الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > حفل أنصار إسرائيل والرّقص على موسيقي الدّبابة
وجهة نظر:
حفل أنصار إسرائيل والرّقص على موسيقي الدّبابة
11 أيلول (سبتمبر) 2010

رُوّجت في أواخر شهر جويلية على الشبكة الاجتماعية "الفايس بوك" أجزاء مقتضبة من حفل يظهر فيه عدد من المغنين التونسيين، وهم كل من سليم البكوش ومحسن الشريف وعبد الوهاب الحناشي ونور الدين الكحلاوي، كما تردّد أن حسين العفريت الذي لم يظهر في الصورة كان من بين الحضور، بالإضافة إلى مجموعة من العازفين من بينهم "السلامي" عازف الكمنجة وأحد عناصر الفرقة الرسمية للموسيقى بالتلفزة التونسية "قناة 7". ويبدو من خلال الأغاني واللباس، أن الحضور كان مخصصا لتونسيين ولإسرائيليين من أصول تونسية، كما يبدو من خلال مشاهدة الفيديو أنهم من أنصار الرئيس بن علي لأنهم ردّدوا دون أيّ تردد شعار "يحيا بن علي" عندما دعاهم محسن الشريف لذلك، وأنهم ردّدوا بنفس الطريقة شعار "يحيا بيبي ناتنياهو" في انسجام لم تظهر عليه أية مظاهر لرفض ذلك ممّا يعني أنهم كذلك من أنصار إسرائيل.

كما تردد أن هذا الحفل أقيم في "ايلات" الخاضعة للإدارة الإسرائيلية ممّا يعنى أنه وبقطع النظر عن ترديد "يحيا ناتنياهو" أو "يحيا بن علي" فإن الحاضرين في الحفل والداعين إليه، هم من أنصار الكيان الصهيوني، وليس للحفل علاقة أو ارتباط بالديانة اليهودية اعتبارا لكون هناك من التونسيين من يعتنقون اليهودية إلا أنهم ليسوا من أنصار إسرائيل.

منذ ترويج الفيديو ظهرت عدة بيانات إدانة، ومقالات صحفية امتدت إلى الصحافة العربية والقنوات التلفزية، وتطوّر الأمر إلى حملة واسعة رفعت عديد المطالب، وأبرزت حجم السخط الواسع على هذه الحفلة وعلى "المغنين".

من الملاحظ أن أغلب الحملة التنديدية تركزت على نقاط محددة من الموضوع وانحرفت عن الموضوع الأصلي وكيفية التعاطي معه.

فالبعض من متابعي الحدث اعتبر حملة التنديد هستيريا غير مبرّرة، وعنوانا لتخلفنا، في حين رأى آخرون أن الموضوع فرصة لمحاصرة "المطبعين" وفضحهم والتشهير بهم قصد عزلهم، وآخرون اعتبروا هذا الحفل أحد المؤشرات والدلائل على مدى توسّع تأثير الكيان الصهيوني في بلادنا.

في هذا الإطار أودّ المساهمة والتفاعل مع النقاشات، الجدية منها خاصة.

كيف يمكننا قراءة الحدث

لأنه حدث ارتبط في ظاهره بالمناداة بحياة "المجرم العسكري" وأحد أهم القيادات السياسية الإسرائيلية "ناتنياهو" تحوّل إلى حدث غير عادي، ففقد بذلك طابعه الاحتفالي الخاص، وارتبط بالموقف من الكيان الصهيوني. في حين أن الموقف الذي بات بديهة لدى الجميع على مرّ السنوات والآلة العسكرية والسياسية والإعلامية الصهيونية تقاتل وتقتل شعب بأسره وهو الشعب الفلسطيني المناضل يتمثل في معاداة هذا الكيان.

وخلافا لما ذهب إليه البعض من نقاش وتنديد بمحسن الشريف لأنه نادى بحياة "ناتنياهو"، أعتقد أن الموضوع لا يمكن التركيز على جزء منه وترك الموضوع الأساسي فيه جانبا. إن هذا الحدث كغيره من الأحداث مرتبط بالمناخ والإطار الذي حدث فيه. فمثلا لو أقيم حفل خاص، في أحد الأحياء الشعبية بالعاصمة وردّد أحد المغنين شعار "يحيا بن عليّ" فمن المتأكد أن الحضور لن يردّد معه ذلك، بل ربما وهو أقرب إلى الظن أن يبلغ آذانه السبّ والشتم ونعته بـ"القوّاد"، ولو تنادى بحياة "ناتنياهو" فإن ردّة الفعل ضده أتصوّرها شبه قاتلة بالمعنى الجسدي للقتل.

أمّا إذا كان الحفل منظما من قبل الحزب الحاكم، فالإطار منسجم والهتاف بحياة بن علي، ولا يمكن لأيّ كان أن يردد شعار آخر دون الإذن له وطلب ذلك منه مثلما يطلب من المغنين العرب عادة في المهرجانات بذكر بن علي ومناقبه في دعم الفن والفنانين. هذا ما يجعلني أتساءل عن الإطار الذي يمكن أن يردّد فيه "يحيا بن على" من قبل المغنى وكذلك الحضور، وفي ذات الوقت المناداة بحياة "ناتنياهو". ومن الواضح من خلال مكان الحفل واللباس والأغاني والكلمات، أن هذا الحفل ما هو إلا حفل يحضره إسرائيليون من أصول تونسية وتونسيون مناصرون لبن على ولإسرائيل، وأنّ الذي نظم هذا الحفل بما فيه من إجراءات تنقل وتأشيرات وتمويل، هو جهة ذات علاقة بنظام بن على والكيان الصهيوني، وفي هذا الإطار يصبح نوع الشعارات التي رفعها محسن الشريف أو غيره من السلوك عادي في هذا الإطار وليس كما ردّد البعض أن الحفل خاص، وخال من أية شبهة، وأن محسن الشريف نادى بحياة "ناتنياهو" بإيعاز من أحدهم وحتى لو كان ذلك صحيحا فإن هذا الأخير يعرف طبيعة الحفل والإطار الذي هو فيه يسمح بذلك، ممّا يعنى أن الحدث هو حفل لإسرائليين ومناصرين للكيان الصهيوني وهذا مكمن الاحتجاج.

تماما كما لو وقع هذا الحفل في المنطقة الخضراء ببغداد، فإن القضية الأصلية تكون في إطارها العام المتمثل في حضورهم في مثل هذا المكان وليس المناداة بحياة بوش أو أوباما، الذي يعتبر حينها ثانوي.

كما أن السلطة على دراية تامة بالموضوع، وهو مندرج ضمن سياستها بمبرراتها، الاقتصادية تارة، والسياحية الدينية تارة أخرى "تحت حسّ مسّ".

علاقة المغنين بالسلطة

سارع العديد من "المتملقين" للسلطة بتبرئة ذمتها من المغنين، وصمتت الجهات الرسمية رغم ارتباط اسم "بن علي" بـ"ناتنياهو"، ومن الملاحظ أن الجرائد التونسية التي تناولت الخبر ركزت على "ناتنياهو" وتجاهلت تماما المناداة بحياة "بن علي" اقترانا بذلك.

من المعلوم أن هؤلاء وزمرة من المغنين التونسيين هم من جوقة النظام، فهم من يحيون حفلات "التجمّع" الدعائية لـ"بن علي"، وخاصة منها الانتخابية، وهم من بين الذين تستعملهم السلطة باستمرار في المباركة والمناشدة لـ"رائد الإصلاح"، كما أنهم سفراء النظام لإحياء حفلات الولاء "لصانع التغيير" في أوساط الجالية التونسية المهاجرة وذلك بتنظيم من قبل هياكل الدولة أو الحزب الحاكم، كما أن درجات التملق والانتهازية والوصولية لديهم لا يضاهيها شيء من مثل دعوة محمد الجبالى لرئاسة "بن علي" مدى الحياة على شاشة "تونس 7" أو من مثل تملق منصف عبلة بالتفنن في وصف "بن علي" وهو يحيي حفلا للجالية بمناسبة الانتخابات الرئاسية الخامسة، إضافة إلى إحياءهم حفلات للأجهزة الرسمية للدولة مثل الجيش والديوانة والحرس وغيرهم.

إن هؤلاء هم في الحقيقة، الأبواق الدعائية باسم الفن لهذا النظام، وهم أصحاب الأيادي الطويلة في الجرائد والإذاعة والتلفزة، جعل منهم النظام رموزا ذات نفوذ مالي ورمزي يسيطرون به على هذا الفضاء دون سواهم.

هؤلاء اللذين يتغنون في حفل أنصار إسرائيل، مرتبطون بدوائر المال والنفوذ. في الوقت الذي تحاصر السلطة فيه أية إمكانية لغيرهم من الأصوات المبدعة، الملتزمة أو الناقدة أو غير المنضبطة للجهاز الرسمي، وتمنع عنهم الفضاءات العمومية والخاصة ويعمد إلى تهميشهم مقابل النفخ في زمرة مثل هؤلاء المتذللين للنظام ولـ"ناتنياهو" وحتى للشيطان إذا كان "العربون" جيّدا.

لقد تربّوا على الولاء للنظام وليس لتونس، لذلك ينتصر جزء منهم لـ"العربون" الإسرائيلي والجزء الآخر لـ"عربون" المناشدة والتملق لصاحب نعمتهم وليس للشعب التونسي أو لراية الوطن.

فلا غرابة إذن أن يردّد حسين الشريف "يحيا بن علي" لأنه بقوله ذاك يمكنه أن يقول بعده ما يشاء فالمهم التحية التي ترضى عنه الجماعة.

مقاومة المطبعين: سحب الجنسية والشتيمة

توسّعت حملة التنديد بأنصار إسرائيل واتخذت اتجاهين رئيسيين: الأول تمثل في صدور مواقف رسمية عن هياكل نقابية وفنية وسياسية تميّزت بوضوح الموقف والتنديد بمثل هذه الممارسات، والتأكيد على مناهضة التطبيع ومساندة الشعب الفلسطيني إجمالا، أمّا الحالة الثانية فتمثلت في الدعوة إلى سحب الجنسية عن الذين شاركوا من "الفنانين" وتصويرهم على شاكلة حيوانات مشوّهة، مثل القردة والخنازير، واستعمال شعارات هتلرية مرفقة بصوره في إشارة إلى نظرة ايجابية منهم إلى ما اقترفه هتلر ضد اليهود، إضافة إلى الشتائم يشتى ألوانها التونسية، وبدا هذا الاتجاه الأخير مسيطرا على الحملة على المواقع الالكترونية.

أودّ مناقشة الحالة الأخيرة ليس من زاوية أخلاقية، أو من قبيل الوعظ، وإنما طرحها من زاوية تتعلق بالأفكار والتصوّرات التي يمكن أن تقدمه باعتبارها مؤشرا عن أفكار سائدة في المجتمع التونسي.

إن المطالبة بسحب الجنسية هي مطالبة مرفوضة، فليس من حق أيّ تونسي أن ينزع الجنسية عن تونسي آخر مهما كانت الجريمة المقترفة، وهي مطالبة لا يمكن الدفاع عنها سواء كان رافعها له دراية بخطورتها أو الذي يرفعها غير مبال بطبيعتها.

لماذا نطلق مثل هذه الأحكام؟
ولماذا في المقابل لا نتبنى هذا المطلب من زاوية العبرة لمن يعتبر؟

السبب الأول الذي يجعلني ضده بلا هواة وهو سبب تاريخي، لقد كان سحب الجنسية أو النفي من البلاد أسلوب الاستعمار في مواجهة الوطنيين، وكان هذا الأسلوب بيد السلطة القهرية فتستعمله لتصفية خصومها، فهو سلاح سياسي لا علاقة له بالعدل والعدالة، ولعل المتابعين الآن لحملات اليمين اللبرالي الحاكم في أوروبا يدركون خطورة مثل هذا الشعار الذي يرفعه "ساركوزي" مثلا في فرنسا كدرجة من درجات العقاب، ولا تتوانى الأنظمة الدكتاتورية العربية عن استعمال هذا الأسلوب بما فيه النظام التونسي الذي هدد بعض خصومه بذلك.

السبب الثاني، ديمقراطي، فمن المفروض أن يكون المنتصرون للقضية الفلسطينية مدافعين عن المواطنة والمساواة بين كافة أبناء الوطن في الحقوق والواجبات، ومن بين الحقوق والواجبات الحق المطلق للمواطن في وطنه مهما كانت جريمته، يحيا فيه ظالما ومظلوما، حرّا ومسجونا، ما دام لم يقرّر هو التخلي عنه.

السبب الثالث، يعود إلى مبدأ العقاب في حد ذاته، فالبشرية عبر تطور ممارستها وتجاربها ووعيها ترفع دائما مبادئ لصالح البشر عامة، من مثل ذلك استبدال أقصى أحكام الجناية بالحكم مدى الحياة بدلا عن عقوبة الإعدام، حتى أن الأحكام الجنائية باتت أحد مقاييس تقدم نظام سياسي مقابل آخر، وهي محرار لتطور الشعوب، فالمجتمعات والدول التي قاومت ونبذت بصورة نهائية الأحكام الجنائية الطبيعية كالإعدام تعتبر منظومتها الجنائية الأكثر تطورا وعكسها الأكثر تخلفا.

فنضالنا من أجل الديمقراطية، هو كذلك مرتبط بمقاومة سلسلة من العقوبات القروسطية على قاعدة رؤية إنسانية لمفهوم العقاب والأحكام الجنائية، مثل حكم الإعدام وقطع الأطراف وقهر الجسد وكذلك مقاومتنا لعقوبة النفي والإبعاد وسحب الجنسية، وهذه المكتسبات الإنسانية لا تعنى إقرار الإفلات من العقاب بل أنسنته وتحديد أطرافه وحدوده سدّا للباب أمام أية إمكانية لعودة أفكار العقاب الطبيعي لما فيه من بربرية ووحشية. وفي هذا الإطار فالمطالبة بسحب الجنسية هي مطالبة بوضع جريمة ينال من يقترفها حكم سحب الجنسية وفي تقديري لا توجد أية جريمة يمكن الارتكاز عليها لسحب جنسية مقترفها.

كما أن النضال من أجل فلسطين حرة ومن أجل هزيمة الكيان الصهيوني، لا يكون إلا بمبادئ إنسانية راقية وثورية في طرحها والدفاع عنها، لذلك فإن المطالبة بسحب الجنسية يندرج ضمن أطروحات العقاب الجنائي الماسّ من الحقوق الأساسية للمواطنة التي تقضي الحكم العادل والعقوبة العادلة.

وبنفس المنطق فالذين يهاجمون أنصار إسرائيل عبر رفع شعارات نازية واستعمال صورة هتلر، لا يعكس أية جدية في مقاومة الصهيونية و"تطبيع المطبعين"، ولا معنى له سوى تبنى أطروحات مجرمين بدعوي النكاية في اليهود. إن هذا التعميم وهذا الأسلوب يعود إلى الذين ينادون بالعنصرية. أمّا المناهضون للاحتلال الإسرائيلي فإنهم يناضلون من أجل القضاء على العنصرية وليس نصرتها.

أمّا من الناحية النقدية الفنية، عبر نقد هؤلاء بطريقة تعتمد على تركيب الصور ومحاولة إدراجها في قالب الكاريكاتير ومن ثمة الدفاع عنها من هذه الزاوية، فهذا الرأي لا يفصل بين أمرين، وهما النقد من ناحية، والسقوط في العنصرية من ناحية ثانية.

إن عملية تركيب الصور وتحويلها إلى كاريكاتير، تعتبر فنّا من بين الفنون، ومجال حرية هذا النمط من الفن واسع ولابد من الدفاع عنه، ومادمنا ندافع عن عروس البحر باعتبارها مركبة من جسم سمكة ورأس امرأة جميلة، يمكننا أن نضع رأس رجل ما على جثة خنزير، ونسميه ملك جمال البر حتى لو كان هذا الرأس رأسي فلا يهم مادامت العملية واردة في مجال الرمزية والنقد، أمّا إذا تحوّل المضمون إلى الفصل بين الفرد الخنزير والفرد العادي المتفوق عليه، فهذا ينزلق بنا إلى العنصرية وهو ما برز من خلال الحملة ضد هؤلاء، وهو ما أدينه بدوري لأنه أسلوب عنصري منحط أخلاقيا وسياسيا وقيميّا.

مقاومة الصهيونية والنضال من أجل الديمقراطية، ردّا على أحمد الكحلاوي

بروز وتطور التناقضات بين الكيان الصهيوني وأنظمة دكتاتورية واضح وبارز في المنطقة العربية. كما أن الكيان الصهيوني جعل من تلك الأنظمة "الفزاعة" الدائمة بدعوى تهديد وجوده، وفي الواقع ليس ذلك بصحيح. كما أن الدكتاتوريات المتقاطعة مصالحها مع هذا الكيان مستمرة بدورها في تبرير إيديولوجيا الدكترة بالتصدي للكيان الصهيوني تحت راية المسألة الوطنية والقومية في حين أنها في الحقيقة عمالتها فائقة الرائحة. ولكن هناك أنظمة أخرى علاقتها بإسرائيل أكثر تعقيدا لأنها قائمة على جملة من المعادلات المتداخلة ليس المجال مجالها.

أريد بهذه الإشارة العودة إلى موقف لا يزال منتشر لدى البعض في تونس، ويتمثل هذا الموقف في الفصل بين النضال من أجل الديمقراطية ومقتضياته النضالية في التصدي لنظام الحكم مدى الحياة، والاستيلاء على الدولة، والسيطرة على المجتمع، وهو ما يكلف ضريبة قاسية من القمع بمختلف أشكاله لمن يتخذه نهجا له من جهة، ومقاومة الصهيونية والتطبيع من جهة ثانية.

وتبيّن خلال السنوات الماضية، عدم صلاحية هذه الرؤية التي تفصل بين النضال الديمقراطي الداخلي ومقاومة الصهيونية، لأنه لا إمكانية للفصل بينهما، فالنضال من أجل الديمقراطية هو العمود الفقري لمناهضة التطبيع وليس العكس، فتبنى القضية الفلسطينية والقضايا العربية يمرّ عبر طرحنا ونضالنا الديمقراطي في تونس ومواجهة الدكتاتورية والدكتاتوريات بالداخل. في هذا الإطار أقدّم ملاحظات حول موقف شخصية معروفة في تونس بمناهضة التطبيع وموقفه من هذه الحادثة وهو الأستاذ أحمد الكحلاوي.

يقول الأستاذ في اتصال مقتضب بقناة الجزيرة ما معناه أن هذا الفنان (في إشارة إلى محسن الشريف) "حالة معزولة"، وفي إجابته عن المناداة بحياة "بن علي" اقترانا بـ"ناتنياهو" قال "نرفض ربطه بأيّ كان من التونسيين".

من خلال هذه العبارات يحاول أحمد الكحلاوى جعل الحدث بسيطا ومحدودا ومعزولا، وأنه ليس إشارة جدية أو كشف لما يمكن أن يكون أوسع انتشارا وقوة ونفوذا. فركز على أنه معزول وقوله أنه معزول هو قول يقصد من وراءه أن مقاومة التطبيع في تونس ناجحة باعتبارها موضوع وحدة بين الشعب والمعارضة والسلطة. واستعماله لهذه الصيغة دون أية إشارة نقدية للسلطة تجعل من موقفه حالة تبريرية وترديد لموقف السلطة ذاتها، ولا يعكس حقيقة مدى تطوّر العلاقات بين النظام التونسي والكيان الصهيوني. ممّا يجعلنا نطرح سؤال هل بالفعل السيد الكحلاوى يجهل الواقع، أم أنه يحاول التخفيف من الفضيحة لصالح جهات يعرفها هو، قبل غيره؟

الإجابة الأكثر منطقية هي أن السيد أحمد الكحلاوي لا يزال متمسكا بأجوبة خاضعة إلى تصوراته السياسية،التي تقدم قضية مناهضة الصهيونية على النضال الديمقراطي الداخلي وذلك لدرء بطش النظام به إذا ما ربط الموضوعين، ومن حيث لا يدري يجد نفسه في مثل هذه الوضعيات مدافعا عن النظام ومتخليا بذلك عن القضية التي يدافع عنها. وهو بذلك لا يستند إلى الواقع والوقائع وأن مضمون فكرته أن النظام ليس له دراية وأن هذا الحدث معزول وأن التطبيع في تونس مقاوم وأن ربط اسم الرئيس التونسي بهذا الموضوع مرفوض وإذا ما اعتبرنا أن الأستاذ الكحلاوى مقاوم للتطبيع ويتبنى مثل هذه الأطروحات، واضح سياسيا أنه يفصل بين مقاومة التطبيع والنضال من أجل الديمقراطية، وما يزال يعتقد أن مهادنة السلطة وعدم قول كامل الحقيقة اتقاء لقمعها، وأن مثل هذه المواقف التي تنظر للواقع بنصف العين تسهّل عليه مهمته واستمرار وجوده في الدفاع عن القضية الأم وهي مناهضة التطبيع.

مثل هذه المواقف هي التي تشيع السلبية في التصدي للتطبيع المقاد رسميا من النظام بأساليب ملتوية. والدلائل على ذلك في أن مقاومة الصهيونية تمرّ أولا عبر مساندة الشعب الفلسطيني، مساندة فعلية وليس مجرّد "دقان حنك"، وفي هذا الإطار نتساءل، هل يمكن لمواطن تونسي أن يجمع أبسط التبرّعات لهذا الشعب المقاوم حتى ولو كان كراسا. ألم تتفطن السلطة للنقابات والأفراد الذين فعلوا فعل المساندة وعاقبتهم على الفور، ومنعت كافة أشكال الإسناد، في حين تقام الحفلات في "ايلات". وأعتقد أن السيد أحمد الكحلاوى يعلم ذلك ولكنه لا يقول الحقيقة إلا التي يرى أنها لا تزعجه.

فتحي بالحاج يحي واستبدال النقد بالتبرير

لقد أصاب السيد فتحي بالحاج يحي في توصيف بعض جوانب الحدث، إلا أنه، ورغم أسلوبه الرمزي الساخر، لم يوفق في تأطير الموضوع، وإنما سقط في إطلاق بعض الأحكام العامة، والمقارنات التي أرى أنه دسّها مواقفا سياسية يمكن رصدها في الجوانب التالية:

عندما كتب السيد فتحي عن محسن الشريف، حاول بسط الموضوع على أنه بسيط وعادي، بل قام بعملية تبرير مزيّنة بعبارات وأفكار غير سليمة من جهة الواقع والحيثيات، وقدمها على أنها موثوق بها. حيث يقول في هذا الإطار: "عندما يسافر إلى خارج تونس لإحياء حفل ما يشعر كما يشعر سائر الفنّانين التّونسيين، بأنّه سفير للأغنية التّونسية فتسكنه الحاجة إلى إعلان ذلك على الملأ. وكي لا يطول شرح مهمّته في إعلاء شأن بلدنا الصغير جغرافيا والكبير ثقافيا، فهو يختزلها في اسم رئيس الدّولة".

أعتقد أن هذا الرأي لا يعكس الحقيقة بالمرة، بداية لأن هؤلاء عندما يقيمون الحفلات خارج تونس في أغلب الحالات يكون منظمها التجمع أو إحدى مؤسسات الدولة وبذلك تكون المناداة بحياة الرئيس ليس لغاية تعريف الآخرين بالفن التونسي، بل إن القادمين هم بدورهم يعرفون من سوف يغني، ويذهبون لفلان أو علان على قاعدة معرفتهم تلك، وأن ترديد شعارات التزلف ما هي إلا عادات "التجمّع" المهيمن على مؤسّسات الدولة وليس كما ذكرت بتاتا. ثم ما موضع هذه المغالطة بأن يعرف "السامع"، هل السامع يذهب للاستماع دون معرفة مسبقة؟ لذلك فإن هذه العادة لا توجد وتنتفي كليا إذا ما كان الحفل منظما من قبل جهة غير "التجمّع" أو القنصلية أو جمعية تابعة لهم، وهذا بالتجربة وواقع الأمور، فالتعميم في القول خطير من هذه الزاوية لأن تونس والفن التونسي والأغنية التونسية أكبر من هذا الحزب ومن المسيطرين عليه.

والحجة الثانية التي تؤكد ما ذهبت إليه أن هذا ما يقع داخل تونس أيضا فالحفل المنظم من قبل وزارة الثقافة أو "التجمّع" تفرض على المغنى حتى الأجنبي على ذكر الرئيس فهل هؤلاء يريدون أن يعرفوا الشعب التونسي بمن يحكمهم؟

لذلك لا علاقة لهذا الموضوع بالاستقلال بل بالحكم، أي أينما وجد حفل فيه تأثير مباشر تنظيميا لـ"التجمّع" ذكر الرئيس، وأينما وجدت مساحة فاصلة أقل ضغط لا يذكر فيها الرئيس، وعندما يكون حفلا مستقلا عن السلطة يكاد يكون معاديا لها، فإذا ما ذكر الرئيس تأفف الجميع ووصف القائل بـ"القوّاد" هذا إذا لم يرجم يُرْمَ بالنعال سواء داخل تونس أو خارجها. إن هؤلاء ليسوا بسفراء الأغنية التونسية كما تدّعى، بل سفراء مصالحهم المرتبطة بالحزب الحاكم.

كما تقول تبريرا مرة أخرى "وفجأة اقترب منه شخص من الحضور وأسرّ له في أذنه بشيء ما فأخذ ينادي "يحيا نتانياهو، يحيا بيبي". لم يتردّد لحظة ولم يفكّر في الموضوع إلى درجة تَحْمِل على تصديقه عندما صرّح أخيرا على "الفايس بوك" بأنّه لم يكن يعرف من هو "نتنياهو"".

هل بالفعل السيد فتحي يتبنى فلسفة "الفجأة" في نقد الظواهر والأحداث، وهل كان ترديد ذلك من قبل الحضور فجأة؟ أم أن الإطار مناسب وغير متناقض وهذه الشعارات وهو منسجم مع الحضور. أمّا عن عدم معرفة محسن الشريف بـ"ناتنياهو" فلا أصدقه إلا إذا صدقت أنت انه لا يعرف "بن علي".

كما أن محاولة الفصل المنهجي بين "يحيا بن علي" القادمة من سفراء الأغنية و"يحيا ناتنياهو" القادمة من "وأسرّ له في أذنه" هو فصل تركيبي وليس واقعي وتعميق البحث في الفصل الكامن في الخلفية هو حفر غير معتمد على التفكيك والنقد والاستنتاج الموضوعي وإنما قادم من محاولة تمرير فصل على القياس السياسي لحضرتكم.

أما النقطة الثانية التي تبدو غير واقعية وركّز عليها السيد فتحي في تعميه قوله: "الغريب في الأمر أنّ أطرافا من المعارضة التونسية التي استُهدفت مباشرة من قبل قانون متابعة كلّ من يمسّ بمصالح البلاد الاقتصادية، وعانت من قسوة أن يجد المرء نفسه أمام أشخاص يزايدون عليه في وطنيته وانتمائه إلى هذا البلد، قد انخرطت بدورها في مطلب سحب الجنسية التونسية".

وهذا غير صحيح، والقول هذا يدفعني أن أقول أن هناك فكرة مسبقة قائمة على التجني من قبل الكاتب لأن المعارضة التي تم استهدافها من قبل النظام بقانون "الخيانة" واتهمها بتعطيل اتفاقية الشريك المتقدم مع الاتحاد الأوروبي لم تنخرط في هذا النقاش ولم تطالب بسحب الجنسية، وخلال هذه الفترة بالذات كانت مكوناتها منشغلة بملفات نضالية أخري ولا أقصد طرفا بعينه وإنما المعارضة المهاجمة مباشرة من قبل النظام وليس معارضة "لا أنحبّك ولا نصبر عليك" أو معارضة "المناشدة والمباركة".

وإذا كان يقصد السيد فتحي تنسيب الأمور إلى درجة تقارب المعارضة "المتجذرة" والذهنية العامة لإبرازها على أنها معارضة نفسية وانفعالية فهذا غير سليم لأن المعارضة الديمقراطية التونسية اليوم متجاوزة موضوعيا لما أردت الذهاب إليه.
كما أن النقابات والهيئات والجمعيات التي عبّرت عن موقفها، كان موقفها مبدئيا ومعقولا ونضاليا ولم تسقط في النقاشات التافهة والمزايدات ولم يصدر في أيّ بيان من بياناتها مطلب سحب الجنسية، لذلك فإن تسطيحك للموضوع على هذا النحو لم يصب الهدف.

وما بنيته من استنتاجات على هذه المصادرة غير السليمة تصبح لا معنى لها سواء في المبدأ العام أو في التخصيص.

أما في قولك "في البلاد ألف ملفّ وملفّ يحتاج من المعارضة معالجة وتفسيرا وشرحا..." فهذا لا يلغى حق الناس في التعبير ونقاش موضوع بعينه في خضم الملفات لأن الأمور في هذا الإطار لا تسير مثل الإدارة، فالحالة السياسية والاجتماعية والفكرية مفتوحة على الاحتمالات، وتداخل الأولويات بين اللحظة والأخرى، وهي حركة غير منضبطة منهجيا لزاوية نظر منعزلة. والنقاش في مثل هذه المواضيع لا يعنى إلغاء أيّ موضوع آخر ولا إعادة تصنيف الأولويات والملفات ثم إن الحركة الاجتماعية المحدودة أو الواسعة الجماهيرية هي التي تبوّب أولوياتها وليس العكس.

طرح السيد فتحي عدة نقاط أخرى في مقالته تحتاج للنقاش من الناحية الفكرية وخاصة في تحديد الوقائع ذاتها. كما أن العناصر التي تعاملت مع هذا الموضوع بشعارات عنصرية وبشعارات مستمدة من تاريخ الدكتاتوريات والإصرار على الاكتفاء بسطح الأمور، ليس مسألة قدرية هكذا دون وجود أرضية منتجة لها والسيد فتحي يعرف ذلك لأن المجتمع المكبوت والمحاصر يحتاج إلى حركة وعي وفي حالتنا الراهنة حركة الوعي لن تمرّ إلا عبر التصدي للدكتاتورية الحاكمة. لأنها هي التي تحجب الحقيقة عن الشعب وتحول دونه وقضاياه العادلة، كما أن تغلغل الصهيونية لا يكف ولعل خبر "رافائيل حداد" الجاسوس الإسرائيلي صاحب الجنسية التونسية وافتضاحه بعد تاريخ الحفل تزيد من التأكيد على هذا الخطر.

سبتمبر 2010
لطفي الهمامي

ملاحظة

1- نص السيد فتحي بالحاج يحي بعنوان: "بيبي" طلع موش بو العروسة. الموقع الالكتروني الأوان بتاريخ 13 آب 2010
2- تصريح قدّمه الأستاذ أحمد الكحلاوى لقناة الجزيرة المغاربية عبر الهاتف.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني