الصفحة الأساسية > البديل العالمي > في الذكرى التسعين لثورة أكتوبر المجيدة
في الذكرى التسعين لثورة أكتوبر المجيدة
25 تشرين الأول (أكتوبر) 2007

يوم 24 أكتوبر 2007 تكون قد مرّت 90 سنة على ثورة أكتوبر الاشتراكيّة التي هزّت روسيا والعالم كلّه وشكّلت تحوّلا بارزا في تاريخ البشرية. فلأوّل مرّة تتمكن طبقة مضطهدة، وهي طبقة العمال الروس، من تحرير نفسها وتحرير كامل المجتمع من الاستغلال والاضطهاد عبر ثورة شعبية عارمة بقيادة حزب شيوعي مكافح هو الحزب البلشفي (أي حزب الأغلبية)، وزعامة شخصية عبقرية فذّة هي فلاديمير إيليتش لينين، ووضع أسس مجتمع جديد قائم على المساواة والعدالة الاجتماعية.

لقد أطاحت ثورة أكتوبر الاشتراكية بالطبقات المستغِلّة وبنظامها السياسي الرجعي وحملت العمال المتحالفين مع جموع الكادحين في المدينة والريف إلى السلطة المجسمة في السوفياتات. كما أنها أمّمت المصانع والمصارف وحوّلتها إلى ملكية جماعية يديرها المنتجون مباشرة ويوّظفون ثمرتها للنهوض بمجتمعهم الجديد على كافّة المستويات، وهو ما مكّنهم في فترة قياسية من تحويل روسيا المتخلّفة إلى بلد صناعي متطور ومجتمعها الرّازح تحت رواسب القرون الوسطى إلى مجتمع عصري، توفر الدولة لأفراده الشغل كما توفّر لهم التعليم والصحّة مجانا والنقل والسكن والغاز والكهرباء وغير ذلك من الخدمات الضرورية بأسعار رمزية.

وقد كان لكل ذلك وقع عظيم في العالم. فثورة أكتوبر ألهمت العمال في البلدان البرجوازية وبيّنت لهم طريق الخلاص من العبودية الرأسمالية. وكانت، بما تحققه من انجازات ومكتسبات تشجّعهم على الكفاح وتبيّن لهم أن عالما خال من الاستغلال ممكن وأن سيطرة البرجوازية ليست أبدية، فاتسعت حركتهم وقويت خصوصا بعد أن أصبحت لها قيادة أممية مجسمة في "الأممية الثالثة". كما ألهمت هذه الثورة شعوب المستعمرات وذلك بمنح القوميات التي كانت ترزح تحت نير النظام القيصري الروسي حق تقرير المصير وتقديم كل الدّعم إليها حتى تنهض من جديد، وكذلك بمؤازرة كل الشعوب والأمم المستعمَرة في آسيا وإفريقيا في نضالها ضد الامبريالية. ويعود الفضل للحكم السوفياتي في فضح مخطط "سايكس - بيكو" الرّامي إلى تقسيم المنطقة العربية وإخضاعها. كما يعود الفضل إلى لينين في فضح الحركة الصهيونية منذ انطلاقها وفي مقاومتها على الصعيدين الفكري والسياسي.

ولم يكن لثورة أكتوبر الظافرة وللدّولة الاشتراكية المتولّدة عنها أن يتطوّرا ويتقدّما دون أن يكونا هدفا لسهام الرّجعية والبرجوازية على الصعيدين الدّاخلي والخارجي. فقد شعرت البرجوازية العالمية وفي مقدّمتها البرجوازيات الأوروبية والأمريكية بالخطر الذي يتهدّدها من جرّاء قيام النظام الاشتراكي السّوفياتي، فعملت من البداية على القضاء عليه بأن تدخّلت عسكريا وبصورة مباشرة بعد أن فشلت بقايا النظام القيصري القديم في القيام بتلك المهمّة. وكان الفشل أيضا مصير هذا التدخّل الذي قامت به 14 دولة ضدّ الدولة السوفياتية الفتية التي شقّت طريقها وسط صراعات ضارية كان هدفها العودة بروسيا إلى النظام الرأسمالي الاستغلالي. وكانت النجاحات التي يحققها البناء الاشتراكي تستفز العالم الرأسمالي وتثير عدوانيته.

وكانت النازية الهتلرية خلال الحرب العالمية الثانية أكبر تحدّ لدولة العمال والفلاحين في الاتحاد السوفياتي، وكان النّصر مرّة أخرى حليف هذه الدّولة التي لم تنقذ شعبها من جحيم النازية، الابن الشرعي للرأسمالية، فحسب بل أنقذت كذلك شعوب أوروبا التي سرعان ما انهارت أنظمتها البرجوازية أمام ضربات الجيش النازي، بعد أن هادنت هتلر وسمحت له بالتوسّع، وشجّعته على غزو الاتحاد السوفياتي طمعا في أن يخّلصها منه. كما أنقذت الإنسانية جمعاء من ذلك الغول.

لقد خرج الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين معزّزا من الحرب العالمية الثانية في الدّاخل والخارج، وقد توسّع المعسكر الاشتراكي ليشمل بلدانا جديدة، في أوروبا الشرقية (بولونيا، المجر، ألبانيا، بلغاريا، يوغسلافيا، رومانيا، ألمانيا الشرقية) وفي آسيـــا (الصين، الفيتنام، كوريا الشمالية...). كما تمكّنت حركات التحرر الوطني من توجيه ضربات قاسمة للاستعمار فحققت عديد البلدان في آسيا وإفريقيا استقلالها الوطني، وقوي عود الحركات العمّالية والشيوعية في البلدان الرأسمالية المتطوّرة وأصبح لها وزن كبير في الحياة السياسية والاجتماعية، خصوصا وأنها لعبت في معظم الأحيان دورا بارزا في تحرير بلدانها من نير النازية والفاشية. وهكذا انقسم العالم إلى معسكرين واضحين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي.

ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان، ففي الوقت الذّي بدأ فيه التاريخ يتّخذ مجرى حاسما ضدّ البرجوازية والرأسمالية، انخرم الوضع في أول بلد اشتراكي، أي الاتحاد السوفياتي وتمكّنت العناصر البيروقراطية من السيطرة نهائيا، في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات من القرن الماضي، على الحزب والدّولة وغيّرت وجهة الاقتصاد الاشتراكي في اتجاه رأسمالية الدّولة الاحتكارية وصبغت جهاز الدّولة بصبغة دكتاتورية رجعية، وبسطت كلكلها على العمال والكادحين وانتهجت سياسة قمعية تجاه القوميات غير الروسية، وافتعلت لذلك شتى النظريات الانتهازية التي تعلن انتهاء الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي. أما على الصّعيد الخارجي، فقد انقلبت سياستها إلى سياسة امبريالية اشتراكية فحوّلت بلدان المعسكر الاشتراكي في أوروبا (عدا ألبانيا) إلى توابع، تتحكّم في مصائرها، ودخلت كقوة عظمى في صراع مع القوة العظمى الأخرى أي الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل السيطرة على العالم (التدخل في المجر وتشيكوسلوفاكيا، واحتلال أفغانستان) وسعت إلى إخضاع الأحزاب الشيوعية في البلدان الأخرى وتحويلها إلى أدوات في خدمة سياستها وراجعت المقولات الماركسية اللينينية المتعلّقة بالثورة وبالبناء الاشتراكي وبالموقف من البرجوازية والامبريالية، وأصبحت تدعو إلى الوفاق الطبقي على الصّعيد المحلي والدّولي.

وكان كل ذلك يجري باسم الاشتراكية التي حافظ الاتحاد السوفياتي وتوابعه على قشرتها. وهو ما أدخل ارتباكا في الحركة العمالية والشيوعية العالمية وأحدث انشقاقات خطيرة في صلبها، وشوّه
صورة الاشتراكية والشيوعية. وكان من نتائج المسار الامبريالي الاشتراكي الذي انتهجه الاتحاد السوفياتي، أن تفاقمت أزمته ولم يقدر لا على حل تناقضاته الداخلية ولا على مجاراة نسق الصراع مع الكتلة الامبريالية الغربية بزعامة الولايات المتحدة فكان الانهيار والانفجار في أواخر ثمانينات القرن الماضي، والعودة إلى زريبة الرأسمالية التقليدية.

استغلّت البرجوازية العالمية بقيادة الولايات المتحدة ذلك الانهيار لتشنّ هجوما شنيعا على الاشتراكية وعلى رموزها التاريخيين وتقدّم انهيار الاتحاد السوفياتي على أنه "علامة على فشلها" وتعيد كتابة التاريخ لطمس كل الانتصارات التي حققتها الطبقة العاملة والشعب السوفياتي في ظلّ الاشتراكية وتخفي ما حصل في عهد خروتشاف وخلفائه من انقلاب وتحسبه على الشيوعية التي وازت زورا وبهتانا بينها وبين النازية التي لولا الاتحاد السوفياتي لبسطت هيمنتها على أوروبا والعالم. كما أنها استغلّت ذلك الانهيار وما نتج عنه من إحباط في صفوف الطبقة العاملة وشعوب البلدان التابعة، لتحاول القضاء على فكرة الثورة وتنفي حتى وجود الطبقة العاملة ودورها المحوري في عالم اليوم وتعلن النظام الرأسمالي نظاما أزليا، وتشن هجوما سافرا على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية للعمال والكادحين في البلدان البرجوازية وتعود بهم إلى عصور الرأسمالية المتوحّشة وكذلك لتشن هجوما سافرا على شعوب البلدان التابعة لتعود بها إلى عهود الاستعمار المباشر كي تنهب خيراتها وثرواتها. وقد سلكت في ذلك مسلك العدوان والحرب، على غرار ما حصل ويحصل في أفغانستان والعراق وفلسطين.

إن 15 سنة بعد انهيار التحاد السوفياتي كانت كافية لإظهار الطابع الديماغوجي للنظريات والمواقف والمشاريع التي روّجتها البرجوازية الامبريالية بزعامة الولايات المتّحدة حول "النظام العالمي الجديد" و"السلم الدولي" و"والتقاسم العادل للثروات والخيرات" بل إنها كانت كافية لإبراز الوجه البشع لهذه البرجوازية واستغلالها الظروف الدولية الجديدة للانتقام من الطبقة العاملة وشعوب البلدان التابعة وتبيان أن البرجوازية ونظامها الرأسمالي لم يعودا قادرين على تقديم أي شيء للإنسانية عدا المزيد من التفقير والتهميش والاستغلال الفاحش والقمع والبطش والاضطهاد والتدمير والظلامية والانحلال القيمي والتلوّث البيئي الذي يهدد الإنسانية بكوارث رهيبة وهو دليل قاطع على حاجة الإنسانية إلى تجاوز النظام الرأسمالي الذي أفل عصره حتى وإن كان ما يزال قائما، لأن استمراره ليس دليلا على جدواه وعلى طابعه التقدمي بقدر ما هو مرتبط بتخلّف العنصر الذاتي. فزوال الرأسمالية وتعويضها بنظام جديد، بالاشتراكية لن يتمّ بصورة عفوية، ولكن بإرادة من القوى التي لها مصلحة في التغيير وعلى رأسها الطبقة العاملة.

إن المرء يلاحظ اليوم نهوضا جديدا للحركة العمالية ولحركة شعوب البلدان التابعة، بعد فترة من الإحباط والحيرة والارتباك. كما يلاحظ عودة الاهتمام بالاشتراكية والماركسية، وتكوينا للأحزاب الشيوعية في كل القارّات. ومن هنا تأتي أهمية الذكرى 90 لثورة أكتوبر العظيمة. فهذه الثورة ما زالت تحافظ على راهنيتها. فالماركسية اللينينية ما زالت تشكّل الإطار النظري الحقيقي لفهم العصر وتناقضاته كما أن التجربة الروسية تبقى مدرسة في النضال ضدّ البرجوازية والرّجعية من أجل افتكاك السلطة وفي وضع أسس البناء الاشتراكي وتطويره. ومن البديهي أن العمال اليوم ليس مطروحا عليهم استنساخ تلك التجربة، بل الاستلهام من إيجابياتها وتجاوز ما اعتراها من سلبيات سواء في التصور أو في الممارسة أدت، كما ذكرنا، إلى انتكاستها وإلى عودة الرأسمالية.

إن الطبقة العاملة مطالبة بالدفاع عن إرثها التاريخي وعن مكتسباتها في وجه الحرب الإيديولوجية والسياسية والمعنوية التي تشنها البرجوازية والتي تهدف إلى تأبيد الاستغلال الرأسمالي وسد الباب أمام تجاوزه.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني