الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > حرية الإبداع / رهان الإبداع
"خمسون" تربح المعركة مرّتين:
حرية الإبداع / رهان الإبداع
5 شباط (فبراير) 2007

2 فيفري 2007 على الساعة السابعة والنصف مساء، المسرح البلدي بتونس العاصمة مزدان بوجوه كان لها الأثر الكبير في نحت معالم تونس المنشودة. الحدث عرض مسرحية "خمسون" لجليلة بكار والفاضل الجعايبي ورفاقهما من الذين آمنوا بحرية التعبير وحق الاختلاف ودور الإبداع في صقل الذهن والذائقة الجماعية للشعوب.

"خمسون" التي أثث عالمها الركحي جملة من الشباب الحامل على عاتقه هم البلاد وأوجاع العباد، أرادوا البحث في أسباب أزمة جيل يتحرك على أرض ملؤها المستنقعات وصحراء رمالها متحرّكة يخبطون فيها خبطا عشواء بلا دليل ولا مرشد.

"خمسون"، تمتد على مساحة زمنية بدايتها سنة 1956 وحدودها 2006، تسأل ماذا تأسس وماذا تقلّص؟ ماذا تحرّر وماذا تفجّر؟ شخوصها : أب مناضل يساري وأم حقوقية وشباب مرتمي في أحضان صناع حلم بائس. خمسون سنة تمضي من حكم بورقيبة إلى حكم بن علي والبلاد تزداد تعفنا والوضع الاجتماعي يزداد توترا والوضع السياسي يسير في خط أفقي مستقيم من الانغلاق والتحجر نحو غد مجهول تتقاذفه التناقضات، كل هذا والخطاب الرسمي يردد بلغته الخشبية أغنية "بلد الأمن والأمان / يحيا هنا الإنسان".

"خمسون"، قصّة شعب محكوم بعصا البوليس السياسي وموثوق بسياسة المافيا، التي لا ترى في كل من يختلف معها إلاّ التهديد لمصالحها وعائق أمام مشاريعها المُبَيّتة لنهب البلاد وخيراتها. وهي قراءة لتاريخ اليسار الذي لم ينجح في الحفاظ على إشعاعه وجذوته التي كانت ملتهبة في سنوات السبعينات من جهة وهو كذلك تاريخ الحركات الأصولية التي عمّت نتاج انهيارات التجارب الاشتراكية وحالة الجزر التي يعيشها الفكر العَلْمَاني وقد ساهم في ذلك التسطيح الفكري والقِيَمِي الذي طبع الساحة الثقافية المتصحرة.

هل نجح الفاضل الجعايبي مسرحيا في هذه المعالجة؟

الركح مربع نشرت عليه زربية بلون بني فاتح يتغير لونه وفق الإضاءة المسلّطة عليه، فمرّة يوحي بحصير المساجد ومرّة بأرضية غرف التحقيق. توزعت على جنباته كراسي مختلفة اللون والشكل منها المصنوع من الخشب البني في شكل تقليدي قديم في إحالة ذكية إلى العهد البورقيبي ومنها ما صنع من المعدن الأبيض والأفرشة النشافة المغطات بالجلد الأسود والتي يسهل طيها وحملها في إشارة إلى الكراسي الحديثة في العهد الراهن ويقع التداول على استعمالها كل ما تغيّر الحدث في الزمان من حقبة إلى أخرى. كما لم يكن الدخول والخروج على الركح من قبل الممثلين هيّنا على المتفرّج حيث يثير اللّخبطة والبلبلة لتقمص الممثلين لأدوار عديدة ومتناقضة لذلك لم ينجح المشاهد في بناء علاقة تواصل مع الشخوص سواء بالقبول أو بالنفور ما عدى في بعض للحظات القليلة، الأمر الذي يجعلك في حيرة من أمرك مع من ضد من يمكن أن تأخذك مشاعرك التي تودّها أن تكون منتصرة إلى القيم الإنسانية والتقدمية.

لئن نجح الفاضل الجعايبي وسامي النصري مساعد المخرج في تعرية آفة التعذيب والمحاكمات السياسية وتعرية شخصية البوليس التقليدي في العهد البورقيبي الذي كان محكوما بجهله وبعقليته الأبوية وتركيبته "الميكانكية"، والبوليس الحديث المتعلم والأنيق والدارس لأساليب التحقيق والتعذيب لدى إخوته الفرنسيين والأمريكان فإنه لم يقع الحسم في إبراز الموقف من الأصوليين فالسؤال حول السلفيين يطرح العديد من المرّات بأشكال مختلفة ليبقى معلّقا. وفي محاولة للإجابة تقول "أمل" الشخصية التي كانت ماركسية ثمّ أصبحت أصولية والتي تقمصتها الممثلة لبنى مليكة: "قول لبابا ما تْخَافِشْ ما ضاع شَيْ ما زلتْ كيف ما أَنَا على المحبَّه اللّي ربيتْني عليها لكن بطريقه أخرى"، كأنما هي إشارة إلى أن الفراغ الذي تركه اليسار هو السبب في امتلاء الفضاء بالفكر الغيبي والطرح الأصولي.

"خمسون"، ثلاث ساعات دون إحساس بالضجر ودون إحساس بهناءة البال والفكر أمام عمل يجادلك في عمق مصيرك الإنساني. نجاح الفاضل وأصدقائه في مسرحية "خمسون" نجاح مزدوج، أولا في "ربح معركة حرية الإبداع" والثاني وهو مهم في "كسب رهان الإبداع" في فضاء طغت عليه التفاهة والتسطيح...


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني