الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > لك النشيد ولك الرايات!
وداعا يا فارس الحريّة:
لك النشيد ولك الرايات!
14 تشرين الأول (أكتوبر) 2008

نزلت من قطار الضاحية -الجنوبية- وسرت على الرصيف المزدحم. عند باب المحطّة لحق بي جاري. سألني فأخبرته. أعلمته أنّي أعود من موكب جنازة. قال: "إذن كنت بالجلاز". قلت: "لا. بل بمقبرة بورجل."

وسكتُّ وسكَتَ.

أعترف أنّي قصدت استفزازه.

لكنّه لم يسأل. لم يستوضح.

ثمّة ألف احتمال. لعلّه تحرّج من التدخّل أكثر في شؤوني الخاصة أو هو تصوّر أنّ لي صديقا أو قريبا، بالمصاهرة مثلا، من أصل أوروبي، من ثقافة ديانة عيسى... أو ربّما ظلّ ينتظر.

كان الصمت بيننا ثقيلا رغم قصره.

كنت متوتّرا.

أفكاري شتات تتقاذفها رياح شتّى...

أرزح تحت حمل بثقل الزمن الزاحف الجارف دأبا، الزمن هو نهر الأبدية الذي يمضي قدما لا يتوقف ولا يلتفت إلى الوراء...

ولكنّي التفت إلى الوراء ومسحت آلاف السنين بسرعة الضوء وتوقفت عند عديد المحطات منذ فجر الإنسان وظهور الأديان وبداية تشكّل الأوطان...

رأيت أجدادي الأمازيغ يعمّرون البلاد من جبال خمير إلى سهول باجة، إلى سباسب القصرين، إلى أبواب الصحراء نقاط ماء هي واحات بريّة مبثوثة على حواشي شطّ الجريد...

التفت ورأيت التاريخ بحجم شجرة الحياة مترامية الأغصان أذرعا وأيادي تحضن الإنسانية بائتلافاتها واختلافاتها.

الإنسانية المتعانقة المتعاركة، المتصاحبة المتحاربة، المتحّابة المتناحرة، المتقابلة المتقاتلة...

ولكن عندما تهتف الإنسانية بمبادئها النبيلة وقيمها العظيمة يكون الائتلاف نداء القلوب الحبيبة، قلوب الأحرار، قلوب المحبّة والسلام...

كنت متماسكا متوتّرا، خاشعا غاضبا، هادئا ثائرا.

أنا العائد من موكب جنازة رجل لا تربطني به صلة أو قرابة ممّا تصوّر جاري أو تتصوّر أنت.

رجل لم أره في حياتي إلاّ بضع مرّات معدودات وصافحته مرّة ومررت، وجلست إليه وحادثته مرّة واحدة في بيته ولم تدم زيارتي له تلك أكثر من نصف ساعة لأنّه كان في فترة نقاهة على إثر مرض ألمّ به.

وألقيت بهذه الأحجية في وجه جاري. وسألته: "هل عرفت في موكب جنازة من كنت؟"

فاحتار في الأمر وتحيّر بشأني –لأنّه لم يعهدني على هذه الشاكلة- وأجاب بكلّ إيجاز: "لا."

قلت: "ألم يبلغك نعي السيّد جورج عدّة؟"

قال: "لا"

قلت: "أتعرف من هو جورج عدّة؟"

قال: "لا"

قلت: "هل تتابع نشرات الأنباء على قناة التلفزة الرسمية؟. وهل تتصفح بمكتبك، بالإدارة، أهمّ الصحف بالبلاد؟"

قال : "نعم. وأنظر في كلّ الجرائد التي توفرها الإدارة. وهذا يندرج في إطار وظيفتي ولكنّ خبرا كهذا لم يعترضني أو ربّما لم أتفطّن إليه."

وأضاف في لهفة وحيرة ولعلّه بدأ يتبرّم: "والآن هلاّ أخبرتني من هو جورج عدّة؟"

قلت محتارا: "من أين أبدأ؟ بتعداد مناقبه أم بتصنيف فضائله؟ هل أعود إلى جذوره الضاربة بعيدا في تاريخ البلاد أم أحدّثك عن فروعه التي تمتدّ أذرعا وأيادي تحتضن الإنسانية في أبهى تجلّياتها؟

هو تونسي أب عن جدّ منذ آلاف السنين. ولقد عانى من الاضطهاد الاستعماري وعرف السجون من أجل استقلال البلاد وتحريرها من ربقة الاستعمار المباشر الفرنسي، كما وقف ويقف في صفّ المضطهدين من عموم الشعب الكادح.

هو بربري الأصل، عربي المنبت، يهودي التعميد، تونسي الجنسية، شيوعي الانتماء، إنساني الثقافة.

فهل في هذا ما يغصب يا جاري؟

فأخونا جورج، بل أبونا، أبو الأحرار، يقول مقدّما نفسه في بداية نصّ المحاضرة [1] التي أعدّها لمؤتمر دولي كان من المفروض أن يعقد بلبنان في ماي 2006 وقد تمّ تأجيله لسبب ما ثمّ كان الاعتداء السافر للكيان الصهيوني على لبنان، يقول بعد أن تحدّث عن أجدادنا البربر والحضارات التي تعاقبت على بلادنا والأديان التي انتشرت في ربوعنا، يقول:

"... بعض هؤلاء البربر أجدادي، تخلّوا عن وثنيتهم واعتنقوا ديانة موسى... وهكذا فإنّ تونس هي بلدي والشعب التونسي هو شعبي. لكنّ قناعتي الفلسفية ليست هي قناعات أمّي وأبي. كلّ النساء وكلّ الرجال في جميع البلدان الرّازحة تحت وطأة الظلم السياسي والاجتماعي الذي يمارسه حكّامهم أو المحتلون الأجانب هم أخواتي وإخواني، وأؤكّد لهم تضامني الكامل."

لقد اختار جورج عدّة طريق الحرية والنضال منذ شبابه الباكر.

ففي التاسعة عشر من عمره، سنة 1935، وانتخب أمينا عاما مساعدا للحزب الشيوعي التونسي وكان النضال من أجل استقلال البلاد ومن أجل حقوق العمال وتوعيتهم بمكانتهم في الدّورة الاقتصادية التي تدور بعرقهم وبالدّور التاريخي المناط بعهدتهم في عمليتي التحرر الوطني والاجتماعي. ومع النضال كانت السجون والمحتشدات والمنافي...

منذ ركب صهوة الحرية ما نزل عن السرج وما "ترك الحصان وحيدا" [2]

فجورج معروف منذ عقود، منذ بداية السبعينات خاصة، بتطوّعه لصالح العمال بالسهر على القيام بالدراسات في مجال مؤشر الأجور ومؤشر الأسعار، الورقة الأساسية للمفاوضات الاجتماعية دفاعا عن لقمة عيش الكادحين... ففي القاعة الكبرى بساحة محمد علي حاضر في هذه المسألة وتلك لتكوين النقابيين وتثقيفهم...

فالدنيا تراها عينان: عين الأعراف وعين العمال.

والاقتصاد السياسي مدرستان: مدرسة رأسمال ومدرسة فكر العمّال.

ولعلّ آخر دراسة أو محاضرة أو مساهمة له بالاتحاد كانت حول سيّئة الذكر "الكنام" [3].

زرته ببيته صحبة المناضلة الحقوقية [4] باسم المجموعة التي اعتزمت بعث "الجمعية تونسية لمقاومة التعذيب" منبثقة عن "اليوم الوطني لمناهضة التعذيب" [5]. أعلمناه بالمولود الجديد في النسيج الجمعياتي فباركه...

كان رجلا هادئا واثقا بسيطا عميقا يلبس جسما قديما ينبض به قلب شاب حيّ متّقد على الدوام.

بفخر أعترف أنّه شحنني وإلى الأمام دفعني وعلى الحقّ شجّعني.

ذات مساء ربيعي دافئ التقيته في أعلى درج أمام المسرح البلدي حيث كانت تنظّم سهرة غنائية متميّزة وممتازة، لا أتذكّر الآن مناسبتها أكانت 8 مارس أم يوم الأرض أم عيد العمّال العالمي؟ تهافت كلّ من كان حولي، من أمامي وخلفي لمصافحته.

ما أروعها قبضة. ! يد ثابتة صادقة وفية.

انتمى إلى فكر هو نوّارة الفكر الإنساني، نهل من زبدة تجارب الشعوب...

فاتضحت له السبل ولم يَطَلْهُ سواد الغربان ففي سرب الحمام طار.
لمّا زُرِعَ الكيانُ الصهيوني بالحديد والنار ثار. ولمّا ادعت الصهيونية أنّها حركة يهودية... نفى وكذّب واحتجّ وفضح وصاح: ها أنا ذا في وطني. وكتب:

"... لأؤكّد مرّة أخرى على أنّ السلام الحقيقي والطمأنينة والأمن والحرية والمساواة والعدالة لا يمكن تحقيقها واستتبابها بصفة طبيعية ومشروعة في هذا الشرق الأوسط – الذي يتعرّض للعدوان والنهب والهيمنة والاحتلال الأجنبي – إلاّ بالتحرير الكامل لفلسطين من الحدود اللبنانية الفلسطينية إلى إيلات على البحر الأحمر، ومن حيفا إلى القدس، ومن تل أبيب إلى أريحا، ومن نابلس إلى غزّة، إلاّ إذا استعاد كلّ الفلسطينيين وكلّ اللاجئين منهم في عديد البلدان من العالم وبصورة كاملة ممتلكاتهم، ومنازلهم القديمة ومقابرهم وأراضيهم ومصالحهم العمومية." [6]

رغم هذا الوضوح، رغم هذه الشجاعة، رغم هذا الموقف المبدئي الجريء يوجد من لا يتورّع على اتهامه بالصهيونية.

يا لعمى البصيرة. !

في 1967، لمّا حلّت بنا النكسة في فلسطين وفي الشرق عامة هبّ بعضهم هنا للاعتداء على إخواننا الذين هم من أصل بربري ممن ورثوا اليهودية عن أجدادهم كما ورث آخرون الإسلام عن.. نفس الأجداد. ونحن هنا في تونس نذكر جميعا ذلك الحدث المؤلم، المقرف، المزعج، المقيت،

كيف يضع المرء إصبعه في عينه فيفقؤها ويصيح صيحة.. المنتصر !؟...

يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدوّ بعدوّه. !

في بداية الثمانينات انتخب السيّد سارج عدّة (نجل الراحل عنّا جورج) عضوا بالهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فهبّت حركة تدّعي الإسلام اتجاها وروّجت عريضة تحتجّ فيها عن ذلك متّهمة الرّجل بكونه .. يهوديا. لذلك لا يجوز له، في شرعة هذه الحركة، الترشّح لعضوية المنظمات ولا يحقّ للمواطنين، عفوا للرعايا، انتخابه ومنحه الثقة.

يا للدعاة الدواعي المدّعين... مرّة أخرى الإصبع في العين... !

في بداية التسعينات هاجم مجهولون من الشباب "الملتحي" الغاضب بيت جورج عدّة وألقى عليه زجاجة حارقة كردّ فعل على جريمة اقترفها الكيان الصهيوني في حقّ الشعب الفلسطيني هناك...

ألا أيّها الغاضب الحانق المنفعل ممّا يحدث هناك إنّك أضعت الطريق ولم تقرأ العلامات أتلفت الخطوة وجهلت أصلك وفصلك واختلط عليك عدوّك من الصديـق بل من أخيك.

وفي نفس ظروف الظلام، جدّ اعتداء شبيه كان ضحيته –هذه المرّة - السيّد جلبار النقّاش [7] المناضل الشيوعي الذي قضى زهرة شبابه في السجون التونسية من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية ونشر مبادئ الاشتراكية وهو بلا جدال التونسي أبا عن جدّ منذ آلاف السنين...

ولكنّ تهمته هذه المرّة أنّه يهودي. !

وإذا كان خلفاء وفقهاء وأيمّة ومسلمو القرون الوسطى كانوا في ضلال وظلام وسبات ونادى أكثر من مناد بالنهضة... فعن أيّ "نهضة" يتحدّثون؟ إنّها النكسة.

يا للنكسة الكبرى !

هل تعرف أنّ أعدادا غفيرة من التونسيين اليهود كانت تعيش بتونس وأريانة وحلق الوادي... وجربة... وقابس...

أين هم الآن؟

روى الأستاذ يوسف الصدّيق [8] في تغطيته لحرب الجنوب بلبنان لمّا أرسلته إحدى الصحف التونسية في أواخر السبعينات إلى هناك، أنّ سيّارة الصحفيين توغلت في أرض الميدان فأوقفتها كتيبة إسرائيلية... وأقبل عليه عدد من الجنود الإسرائيليين يسألونه عن.. البلاد، عن الأهل والأحباب، عن سهرات الصيف بحلق الوادي...!

ولقد تقدّم بعض أصدقاء جلبار بـ"النصح" وأشاروا عليه لتجنّب الأذى بالهجرة للعيش بفرنسا – وهو تونسي لا يحمل الجنسية الفرنسية !- وذات يوم ونظرا لمرارة الأذى وإلحاح الأصدقاء وافق على الهجرة ولكنّه لم يهنأ ليلتها لقد كان القرار حنظلا سمّا ترياقا... ليلتها أصيب بنكسة قلبية كادت أن تودي بحياته.

يا للنكسة !

أليست نكسة فلسطين، نكسة العرب، نكسة الوطن والمواطنة،،، في جانب هام منها، من نكسة قلب جلبار؟

ورغم كلّ ذلك لم يتزعزع إيمان السيّد جورج عدّة بمبادئه العظيمة ولم يتخلّ عن مواقفه ولم يتردّد لحظة في الوقوف إلى جانب إخوانه الفلسطينيين في كلّ مناسبة ككلّ مرّة.

ففي 1997 مثلا، وبمناسبة مائوية مؤتمر الصهيونية بمدينة "بال" السيوسرية، اقترح جورج عدّة على أكادميين وشخصيات عالمية وعشرات آخرين الإمضاء على بيان حرّره ووضعه تحت عنوان: "اليوم يتكلّم المناهضون للصهيونية". وممّا جاء في هذا البيان [9]:

"نحن نساء ورجال من جنسيات وديانات وآراء مختلفة، نعلن رسميا بمناسبة مئوية المؤتمر الصهيوني بمدينة "بال" أنّه لا وجود لـ"شعب يهودي" ولـ"أمّة يهودية" ولـ"جنس يهودي". لا وجود لـ"اليهود" ولكن هناك فرنسيون وبولونيون وروس ومغاربة ويمنيون وأثيوبيون ومواطنون من الولايات المتحدة الأمريكية أو يابانيون من ديانة عبرية أو من أصول عبادية عبرانية. بعضهم مثل البولونيين، والبلطيقيين والروس أو المجريين ينحدرون من القوقازيين الخزر المتهودين. أخرون مثل المغاربة أو التونسيين منحدرون من البربر المتهوّدين أو مثل اليمنيين الذين ينحدرون من العرب المتهودين"

أيّها الغاضب الحاقد الساخط الناقم،،، يا أخي، يا ابن أمّي

هذا جورج يمدّ إليك ملعقة الشهد يتْقاطر عسلا غذاء، دواء، شفاء، فكيف تحمّي السفود؟ إنّ العين التي نحوها تصوّب هي عينك الباصرة، هي البصيرة والبيت الذي بالنار ترمي هو بيت فلسطين، هو بيت الكادحين، هو بيت الحرية أليس هو بيتك يا عدوّ نفسك؟

لعلّك لست المسؤول الوحيد عن عمائك. فأنت نتاج مدرسة ما وبرامج تعليمية ما وإعلام ما وثقافة سائدة ما... ولكنّك رغم كلّ ذلك تظلّ المسؤول الأوّل عن نفسك تثقيفا وتوعية لتخرج من كابوسك إلى النور، إلى الهواء، إلى الساحة، إلى معترك الحياة بعيدا عن ثقافة القبور والموت والأوهام.

بالأمس رحل عنّا أخونا، أبونا، حبيبنا، صديقنا، رفيقنا جورج وكان أهله وأصدقاؤه يستعدّون للاحتفال بعيد ميلاده الثاني والتسعين.

يا لها من مسيرة عظيمة سِرْتَهَا واثق الخطو مع الحشود ولكنّك رفضت ثقافة القطيع ودفعت ثمن حريتك ومبادئك وإنسانيتك في المحتشدات...

كم كان الثمن زهيدا !...

وكم كان خيارك صائبا... !

في عيد ميلادك ترحل عنّا !

وغدا، غرّة أكتوبر، نحيي نحن بضاحيتنا، حمّام الشطّ، الذكرى الثالثة والعشرين للغارة الصهيونية الوحشية على مقرّ القيادة الفلسطينية...

وتتواصل معاناة الكادحين بين الأجور المجمّدة والأسعار الملتهبة والمفاوضات المتعثّرة...

تغادرنا وتتواصل الحياة والحياة قوامها الصراع، الصراع في كلّ مجال: الاجتماعي والوطني والقومي والأممي. ولكنّ صورتك لن تغادرنا، ستظلّ دوما معنا حاضرة، ملهمة، في الذاكرة حيّة، نابضة...

إليك أبا ليلى، إليك حبّي واحترامي.

لن آتيك للاستشارة والاستنارة حول قضايا الإنسان والحرية ولكنّك ستظلّ دوما بمسيرتك الطويلة وتجربتك الثرية وعطائك الحاتمي [10] نبراسا وقّادا منقطع النظير تنير دروبنا التي أمامنا ونستنير بك الدروب الفائتة دروبا لم تطأها أقدام بعض من عايشوك أيام المحن الكبرى رغم قيادتهم وسيادتهم.

تركت لهم القيادة والسيادة وانفردت بالريادة.

الكثير منهم ركب زبد اللّغو وتصدّر كتب التاريخ المزوّرة وركبت الموجة العتيّة فتعاليت في تواضع واعتليت سدّة الإنسانية المجيدة لأنّك بكلّ بساطة فهمتها وبقيت وفيا للعامل، للفالح، للكادح، للشاقي، للباقي،،، لعموم الشعب الشغّيل. ظللت متمترسا في خندق الحرية والعدالة والأخوّة والسلام. لم تزحزحك رياح الردّة العاتية ولم تنل من إيمانك بالحقّ رعود الزيف وبروق الزيغ ..

لنا منك درس بل دروس في التحرر الوطني والاجتماعي وفي القضية القومية الأولى وفي التضامن الأممي، هي دروس قد يتوفّر عنها في كتب التاريخ والمقالات والدراسات والسير، ولكنّها في تجربتك الطويلة الفريدة جاءت مجسّدة، مرصّعة بالبساطة والتواضع والصدق والوفاء والحبّ...

وظلّت البلاد بلادك عزيزة رغم الجور وظلّ الأهل أهلك كراما رغم.. ظلامهم !..

أبا ليلى

لك نشيد بني أمّك نغما من وجع الشابي يتحدّى الأقدار ويبذر إرادة الحياة حُبًّا ولاّدا وحَبًّا معطاءا في طين الشعب الخلاّق... تجسّده راية حمراء بنجمها وهلالها هي لحافك في نومتك الأخيرة.

ولك منّي ومن قلوب واجفة حولك واقفة إليك حانية لحظة تشييعك، لك نشيد أخواتك وإخوانك، ضحايا الاضطهاد من هنا ومن هناك، ضحايا جوع الاضطرار من كلّ أمم الدنيا، من الذين لا زالوا على العهد ينفخون في بركان الفكر، ولن يكفّوا، حتّى تشرق الشمس كلّ حين...

ومع النشيد رايته القانية مدبوغة بدم العبيد من ملاّحة البصرة وبناة الأهرام و"سبارتكيس" الرومان و"كومينار" باريز ومن دم أبناء العبيد، من هنا، من دم الحامي والكوكي والفاضل ونبيل [11]... راية قرمزية الحمرة موشّاة بضياء الحرية وابتسامة العدالة وخفقة الحبّ وبياض السلام وتناسب الجمال...
هي رايتك، رايتنا هي جواز عبورك إلى الإنسانية المجيدة الخالدة.

نم هانئا يا فارس الحرية، يا رائد الدروب الصعبة فمثلك لم ولن يمرّ مرور الظلّ بل أكثر من أثر تركت وأكثر من وشم رسمت وأكثر من بذر غرست.

نم هانئا فعهدا قطعا لن نتوقف عن النفخ في الكور حتى يذيب الدفء جليد كلّ القلوب وينير اللهب كلّ الدروب للكادحات للكادحين لكلّ الشعوب.

رضا البركاتي
حمّام الشطّ، في غرة أكتوبر 2008

هوامش

[1انظر النصّ المذكور والوارد تحت عنوان: "تحرير فلسكين الكامل وعودة كلّ اللاجئين حقّ دائم وغير قابل للتصرّف" ممضى: جورج عدّة / تونس- 2006. ويمكن استخراجه من صفحات شبكة الأنترنات بالبحث في ":George adda"

[2"لماذا تركت الحصان وحيدا؟" العبارة لمحمود درويش.

[3"الكنام": المقصود هو الصندوق الوطني للتأمين عن المرض.

[4المناضلة الحقوقية هي الأستاذة راضية النصراوي رئيسة الجمعية التونسية لمقاومة التعذيب.

[5اليوم الوطني لمناهضة التعذيب هو يوم 8 ماي ويناسب ذكرى اغتيال شهيد الحرية نبيل بركاتي سنة 1987.

[6ورد هذا في الفقرة التقديمية والممضاة: جورج عدّة بتاريخ: أوت 2006- تونس، والتي قدّم بها لنصّ المحاضرة المذكور في (1)

[7جلبار النقاش من مؤسسي حركة "آفاق" ... وهو صاحب كتاب " Cristal"

[8يوسف الصديق مثقّف تونسي، أستاذ فلسفة تعامل مع جريدة " La Presse" حيث المقال المشار إليه، له إسهامات منشورة في الفلسفة، ومعروف أيضا بترجمته للقرآن.

[9البيان هو بيان الأكادميين و... الذي يحمل عنوان: "اليوم يتكلّم المناهضون للصهيونية" والفقرة الموالية وردت في النصّ المذكور في (1).

[10الحاتمي: نسبة لحاتم الطائي وهو الذي يضرب به المثل في الكرم عند العرب وكان عربيا معتنقا للديانة اليهودية !

[11محمد علي الحامي، مؤسس جامعة عموم العملة التونسيين – حسين الكوكي، مناضل نقابي مات تحت التعذيب بالسجن أثناء أزمة 26 جانفي 1978 – الفاضل ساسي، مناضل في الحركة الطلابية والنقابية ،أستاذ، مات بالرصاص في شارع بورقيبة في 26 جانفي 1978- نبيل البركاتي، شهيد الحرية مات تحت التعذيب، ويسمّيه رفاقه أيضا شهيد الراية الحمراء.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني