الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > كطبْلٍ بلا ميـعَاد!
أضْـــوَاء وظِــــلاَل (*):
كطبْلٍ بلا ميـعَاد!
15 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

بقلم: رضا البركاتي
ridhabarkati@gmail.com

السّبت القادم، 23 أكتوبر 2010، سيُعْلن عن افتتاح الدورة 23 لأيّام قرطاج السينمائية.

1. أعراس.

لمّا بُعِثَتْ أيّام قرطاج السينمائية، سنة 1966، بتدبير من جامعة نوادي السينما ورئيسها الطاهر شريعة، تأسّستْ –عند باعثيها وكلّ السينمائيين وجمهورها العريض- على مبادئ، وبروح نضالية عالية، وحماسة مفعمة، وبإرادة الإنسان الجديد (عبيد الأمس، أحرار اليوم)، والبلد الجديد (مستعمرات الأمس، الدول الفتيّة)، والثقافة الجديدة (ثقافة الأمس التقليدية الاستعمارية، ثقافة اليوم الإنسانية التحررية)، والفنّان الجديد (فنّان الأمس مدّاح السلطان، فنّان اليوم المتغنّي بالإنسان).

لذلك كانت أيّام قرطاج السينمائية فضاء لأعراس بهيجة ترقص فيها الأضواء والظلال ويصول فيها فتيان مخرجون شبّان مشحونون بإرادة الحياة الجديدة.

في إحدى سّهرات الدّورات الأولى حكى أحدهم، وهو عضو في وفدِ بلدٍ إفريقي حكاية، هي حكمة قديمة.

2. حكمة شجرة الباو باب [1].

حدّث السينمائي الإفريقي قال:

"لمّا بدأ المستكشف الغربي يتوغل في أدغال إفريقيا في القرن التاسع عشر ويرود مجاهلها ويستكشف منابع الأنهار ومناجم كريم الأحجار ويحدّد خصيب السهول التي ستصبح مزارع للقطن والتبغ، والموز والكاكاو، كان، من حين لآخر، يُوقِفُ أمامه رجلا، امرأة، طفلا، شابا أو فتاة، وينصِب آلة التصوير على قوائمها الثلاث ويدكّ رأسه تحت لحاف أسود ويرفع يدا بها مِشْعل تُومِض منه بهرة برق سريع يُعشي الأبْصار ويخطف الألباب ويثير دخانا خفيفا سرعان ما يتلاشى. ثمّ كان ذاك السّيّد الأبيض يدخل غرفة مظلمة يمارس فيها تعاويذه الكيمياوية، ويَخرُجُ منها وقد استنسخ صورة لمن كان يقف أمام آلة.. سحره.

واعتقد أجدادنا أنّ من اختطف الساحرُ الأبيضُ صورتَه فقد سلبه روحَه وصيَّره عبدا له.

هكذا، بكلّ بساطة شاع الاعتقادُ وراج التحذير: من اختطف صورتَك قد خطف روحك فاستَعْبَدَك.

ما هذه إلاّ حكاية للتسلية سمعتها من القدامى في مجلس الحكماء تحت شجرة الباوباب العتيقة."

3. تـانيت [2].

أيّامها، طوال الستينات والسبعينات والثمانينات، كان السينمائيون الأفارقة والعرب لا ينفكون يرددون في حماسة لا تكلّ أقوالا، تصريحاتٍ، بيانات:
"إنّما دَوْرُنا أن نصوغَ صورتَنا بأيدينا كما نراها ونرتئيها"**.
وعلينا أن نؤسس، معا، لـ"كتابة سينمائية جديدة"* بـ"كاميرا إفريقية"**، بـ"كاميرا عربية"**، نحن نطمح لـ"إنشاء لغة سينمائية جديدة"** بـ"قواعد نحو وصرف وبلاغة جديدة"**...

هو مهرجان للسينما.
والـ"مهرجان" كلمة فارسية الأصل منحوتة من كلمتين : "مهر" أي يوم، و"جان" أي الرّوح.
أيّام قرطاج السينمائية نشأت عرسا سينمائيا لتعبّر عن روح الشعوب.
هي عرس فيه خلق وإنشاء لصورتنا، لكينونتنا، لصيرورتنا، في سيرورتنا.

و"تانيت" هي العروس، يتنافسون من أجل حبّها في يوم "الروح" بروح الإبداع والخلق الفنّي والإبتكار.

إنّ الأمر لجليل.
وما الرّوح إلاّ روح شعوب تنهض وتنفض غبار عهود غابرة وتدخل عصر الصّورة على إيقاع الأضواء والظلال.

هو كلام كثير يتردّد، تتجاوب أصداؤه على الشاشات، وفي قاعات العروض، ونوادي السينما، ودور الثقافة، وفضاء الندوات، وحصص النقاشات، وأروقة النزل...
"لا استقلال دون اقتصاد وطني"**
و"لا وطن دون ثقافة وطنية"**
و"لا ثقافة وطنية دون صورة وهوية"**
و"لا هوية دون قيم ومبادئ تربط بين الوطني والقومي والفضاء الإنساني الرحيب"**

4. "شرط المحبّة الجسارة" [3].

لم يدُمْ ذلك.
لقد تخلّى الـمهرجان عن المبادئ التي بُعِث على أساسها وانطفأتْ جذْوَتُه وفَتَرَتْ حَمَاسَتُه وتفسَّخَتْ صورته وبهتَتْ ألوانُه... فهل مشَى مع "التمشّي" وانصهر في النظام الثقافي العالمي الجديد واندمج في مشهد العولمة السّائد؟.

وفي الأثناء بَعَثَ الأشقّاء والأصدقاء مهرجانات "جنيسة": مهرجان "أواقادوقو" [4] للسينما الإفريقية وهو مهرجان مختصّ ومتموقع في قلب القارة الإفريقية، ومهرجان دمشق للسينما العربية وهو متموقع في قلب البلاد العربية، ومهرجان القاهرة، ومصر بلد ذو صناعة سينمائية عريقة، ومهرجان مراكش، ومراكش قطب سياحي لا مَحِيدَ عنه...

لذلك، إذا رام مهرجاننا البقاء والدوام والإشعاع واستعادة المجد، لا بدّ له أن يُعلن على خصوصيته بكلّ جرأةٍ وتحدٍّ، وأن ينفخ في جمرة الروح الخابية، لكيْ يستعيد الحياة ويرقى إلى مستوى الفعل الإبداعي ويلعب دوره ويؤدي وظيفته.

فهل يوجد فنّ بلا روح؟
وسينما بلا روح؟
وصورة بلا روح؟
ومهرجان بلا "جان"؟

بلا الروح، ماذا يبقى من ("المهر – "جان")؟

يومٌ كطبلٍ بلا ميعاد.
كعُرسٍ بلا عروس.
كحبٍّ بلا حبيبة.

ملاحظة

(*) هذه نافدة نفتَحُها على أعمدة "الشعب" نُطِلُّ من خلالها، أسبوعيا، على عالم الصّورة والسّينما وبها نحاول بعثرة أوراق الملفات المُهمَلة والمُأرشَفة والمُعتّمة والمغلقة والمزيّفة والمطلسمة والمقدّسة والمدنّسة... في مجالات الإبداع (الفنّ) والإنتاج (الصناعة) والفرجة (التجارة)... عسى أنْ نساهم في إعادة ترتيب أوراق سابع الفنون في حياتنا... هو عالم مادته أضواء وظلال ولغته أضواء وظلال ومعانيه من أضواء وظلال وقضاياه بين الأضواء والظلال... ونوافده فُتْحة بين الضوء والظلِّ.!

(**) كلّ هذه العبارات الواردة بين معقّفين كانت متداولة في الساحة الثقافية عامة والسينمائية خاصة...

هوامش

[1الباو باب: شجرة ضخمة مقدّسة بإفريقيا المدارية وهي أيقونة السينغال ويُعتبر قطعُها من قبيل تدنيس المقدّسات، في ظلّها الوارف يجتمع الشيوخ لتذاكر حكمة القدماء.

[2تانيت: الجائزة في مسابقات المهرجان وهي إلهة الحب والخصب والعطاء في الحضارة البونيقية.

[3"شرط المحبّة الجسارة": العبارة للشاعر المصري أحمد فؤاد نجم.

[4"أواقادوقو": عاصمة بوركينا فاسو، وهي تحتضن مهرجانا للسينما الإفريقية.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني