الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > ضِـــدَّ التَلفـَـــزَة !
أضْـــوَاء وظِــــلاَل*:
ضِـــدَّ التَلفـَـــزَة !
26 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

بقلـم: رضا البركاتي
ridhabarkati@gmail.com

بلغني أنّه أعلن عداءه للتلفزة فاستخبرتُ عن الحكاية.

كيف قَضيْتَ عطلتكَ؟

في افتتاح السنة الدراسية الجارية، أجال نظره في القسم محاولا استشفاف كيْفية انطلاق هذا العام الدراسي الجديد. وتمكّنتْه رغبةٌ في التعَرّف على تلامذته الجُدُد وفي الاقتراب منهم أكثر. كانت الناشئة (المعدّل العمري: 18 سنة) جالسة أمامه تنظر وتتهامس عن طِباع مُدرِّس المادة وتتساءل عن علاقته بالأعداد: أهو كريم كَرَمَ حاتم الطائي أم هو بخيل بُخْل بُخلاء الجاحظ؟

وطفا سؤال من قاع الذاكرة. هو سؤال قديم من عهد كتاب "اِقْرَأْ"، كتاب المدرسة الأولى التي زادت ذكراها بهاء في زمن عولمة المدرسة، رغم نقائصها. وتفتّح السؤال على شفتيْه ونشر استفهامه على رؤوس الملإ: كيْف قضيْتَ عُطلتك؟

وبوّب الحديث في:
أ- السّفر، الرحلات، الكشافة، المصائف، الاصطياف، زيارة الأهل...
ب- المطالعة، المكتبة العائلية، المكتبة العمومية، تبادل الكتب والمجلات الأدبية ومجلات الشباب...
ج- الثقافة، الفنون، المهرجانات، المسرح، السينما...

ونظّم الحديثَ فشارك الجميعُ تِباعا في أبواب الكلام.

مُلخَّص الكلام، عُصَارتُه، بالمُخْتَصر المُفيد، وبنسبة تفوق بارتياح نسبة الـ90 بالمائة الحبيبة إلى قلوبنا، تتردّد الأجوبة وترتدّ وتنعدم ويطفو جواب واحد يَعُمُّ وينتشِر ويَحْوي كلَّ الأجوبة: التلفزة.

السّفر: ثبات في المكان وارتحال عبر التلفزة.
والمكتبة: خزانة غابت عنها الكتب وتربّعت فيها التلفزة.
والثقافة والفنون جميعُها: حَوَتْها التلفزة.

والتلفزة تلفزات وقنوات. والقنوات اليوم فضائيات. والفضائيات أقمار اصطناعية. وكلّ محبّ له قمر يناجيه.

وناشئتنا المستجوبة قِبلَتُها "النيل صات"، بنسبة.. 100 بالمائة!!!.

بين المدنّس والمقدّس لا تورق شجرة الحياة إلاّ تحت شمس الحقيقة !

و"النيل صات" ترشّ مئات القنوات. ويمكن ترتيبها، توزيعها، حسب عدّة معايير. حسب البلد أو صاحب رأس المال أو المجال: رياضة، "كليب"، سينما، مزيكا، أخبار، دين، شعوذة... أو حسب اللّون. واللّون اليوم، في زمن العولمة لون واحد أوحد ولكن به مقامان: مقام يسبّح باسم المُقَدّس ومقام يُمْسِي ويُصَّبِّح على المدنَّس.

وسألته عن رأيه في تلفزتنا الوطنية وأُخَيَّاتِها. فكان الجواب أجوبة أو درجات:
أوّلا: نحمد الله على أنّ مشاهدتها في بيوتنا لم تَرْتَقِ إلى درجة الواجب الوطني مثل تحيّة العلم الوطني في أقسامنا.
ثانيا: نحن شعب أصيل ومتمسّك بالأصالة ولأنّنا كذلك نعتبر أنّ شهر رمضان لا يستقيم إلاّ بمسلسلات تلفزاتنا الباسلة تماما مثلما لا تستقيم السُّفرة إلاّ بـ"البريك" وشربة الشعير الفائحة.
ثالثا: هي جميعا تحت مظلّة القمر الواحد وترتوي جميعُها من سلسبيل "النيل" المِعطاء.

في قسمه رأى خيوط الوهم عالقة على الأهداب. ولمّا حذّر من الإدمان على التلفزة ونبَّه إلى مخاطرها، ارتسمت علامات الدهشة والاستغراب. هو أستاذ ولا بدّ أنّه يعرف ولكن هي التلفزة، السيّدة، صاحبة المقام والجلالة والاحترام، فكيف يشكّك فيها ويحذّر منها؟

قال:
هذه القنوات وبرامجها، في الغالب، لا تَبُثُّ إعلاما بل تَرُشّ تعتيما ولا تَنشُر ثقافة بل تَدُسّ سُمُوما ولا تقدّم فنّا بل تعرض طرَبا ولا تخاطب العقْلَ بل تُحرّك الغرائِز ولا تُقدِّم رياضةً تُنمِّي العقلَ السَّليم في الجسم السليم بل تَعرِض فرجة تُكلّس العقل البليد في الجسم الركيك.

وهي لا تدعو لدين به النّاسُ أحرار بل تستفزّ نعْرةَ الأنصار وتُشعِل فتيل النار. والمتابع لبرامجها الدينية يصبح عرّيفا في جغرافيا الماورائيات: أنهار الجنّة وسهولها ودورها وقصورها وجنائنها ورياضها وغلالها وطيورها وحورياتها... والنّار وأنهارها وويلها وصقرها ودرجاتها... أمّا جغرافية الوطن فتجّار الإفرنجة أدرى منه بها.

أمام التلفزة لك الخَيار بين غمزات "الوَاوَهْ" ولِحِي "الهُهْ". بين المدنّس والمقدّس. بين الميوعة والتزمّت.

لا بدّ أن نجاهر بالحقيقة وأن نفضح حالة الموت السخيف على نسيج عنكبوت التلفزة وأن نعلن عن رغبتنا في حياة عادية حقيقية بعيدا عن تأثيراتها المقيتة...

بين المدنّس والمقدّس لا تورق شجرة الحياة إلاّ تحت شمس الحقيقة !

لا بدّ أن نعود إلى الحياة، إلى الواقع، في الأحوال الشخصية والروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية.

والحلّ يبدأ بالتدرب على التحكّم في التلفزة، بالتدرب على إغلاقها كلّما لزم الأمر، بالتدرب على التخلّص من سيطرتها.

مثلما يقاوم المُدمنون على التدخين "النيكوتين" والمُدمنون على القهوة "الكفيين" لا بدّ للمدمنين على التلفزة من مقاومة "التلفزيين".

ملاحظة

(*) هذه نافدة نفتَحُها على أعمدة "الشعب" نُطِلُّ من خلالها، أسبوعيا، على عالم الصّورة والسّينما وبها نحاول بعثرة أوراق الملفات المُهمَلة والمُأرشَفة والمُعتّمة والمغلقة والمزيّفة والمطلسمة والمقدّسة والمدنّسة... في مجالات الإبداع (الفنّ) والإنتاج (الصناعة) والفرجة (التجارة)... عسى أنْ نساهم في إعادة ترتيب أوراق سابع الفنون في حياتنا... هو عالم مادته أضواء وظلال ولغته أضواء وظلال ومعانيه من أضواء وظلال وقضاياه بين الأضواء والظلال... ونوافده فُتْحة بين الضوء والظلِّ.!


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني