الصفحة الأساسية > البديل الوطني > مؤسّسة الاستبداد في تونس
مؤسّسة الاستبداد في تونس
25 أيار (مايو) 2008

يعتبر الاستبداد في تونس أسلوب حكم. وهو مؤسسة منظمة تنظيما صارما ومحكما يصعب اختراقه بسهولة. وهو بمثابة الهرم الذي ينتصب في قمته رئيس الدولة وفي قاعدته المعتمدون والعمد. أما في الوسط فنجد الوزراء والولاة إلى جانب مؤسسات مختصة وجهاز حزبي يلعب دور المنسق والمعبئ وهو متداخل بشكل عنكبوتي مع أجهزة الدولة المختلفة إلى حد التماهي.

يتمتع رئيس الدولة بصلاحيات لا محدودة وهو غير خاضع للمساءلة أو التتبع حسب ما ينص عليه دستور البلاد الذي فـُصّل ورُقـّع على قياس الدكتاتورية لضمان هيمنتها المطلقة واستمرارها.

أما الوزراء فيعيّنهم رئيس الدولة وهم مسؤولون أمامه فقط وهو الذي يقيلهم ويرسلهم من موقع إلى آخر وهم غير خاضعين لأي مساءلة قانونية إلا إذا غضب عليهم أعلى هرم السلطة. ينفـّذ الوزراء مهاما كُلفوا بها وليست لهم صلاحية اتخاذ القرارات دون استشارة القصر أو من ينوب القصر وحتى إن اتخذ أحدهم إجراء أو قرارا ما ففي حدود ما هو مرسوم له. وإذا ما أثار ذلك إشكالا فمصيره العزل وربما المحاكمة. يساعد الوزراء على تنفيذ ما هم مكلفون بتنفيذه موظفون يخضعون لتراتيب إدارية (وزير—> مدير ديوان —> رؤساء مصالح —> موظفون وعملة) وكل طرف يعود بالنظر والمشورة إلى رئيسه المباشر. فالموظف يعود إلى رئيس المصلحة وهذا الأخير يعود إلى مدير الديوان الذي يعمل تحت إمرة الوزير. إلى جانب مجلس الوزراء هناك مجلس النواب المعين بدوره من طرف رئيس الدولة بالتنسيق مع حزب الدولة (التجمع الدستوري الديمقراطي) عبر انتخابات شكلية يساهم فيها الأموات والأحياء ولم تتوفر في أية واحدة منها إلى حدود 2004 أدنى معايير الشفافية والديمقراطية. وحتى النواب القادمون من أحزاب المعارضة فيخضعون بدورهم للتعيين. ودور هذا المجلس إلى جانب التعبير عن الولاء والتأييد لأعلى هرم السلطة باعتباره مشغله وولي نمته، طرح بعض الأسئلة على الوزراء من أجل الاستيضاح في مسرحية مجها الشعب التونسي على امتداد عقود، وهي الموافقة بالإجماع ودون تحفظ على مشاريع القوانين والميزانيات. وحتى يكتمل الديكور ويسمح بالكلام عن جمهورية نجد القضاة الذين يدير شؤونهم مجلس أعلى للقضاء يعينه رئيس الدولة وهو مسؤول أمامه شخصيا لا أمام القضاة بالقيام بمهامه بالتنسيق مع وزير العدل وحقوق الإنسان.

وتعود إدارة المناطق المقسمة إلى ملايات إلى ولاة يعينهم رئيس الدولة وهم مسؤولون أمامه فقط وليس أمام الشعب وهم مثلهم مثل الوزراء يقومون بالمهام المناطة بعهدتهم في حدود ولاياتهم الراجعة لهم بالنظر ويستعينون بدورهم بموظفين حسب سلم وظيفي على شاكلة ما هو موجود بالوزارات لكن بمسميات مختلفة (والي —> معتمد أول—> معتمدون مختصون —> كاتب عام ولاية —> موظفون وعملة).

ويقوم المعتمدون المعينون بدورهم من طرف رئيس الدولة بمهامهم في المناطق المعتمدية الراجعة لهم بالنظر يساعدهم في ذلك الموظفون وعمد المناطق. ويلعب حزب الدولة، التجمع الدستوري الديمقراطي، دور المنسق والمشرف والمؤطر لمجمل العملية من خلال استحواذه على مجمل مواقع المسؤولية والقرار بدءا بالعمد وصولا إلى أعلى هرم السلطة.

وتلعب بعض المنظمات الخاضعة لحزب الدولة مثل اتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحة والصيد البحري والاتحاد الوطني للتضامن الاجتماعي... دور المكمل والمسهل للهيمنة وفرض التبعية والانصياع عبر الديماغوجيا وتنظيم حملات الولاء والتأييد وتوفير بعض المستلزمات والخدمات والإعانات المشروطة... فالمنح الجامعية والسكن بالمبيتات الجامعية تؤمن عبر الوساطات ويشترط فيها الولاء، والمنح المسندة للمقيمين بالمبيتات التابعة لمعاهد المختلفة تمر أيضا عبر السلطة المحلية والجهوية والتشكيلات الحزبية وكذلك الإعانات بمناسبة العودة المدرسية والجامعية وإعانات المواسم الفلاحية والمناسبات الدينية ومنح الأرامل... هذا بالإضافة إلى التشغيل الذي لم يعد حقا وأصبح خاضعا للفرز الأمني دون الحديث عن الرشاوى الباهظة التي تدفع للسماسرة والمسؤولين مقابل الحصول على وظيفة.

أما المنظمات شبه المستقلة والمارقة فيقع التعامل معها بأسلوب الابتزاز والشراء والترويض مقابل بعض الفتات (اتحاد الشغالين مثلا) أو الإخضاع القسري والتركيع إن هي تمسكت باستقلاليتها ورفضت الهيمنة (الاتحاد العام لطلبة تونس-الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان-جمعية القضاة...).

ويلعب الجهاز الأمني/القمعي وخاصة البوليس السياسي دور المتدخل المانع لكل مروق أو احتجاج، وهو جهاز ما انفك يتضخم عددا وعتادا وهو غير خاضع –عند حصول تجاوزات- للمساءلة القانونية إلا في بعض الوضعيات الاستثنائية وللضرورة القصوى عندما يشتد الاحتجاج. فكم من سجين رأي مات تحت التعذيب ولم تقع محاكمة المسؤولين عن قتله وكم معارض وقع اغتصابه أو غادر السجن وهو يحمل إعاقة من جراء التعذيب ولم يقدر على تتبع الجناة وكم من ناشط حقوقي أو سياسي تعرض للعنف المادي في الطريق العام وتظلم لدى المحاكم وحفظت القضية ورمي ملفها في سلة الزبالة. وحتى مجرمو الحق العام فيلقون أحيانا نفس المصير، أي الموت تحت التعذيب، دون تمكن ذويهم من تتبع قاتليهم.

وتلعب وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة دور الدمغجة والتضليل وتخريب الوعي والتستر على تطلعات وشواغل المواطنين الحقيقية، فجزء من البرامج يخصص لتعداد "الإنجازات" وتضخيمها والنفخ فيها حتى ولو كانت محدودة القيمة وغير ذي جدوى، وجزء آخر يخصص للأخبار، أخبار "الإنجازات" وتغطية الأحداث الوطنية والعالمية دون التعرض لهموم ومشاغل المواطنين أو التحركات والاحتجاجات المختلفة التي لا ترى طريقها إلى الإعلام (تحركات الحوض المنجمي مثلا، التحركات الطلابية والعمالية، نشاط الأحزاب والجمعيات المعارضة...). أما الجزء الباقي فينقسم بين الرياضة التي تلعب دورا تخديريا بامتياز حتى أن الجمعيات الرياضية أصبحت لهـا درابوات" وأنصار على شاكلة ميليشيات مستعدة للضرب والحرق والتكسير ورشق الجمهور المنافس بالحجارة... وبين الفن الهابط أو "الرّبوخ" الذي يملأ التلفزة الوطنية وهو يخاطب في الجماهير نصفها الأسفل ليثير غرائزها ويذكي الحيواني فيها.

وتأتي البرامج المدرسية التي وقع تخليصها من كل ما له علاقة بالثقافة الوطنية التقدمية لتركز على تأطير الطلبة والتلاميذ في اختصاصات علمية وتقنية محددة بأسلوب يغلب عليه التلقين دون اعتبار لثقافة الحوار والتساؤل والنقد من أجل إعادة إنتاج مجتمع خاضع ومنسجم مع الاستبداد.

وتلعب المؤسسة الدينية من خلال خطب الجمعة الجاهزة سلفا والمعدة بإحكام والبرامج الدينية المختلفة دور المبلد للوعي والمكرس للتذيل والطاعة "لأولي الأمر".

إن هذا الكل المترابط والمتناسق يشكل في مجموعه دولة الاستبداد المسماة زورا جمهورية التي تعتمد التعيين كقاعدة أساسية من فوق إلى تحت ويعتبر فيها الانتخاب استثناء. وهذا التعيين هو الضامن الأساسي للولاء والتأييد والدافع على التسلط والقمع حفاظا على المصالح المختلفة، والضامن للاستمرار. وهو تسلط عمودي من فوق إلى تحت تمثل القاعدة الشعبية العريضة ضحيته الأساسية باعتبارها عرضة دوما للتهميش والبطالة والإهمال الصحي وغلاء المعيشة وحتى من أسعفه الحظ وظفر بعمل أو وظيفة فمقابل مرتب وزهيد لا يكفي لتغطية الحاجيات الأساسية في وقت توسعت فيه مستلزمات الحياة ولم تعد مقتصرة على الأكل واللباس والصحة والسكن.

إن إرجاع الأمور إلى نصابها وتفكيك هذه المؤسسة المكرسة للدكتاتورية والاستغلال والفساد والتبعية والقائمة على الولاءات والمصالح الضيقة يمر حتما عبر توحيد الصفوف وتجميع الطاقات الرافضة لهذا الواقع المذل والمهين. والتوحيد يتم في هذه المرحلة بالنظر إلى حالة الوعي والظروف الموضوعية والذاتية، حول حد أدنى يضع حدا للحكم الفردي المطلق المجسم في الرئاسة مدى الحياة ويعيد لمؤسسة البرلمان دورها التشريعي والرقابي على السلطة التنفيذية وللقضاء دوره المستقل في مقاومة التجاوزات والفسـاد واختلاس المال العام على أن يرتبط هذا كله بخطة اقتصادية توفر الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي الغذائي والشغل والعيش للطبقات والفئات المحرومة وتنمّي الجهات المنكوبة حيث معدلات البطالة المرتفعة وغياب أبسط المرافق والتجهيزات والبنى التحتية المسهلة للمشاريع التنموية الدنيا.

وهذا يستدعي عملا مكثـّفا وسعيا جادا من أجل تحويرات جذرية يقع إدخالها على المجلة الانتخابية ومجلة الصحافة وقانون الجمعيات والأحزاب وسن عفو تشريعي عام بما يتيح لكل مواطن تونسي حق الانتخاب والترشح والتنظم في الحزب الذي يلبي قناعته والتعبير عن رأيه بحرية ودون رقابة ولا صنصرة. كما يستدعي فك الحصار عن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وتمكينها من إنجاز مؤتمرها السادس في كنف الاستقلالية، وتسهيل إنجاز المؤتمر الموحد للاتحاد العام لطبلة تونس وإنهاء تدخل الأمن في الجامعة ومنع النشاط النقابي والسياسي وتمكين القضاة الشرعيين من استرداد جمعيتهم المغتصبة.

هذا في تقديرنا الحد الأدنى الموحد والمجمّع والبوابة الحقيقية للنضال المشترك في هذا الظرف الصعب والرديء الذي ارتفعت فيه عديد الأصوات الرافضة للحالة السائدة والمطالبة بتغييرات جدية. ونعتقد جازمين أن أي عمل أحادي منفرد مهما كانت جدية برنامجه وارتباطه بمصالح الجماهير لن يكتب له النجاح ولن يساهم في تغيير الواقع نحو الأحسن.

مراد الذويبي



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني