بداهة واحد مع واحد يساوي اثنين. لذلك فإن إزاحتها من السلطة وإرغامها على الخضوع للإرادة الشعبية سيتطلب مجهودا كبيرا وتضحيات جسيمة من أجل خلق ميزان قوى يمكن من تحقيق هذا الهدف. إلا أن ميزان القوى هذا يبقى بلوغه رهين رفع مستوى الوعي السياسي للشعب وتطوير قدراته التنظيمية والكفاحية. وهذا لن يحصل إلا انطلاقا من همومه ومشاغله اليومية وأخذا بعين الاعتبار حالته المعنوية في كل مرحلة من المراحل واستنباط الشعارات والأشكال النضالية والتنظيمية المناسبة لها والرامية إلى النهوض بها.

إن المعركة ضد الدكتاتورية الدستورية هي معركة ملموسة، مدارها النضال اليومي ضد انتهاكها لأبسط الحقوق المادية والمعنوية للمواطن التونسي. ومن خلال هذا النضال اليومي الذي تخوضه القوى الثورية والديمقراطية في ارتباط بالجماهير الكادحة والشعبية، تحصل التراكمات الضرورية لإنجاز القفزة الديمقراطية المنشودة. قد يبدو هذا الهدف بعيدا وصعبا في ضوء الأوضاع الراهنة التي تجثم فيه الدكتاتورية الدستورية بكلكلها على الشعب وتعطي في الظاهر انطباعا كأنها قوية وكأن سيطرتها متأكدة وثابتة. لكن:"مادمت على قيد الحياة، لا تقل أبدا، أبدا، وما هو أكيد ليس بأكيد، والأشياء لن تبقى كما هي". هكذا أنشد "برتولد بريخت" المسرحي التقدمي الألماني معبرا عن جدلية الحياة. فالمستقبل للشعب وللديمقراطية وليس للفاشية والدكتاتورية، مهما طغت وتجبرت ، فهي قوية بضعف الحركة الشعبية والديمقراطية. وستصبح كيانا هزيلا، من ورق، إذا أصبحت هذه الحركة قوية منيعة.

حزب العمال الشيوعي التونسي

فيفري 1993


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني