الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > المحمدِيّـة!
أضْـــوَاء وظِــــلاَل*:
المحمدِيّـة!
7 كانون الثاني (يناير) 2011

بقلـم: رضا البركاتي
ridhabarkati@gmail.com

1. بمثابة ورقة تقديمية [1]

الأشرطة القصيرة نمط فنّي قائم بذاته ومستقلّ.

فالفلم القصير ليس تمرينا تمهيديا أو تربصا يقوم به المخرج قبل المرور إلى "الإبداع الحقيقي والفعلي" بإنتاج شريطه الطويل. إنّ الإعلام الثقافي غالبا ما يقدّم الأمور بهذا المنطق ويساهم في تأكيد هذا الرأي السائد-الفاسد حتّى كاد يغزو أذهان أهل الميدان أنفسهم.

وأشهد أنّه يحزّ في نفوس محبي السينما أن يشاهدوا مظاهر من هذا "الميز العنصري" إذ غالبا ما يقع تفضيل الشريط الطويل وتبجيله مقابل تجاهل الشريط القصير وإهماله وربما تحقيره رغم ما يحويه هذا الجنس الفنّي من درر وما ينعقد عليه من إمكانيات تعبير خاصة ومن فنون في السرد السينمائي تفاجئ المتفرّج وتمتعه بالغمز فيلتفت إلى قضايا يصبح.. مورّطا في طرحها ونِعْمَ الورطة.

ولعلّ الاهتمام المتزايد بالأشرطة القصيرة وبروز كوكبة من المخرجين الشبان بدأ يُعيد للشريط القصير مكانته في الساحة. وأكدت تجربة محمد علي النهدي مع قاعة أفريكارت المتمثلة في تنظيم عروض بصفة دورية لتقديم أفلام قصيرة وجودَ جمهور سينمائي واع ويقدّر الفلم القصير حقّ قدره. ونتمنّى أن لا تفْتُر الحماسة لدى المنظمين كما لدى الجمهور بعد تقديم الأفلام التي حازت شهرة وخلقت الحدث مثل "الشاق واق" لنصرالدين السهيلي أو أفلام رضا التليلي ومحمد علي النهدي وغيرهما. ففي السينما التونسية –قبل المرور إلى كنوز السينما العالمية- أفلام قصيرة هامة جدّا. وقد تبيّن لي خلال أحاديثي مع بعض الأصدقاء الشبان أنّه لم يتسنّ لهم مشاهدتها.

وفي الخضمّ... تفتحت الذاكرة عن شريط شاهدته منذ أكثر من ثلاثين سنة! ولكنّه لا يزال حيّا في الذاكرة وبحثت في الشبكة العنكبوتية للتثبت من المعلومات العالقة بالذاكرة حول الشريط ولكن لا أثر... !

الشريط: هو "المحمدية"، شريط قصير تونسي لأحمد بنّيس أبيض وأسود تحصل على تانيت (؟) في "جي سي سي" 1978 (على ما أذكر!).

حكايته: هي حكاية قصر المحمدية الذي اعتزم بناءه أحمد باشا باي ، في بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بضاحية تونس التي أصبحت بلدة تحمل اسمه. وكان الباي قد انبهر بقصر "فرساي" بضاحية باريس التي زارها وقد رافقه في رحلته التاريخية تلك المؤرخ أحمد بن أبي الضياف. ومعلوم أنّ بناء هذا القصر لم ينته، رغم القروض التي طلبها الباي من البنوك الفرنسية وإثقال كاهل الشعب بالجباية وذلك بسبب سياسة الفساد وخاصة فعائل سيء الذكر الوزير مصطفى خزندار...

كيف قدّم أحمد بنّيس حكاية "المحمدية" سينمائيا؟

2. ورقة نقدية [2]: جدلية الثنائيات

لقد انبنى الشريط على جملة من الثنائيات ذات صلة بأساليب التعبير الفني عامة والسينمائي خاصة وتقنياته الشريط القصير وفنون التبليغ. نذكر من ذلك ثنائية السرد الشفوي والكتابة السينمائية. وثنائية الصور المتحركة والصور الحقيقية... والتاريخ والسينما... والذاكرة الشعبية والمعالجة السينمائية...

كما انعقد الشريط على ثنائيات تتعلّق بالمضمون. ويمكن أن نذكر هنا ثنائية "المحمدية" ركام الأطلال –أي الآثار- و"المحمدية" الحيّة المتمثلة في السّاحة والناس والحكواتي... والنهضة والنكسة... والسلطان الفاسد والشعب الكادح... الماضي الماثل في الحاضر... شواهد من المرحلة الكولونيالية (الاستعمار القديم) عِبَرٌ للمرحلة الامبريالية (الاستعمار الجديد)...

هي أشكال فنية بليغة رغم بساطتها واحتضنت مضامين قوية وآنية رغم قِدَمِها. كانت –الأشكال والمضامين- في توافق تام وانسجام مُمْتِع لأنّها –جميعا- مشتقّة من نفس المرجعيات: روح الشعب وضميره الحي.

نورد هنا بعض الملاحظات الأولية حول جدلية الثنائيات.

أ‌- ثنائية السرد الشفوي والكتابة السينمائية.

طريفة جدّا وجريئة طريقة تناول الحكاية إذ اعتمد بنّيس شخصية الفداوي، أو الحكواتي، التقليدية الذي انتصب بساحة المحمدية-القرية ووراءه المحمدية-القصر الذي لم يكتمل بناؤه وراح يحكي حكاية القصر-الخرابة ورحلة أحمد باشا باي إلى باريز.

ولكن كيف يمكن للمخرج التونسي أحمد بنّيس أن يصوّر الرحلة التي قام بها أحمد باشا باي إلى باريز في أواسط القرن التاسع عشر مع احترام كلّ خصوصيات العصر؟

ب‌- ثنائية الصور المتحركة والصور الحقيقية.

معلوم أنّ تحقيق مثل هذا العمل ممكن سينمائيا ولكنّه يصعب تحقيقه على مخرج تونسي سنة 1978 حتى لا نقول يستحيل. لذلك عمد بنّيس إلى توظيف تقنية الصور المتحركة فحرّك صورة السفينة والباي وحاشيته وباريز... فتمكّن بذلك من إبراز العناصر التي أراد تأكيدها والمراوحة بين الصورة المتحركة والصورة الحقيقية، بين الكلمة والصورة، بين الذاكرة والآثار الشاهدة.

وهكذا تمكّن من معالجة قضيّة قديمة مع ربطها براهن الحاضر.

ج- ثنائية التاريخ والحاضر.

في الملفات السينمائية نجد: السينما والموسيقى... السينما والأدب... السينما والأسطورة... كما نجد السينما والتاريخ. وفي هذا الباب مباحث عديدة ومتنوعة ولكنّها تتفق جميعا على أنّ التاريخ في السينما يكون دائما في خدمة الرّاهن وتقع معالجته من زاوية الآن وهنا. ويسارع كلّ النقاد، منذ الحرب الباردة إلى يوم الناس هذا، إلى ضرب المثال على توظيف التاريخ لخدمة قضايا السّاعة بشريط "إيفان الرهيب" للمبدع السوفياتي العظيم س. م. إيزانشتاين لمّا اعتمد صورة الأمير "إيفان" الذي وحّد، في القرن السادس عشر، كافة إمارات روسيا لمواجهة الخطر الخارجي، ليعبّر عن الدّور الذي لعبه ستالين، أب كافة القوميات، في تعزيز لحمة الاتحاد السوفياتي في وجه الخطر النازي الدّاهم.

وفي "المحمدية" نجح بنيس في أن جعل التاريخ والشعب شاهديْن على فساد سلطان الأمس لمّا التفت إلى الغرب وقلّده والتفت إلى الشعب واضطهده. لقد أثقل الباي كاهل الشعب بالجباية التي تضاعفت مرات في ظرف وجيز حتّى.. أفضى الأمر إلى.. انتفاضة قبائل ومدن وقرى البلاد سنة 1864 لمّا بايع الشعب علي بن غداهم السهيلي الماجري باي الشعب.

وفي السبعينات كان قانون أفريل 72 وكان يومُ 26 جانفي 78 وكان 26 جانفي 79 قفصة... وكان يا ما كان. ومن أيّامها إلى اليوم عشريات من السنين الطوال وتونس ترزح تحت وطأة المؤسسات المالية العالمية والشعب يئنّ تحت نير سياسة الفساد.

وكان شريط "المحمدية" حتّى لا تصبح تونس "محمدية".!

3. "السينماتاك".

وفي انتظار بعث "السينماتاك" نتمنّى أن توجد نسخة سليمة بخزينة الوزارة لهذا الشريط وأن تمتعنا جامعة نوادي السينما أو جمعية النهوض بالنقد السينمائي أو قاعة أفريكارت... بعرض ينشط الذاكرة ويعرّف الأجيال الجديدة على خزينة الأفلام عموما ودُرَرِ الأشرطة القصيرة خصوصا.

فعالم السينما كلّ مترابط يخدم كلّ عنصر فيه بقيّة العناصر وكلّ العناصر في خدمة ذات العنصر الواحد. إنّه ترابط جدلي بين كافة مجالات، قطاعات، أجهزة ومؤسسات الساحة السينمائية خصوصا والأدبية والفنيّة عموما. ترابط يحكمه قانون التأثير والتأثر.

فحال المهرجان، مثلا، مرهون بحال نوادي السينما. وصورة الندوة السينمائية –أيِّ ندوة- مرهونة بحال الصحافة الثقافية والسينمائية، إن وُجِدت... ومستوى النقد السينمائي مشروط بالمكتبة السينمائية و.."السينماتاك"...

لذلك فإنّنا نعيد مطلب "السينماتاك" إلى الساحة بأكثر إلحاح حتّى تؤدي هذه المؤسسة المنشودة وظائفها العديدة وأولاها حفظ الذاكرة السينمائية.

نعم لـ"لسنيماتاك" حتّى لا يصبح الفلم تونسي "محمدية".!

هوامش

[1ورقة تقديمية وورقة نقدية من تراث نشاط نوادي السينما.

[2ورقة تقديمية وورقة نقدية من تراث نشاط نوادي السينما.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني