الصفحة الأساسية > البديل الوطني > عندما يصبح الفلاح بقرة تحلبها التعاضدية !
أزمة الحليب في تونس:
عندما يصبح الفلاح بقرة تحلبها التعاضدية !
25 شباط (فبراير) 2008

لو تقصيّنا أسباب افتقاد المواطن التونسي مادة الحليب وغلاء أسعارها لتبينا أنها عديدة ومتعددة وكلها تقف وراءها سلطة البلاد. نذكر من هذه الأسباب:

– ارتفاع أثمان العلف الذي يروّج للفلاح ومربي الماشية.
– ارتفاع تكاليف النقل (ارتفاع أسعار النفط)
– عجز الفلاح عن توفير العلف المركب الضروري لإنتاج الكمية الكافية المطلوبة من الحليب لتغطية المصاريف وتحقيق الدخل.
– تدني ثمن لتر الحليب عند بيعه إلى المجمعات بسعر لا يتجاوز (400 مي).

ويمكننا أن نأخذ مثال تعاضدية "الهدى" بالمهدية لتأكيد هذه الحقائق. هذه التعاضدية يشرف على تيسيرها أحد المضاربين الكبار الذي لا يمت إلى الفلاحين بصلة بل هو من "بارونات" حزب الدستور إذ هو حاليا عضو باللجنة المركزية لـ"التجمع" (الحزب الحاكم) وكاتب عام سابق للجنة من لجان التنسيق ومحسوب على الأسرة التربوية ورئيس بلدية سابق ورئيس جمعية رياضية ورئيس لجنة التضامن الاجتماعي وصاحب أسهم كثيرة في "فيتالي" و"شركة اللحوم الحمراء". ماذا يفعل الرجل للاحتفاظ برئاسة التعاضدية في كل جلسة عامة لانتخاب المجلس الإداري؟ إنه ينفق آلاف الدنانير على حساب أرباح الفلاحين وأموالهم لشراء أصوات المنخرطين. أما الفلاحون الأحرار المتمسكون بحق الاعتراض والتحفظ، الماسكون بالأدلة الموثقة على التلاعبات التي سجلوها ضد المجلس الإداري ورئاسته فإنهم يتعرضون لـ"عقوبات" من نوع تشديد المراقبة على منتوجهم اليومي من الحليب واتهامهم بإضافة الماء إليه عند "تحليله" وتسليط مختلف المضايقات عليهم كحرمانهم من القروض أو التعويض من صندوق التأمين على الأبقار النافقة (600 دينار) وذلك بتوظيف بعض البياطرة فاقدي الذمة المتعاقدين مع التعاضدية مقابل مرتب قار ضد مصالح الفلاحين وفي خدمة البيروقراطيين في التعاضدية المذكورة.

وهكذا يجد الفلاح نفسه في "قصور الساف" و"أولاد صالح" و"هيبون" و"رجيش" و"الحكايمية" وغير هذه الأماكن من ولاية المهدية مهدور الكرامة والحقوق لأنه تحت رحمة رئيس تعاضدية "الهدى" في دائرة المهدية علاوة على أنه في ذات الوقت رئيس مجمع التعاضديات الفلاحية في كافة تراب الولاية والويل لمن يحاول التمرد على سلطته.

أما المستكينون الخاضعون فهم عرضة للابتزاز المستمر، إذ أنهم عندما يتوجهون كل شهر إلى "شباك الخلاص" لتـَقــَاضِي صك بقيمة كمية الحليب التي كانوا يجلبونها يوميا طيلة شهر كامل إلى المجمع فقد يقال لهم عوضا عن قبض الصك أنهم مدينون للتعاضدية ببقية ثمن الأعلاف المركبة التي تزودوا بها طيلة الشهر الأخير لأبقارهم بعد خصم ثمن الحليب الجملي المسَلـّم إلى التعاضدية من ثمن العلف الجملي المستلم منها. وهنا يكتشف الفلاح أنه هو الذي أصبح البقرة التي تحلبها التعاضدية ومن ورائها معمل "فيتالي" الذي يتمتع بعضوية مجلس إدارته رئيس تعاضدية "الهدى" ويتقلد ابنه منصب المدير المساعد. وهكذا يجد الفلاح نفسه مجرد حمال لحليب أبقاره بالمجان كما يتضح له أن ديون المجمع تثقل عليه تدريجيا وتتزايد وأن إدارة المجمع تحتفظ بحق توجيه عدل منفذ إليه متى شاءت لتنفيذ عقلة على أملاكه حتى يتم خلاص الديون... وتنقلب الأوضاع ونعود إلى العهد الإقطاعي، إذ مهما بذل القنّ من جهد وأفنى صحته عملا فهو يجد نفسه دائما مدينا ولا أمل له في خلاص هذا الدين بالعمل فيضطر الفلاحون في نهاية الأمر إلى التفويت في أبقارهم بأبخس الأثمان لتذبح في المسالخ قبل أن يذبحوا هم اجتماعيا واقتصاديا وتخرّب بيوتهم بسبب هذه المعادلة الغريبة الخرقاء الدالة على فساد صارخ للسياسة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد حيث أن الفلاح يُسرق من قِبَلِ حفنة من المستكرشين ومصاصي الدماء سرقة مضاعفة. فهو يُسرق عندما يبيع حليبه بسعر أقل من نصف الثمن الذي يُباع به في السوق، ويُسرق من جهة ثانية بشرائه العلف بأسعار بالغة الشطط، وغالبا ما يكون العلف مغشوشا وغير مطابق للمواصفات العالمية (نقص في مادة "الصوجا" وهي عنصر أساسي في العلف المركب المخصص للبقرة الحلوب) معللين ذلك بأن "الصوجا" باهظة الثمن وأنها تستورد وأن أسعارها في ارتفاع متواصل. وهناك تواطؤ يعرفه القاصي والداني بين إدارة التعاضدية والمعمل المنتج للعلف المغشوش لأن المتنفذين في الإدارة يتقاضون "عمولة" من المعمل لقاء شراء كل كيس علف مركـّب/مغشوش.

أما يزال بعد كل هذا مجال للأسئلة الحائرة؟: أين هي مادة الحليب في أسواق المهدية التي يتشدق بأنها الحوض الثاني في إنتاج الحليب في البلاد؟ ولماذا تباع بأثمان متزايدة باطراد لا طاقة للمستهلك العادي على تحمّـــــــــــل أثمانها الأصلية فضلا عن المزيدة؟ ولماذا تتوفر بكميات قليلة جدا سرعان ما تنفذ من السوق في بعض الساعات؟

بيد أن الحل الذي لمع في أذهان أولي الأمر "العباقرة" هو الاستيراد –حسب ما يروج في الكواليس- للإمعان في نهب جيوب المستهلكين. غير أن "ألمعية" السماسرة وحاسة شمهم القوية جعلتهم يشعرون بالخطر على جيوبهم لأنهم بعد أن يضيفوا نسب الأرباح والضرائب والعمولات إلى تكلفة الشراء للتر الواحد من هذه المادة سيصل سعره في السوق إلى 1500 مي وهذا ما دفعهم إلى العدول عن توريد الحليب وإبقاء الوضع على ما هو عليه محمّلين المواطن المقهور، بوابل مظالمهم، تبعات سياستهم الاقتصادية اللاشعبية واختياراتهم اللاوطنية دون أن يحيرهم خلو موائد المستهلكين من حليب أطفالهم ما دام الحليب متوفرا لديهم.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني