الصفحة الأساسية > البديل العربي > مكوّنان أساسيّان للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المغرب
الرشوة والفساد في المغرب:
مكوّنان أساسيّان للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المغرب
30 آذار (مارس) 2009

من خصوصيات أجمل بلد في العالم تناسل الهيئات والمجالس الاستشارية، وفي هذا السياق أحدثت العبقرية المخزنية ما سمي بـ"الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة": الوقاية وليس المحاربة، مكر اللغة هذا يفضح سياسة ذرّ الرماد في العيون التي يمارسها المخزن كلما تفاقم مشكل ما بفعل ضغط الرأي العام الوطني والدولي. لكن الوقائع تبقى عنيدة ويكفي التذكير هنا بتقرير المنافسة لسنتي 2008 و2009 الذي أصدره قبل أيام منتدى دافوس والذي أكد فيه أن الرشوة في مقدمة العوائق والإكراهات التي تواجه الاقتصاد في المغرب. شهادة الرأسمالية المتوحشة تكفي لفضح بهلوانيات مراكز الفساد والإفساد.

تقديم:

أقدمت الدولة، مؤخرا على تشكيل هيئة متخصصة في محاربة الرشوة، وذلك بعد أن تفاقمت هذه الآفة الخطيرة حسب تقارير دولية. وقد جاء هذا القرار أيضا استجابة لتوصيات مؤسسات دولية، من بينها البنك العالمي.

ولن نخوض هنا في تفاصيل تشكيل هذه الهيأة وصلاحيتها ومكوناتها، بل سنحاول تناول مسألة الرشوة والفساد من خلال تشخيص الوضع الحالي وتحليل الأسباب العميقة لهذه الظاهرة وكلفتها لنخلص إلى الحل الحقيقي لهذا السرطان المميت.

1 – تشخيص الوضع الحالي للرشوة والفساد:

بتركيز شديد يمكن أن نقول أن الرشوة والفساد معممين في مختلف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وخاصة في الوظيفة العمومية والقطاع العام وفي مجموع مناطق البلاد إلى حد أنه يمكن القول، وبدون تضخيم، لا يوجد مجال خال من هذا السرطان الخبيث.

كما يمكن القول أن الفساد والرشوة يمسان كل الهرم من فوق إلى تحت، من الموظف السامي إلى أبسط عون إداري. لكن لمسؤولية الأساسية تقع طبعا على المستويات العليا لأنها المستفيدة، إلى أقصى الحدود، من الرشوة والفساد ولأن من المفروض أن تعطي المثال في ما يخص الالتزام بالقانون والتدبير الجيد لأموال الشعب، بينما في الغالب، فإن موظفي المراتب الدنيا يلجأون للرشوة والفساد لسد حاجياتهم اليومية التي لا تسمح الرواتب الهزيلة التي يتقاضونها بتلبيتها في ظل سيادة ثقافة الاستهلاك وتراجع دور الدولة في الميدان الاجتماعي (خوصصة التعليم والصحة...).

إن محاولات محاربة الرشوة والفساد في المغرب ليست جديدة. فقد تأسست المحكمة الخاصة، من أجل متابعة الفاسدين والمختلسين. وتشكلت لجان التقصّي والتحقيق من طرف البرلمان أو غيره. ووضعت العديد من المساطر والقوانين لضمان الشفافية والنزاهة فيما يخصّ الصفقات العمومية. ونفس الشيء بالنسبة للإنتخابات والقضاء.

لكن رغم ذلك ظلت دار لقمان على حالها، بل بقدر ما تشعبت المساطر والقوانين الهادفة إلى محاربة الرّشوة، بقدر ما تفاقمت ظاهرة الرشوة والفساد وأصبحت كلفتها أكبر وأساليب ممارستها أكثر مكرا وتفننا.

فإذا كانت الرشوة والفساد ظاهرة معممة، أليس من الضروري البحث عن أسبابها، ليس في انحراف وانعدام الأخلاق عند البعض فقط، بل أساسا في تربية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تنتجها وتعيد إنتاجها باستمرار؟

2 – أسباب الرشوة والفساد:

لقد تشكل المخزن خلال سيرورة تاريخية طويلة عبر السعي إلى إخضاع القبائل التي ظلت في وقت قريب نسبيا تشكل البنيات الأساسية في المجتمع. وقد تمثل هذا الإخضاع في ممارسة العنف ضد القبائل والسعي إلى استيعاب نخبها (القيادة والشيوخ) عبر توفير الحماية لهم مقابل الولاء والطاعة لهم وتقديم الهدايا مما ساهم في تفكك القبائل وإضعافها وكرّس الزبونية كأسلوب أساسي في الحكم. إن الاستعمار هو الذي استطاع هزم القبائل خلال معارك طويلة امتدت إلى عشرات السنين وترسيخ المخزن كأداة للهيمنة تابعة له.

وبعد الاستقلال الشكلي وسعيا من النظام إلى تقوية أركانه وتوسيع قاعدته الاجتماعية، سيعمل النظام على إعادة بناء الدولة كدولة ظاهرها عصري (مؤسسات وقوانين...) وباطنها تقليدي مخزني مرتكز إلى الزبونية والرّشوة والفساد.

فالنظام لتثبيت أقدامه سيلتجئ إلى استعمال الدولة ليس كأداة للتنمية، بل كوسيلة لتوزيع الامتيازات على خدامه الأوفياء ومحاولة إرشاء المعارضين أو قمعهم (سياسة الجزرة والعصا). هكذا ستتشكّل الدولة ليس كمؤسسات تحكمها القوانين وخاضعة للمراقبة والمحاسبة، بل أساسا كأداة في يد النظام هدفها الرئيسي حمايته وتتمتع، في المقابل، بالحصانة من أية مراقبة أو محاسبة على الفساد والإفساد الذي تمارسه والرشاوي والعلاوات التي تتقاضاها.

هكذا تتشكل، على أعلى مستويات الدولة، مافيا مخزنية لها امتدادات في مختلف المجالات، وخاصة في المجال الاقتصادي تستغل نفوذها للاغتناء السريع، عبر الرشوة واختلاس المال العام والاستفادة من الامتيازات المختلفة (رخص الصيد والمقالع والبناء والعقار والأراضي الفلاحية ومساعدات الدولة...). لذلك فهي واجهت وتواجه بكل قواها أي تطور ديمقراطي حقيقي سيؤدي لا محالة إلى تقليص نفوذها أو حتى القضاء عليها.

إن الكتلة الطبقية السّائدة، لكونها تتشكل من طبقات ريعية، طفيلية ومستغلة إلى أقصى الحدود للطبقة العاملة وعموم الكادحين بحاجة إلى الاستبداد المخزني وما يرافقه من فساد ورشوة وزبونية:
- فهي في حاجة للاستبداد لحمايتها من غضب ونضال الطبقات الكادحة المستغلة والمضطهدة.
- وهي كطبقات ريعية (الريع العقـّاري والمالي والريع المرتبط باستغلال الأرض وباطن الأرض والبحار) تستفيد من كون الحصول على هذا الرّيع لا يخضع لمقاييس موضوعية تتوخـّى الاستعمال الجيد لهذه الموارد (عدم استنزافها أو نهبها أو تبذيرها) وتسخيرها لمصلحة تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية، بل تخضع للعلاقات الشخصية وتبادل المصالح مع هذه المافيا المخزنية.
- وهي كطبقات وسيطة تمثل المصالح المتنافسة للامبرياليات، وداخل كل امبريالية للمجموعات المتنافسة تلجأ، بتشجيع من موكليها إلى استعمال كل الأساليب، بما في ذلك الرشوة، للدفاع عن مصالحهم ومصالحها. والامبريالية الفرنسية بالخصوص لها باعٌ طويل وخبرة مديدة في وسائل الإرشاء نظرا لتجربتها كدولة استعمارية.

لقد قيل إن خوصصة العديد من القطاعات ستساهم في تقليص هذا الفساد المتجذر في جهاز الدولة والقطاع العام غير أن الواقع عكس ذلك، لأن المافيا المخزنية لها الكثير من الوسائل لانتزاع العلاوات ولأن الطبقات السائدة المحلية والشركات الأجنبية همها الوحيد هو جني أرباح مرتفعة وبسرعة. وهو ما يؤدي في الغالب إلى ارتفاع أثمان المواد والخدمات التي تنتجها الشركات المخوصصة.

كما أن النظام يتساهل، إلى حد ما، مع رشوة صغار الموظفين لعلمه أن رواتبهم هزيلة لا تكفي لسد حاجياتهم الأساسية.

هذه، في اعتقادنا، الأسباب الرئيسية وراء الفساد والرشوة اللذان ينخران أجهزة الدولة. وهي أسباب تتعلق بطبيعة هذه الدولة ووظائفها وكذا بطبيعة الكتلة الطبقية السائدة، ومستلزمات إعادة إنتاجها. وقد فاقم من هذا الواقع تضخم الاقتصاد غير المهيكل والاقتصاد غير القانوني (التهريب، المخدرات...) الذي يدرّ أرباحا خيالية على جزء من الكتلة الطبقية السائدة وعلى المافيا المخزنية.

والآن لا بدّ من تسليط الأضواء على الكلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لآفة الفساد والرشوة.

3 – تكلفة الرشوة والفساد:

إن الكلفة السياسية للرشوة والفساد جدّ مرتفعة. فالنظام، عبر إشاعته لفساد والرشوة كأسلوب للحكم (كسب الموالين) وتوفيره الحماية للمرتشين والفاسدين والمفسدين، يعدم أية إمكانية لقيام دولة القانون ودولة المؤسسات ويعوضها بدولة اللاقانون والاستبداد والتعليمات. وهو أيضا، باستخدامهلهؤلاء المرتشين والفاسدين لتشكيل أحزابه الإدارية يساهم، بقسط وفير، في تمييع وإفساد الحياة السياسية وإبعاد أغلب المواطنين من العمل السياسي ومن الأحزاب السياسية. لذلك فهو يجعل المواطنين أمام الخيارات التالية:
- إمّا أن تكون معارضا حقيقيا وتتعرض بالتالي إلى كل أشكال التضييق بل حتى القمع المباشر.
- وإمّا أن تلتحق بأحزاب موالية للنظام وتبحث عن مصلحتك الشخصية. وذلك أحد أسباب الفساد الذي تتميّز به الإنتخابات التشريعية والجماعية.
- وإمّا أن تبتعد عن السياسة وعن الأحزاب وتعتبر أن لا فائدة يرجى منها. وهو ما يعتقده أغلب المواطنين والمواطنات وما يريده المخزن.

أمّا الكلفة الاجتماعية، فتتمثل في إشاعة ثقافة الانتهازية والبحث عن الحلول الفردية والقبول بالأمر الواقع والتأقلم معه عوض ثقافة العمل الجماعي والمنظم وثقافة الاحتجاج والمواجهة لهذه الآفات الاجتماعية. فهو إذن يعطّل الوعي وربما الأخطر من ذلك هو أن الرشوة والفساد المعممين ينتجان تناقضات وسط الشعب: فالمواطن المضطر لإرشاء موظف لقضاء مصالحه يعتبر هذا الموظف هو عدوه بينما عدوه الحقيقي وعدو الموظف البسيط نفسه هو النظام المخزني الذي يدفع الموظف البسيط إلى الارتشاء لتلبية حاجياته الأساسية بسبب هزالة أجرته ويدفع المواطن إلى دفع الرشوة.

وهو ما يؤدي أيضا إلى إضعاف العمل النقابي والنضال الاجتماعي بشكل عام.

أما الكلفة الاقتصادية الاجتماعية فهائلة لأن تعميم الرشوة والفساد وما يعنيه من اختلاس وتبذير للمال العام يؤدي إلى النتائج التالية:
- استيلاء المافيا المخزنية على جزء من الثروة الوطنية وتوجيه أغلبه نحو المصارف والبنوك الأجنبية عوض أن يساهم في تلبية الحاجيات الأساسية للشعب المغربي.
- ارتفاع أثمان السلع والخدمات بسبب الرشاوي والأتاوات التي تفرضها المافيا المخزنية على كل الأنشطة الاقتصادية.
- عدم جدوائية العديد من الاستثمارات العمومية ورداءة العديد من التجهيزات والبنيات التحتية (طرق مليئة بالحفر بعد أول سقوط الأمطار، بنيات متشققة...) بسبب الاختلاسات التي شابت إنجاز المشاريع والرشاوي التي قدمت لغض النظر عنها.

وخلاصة القول أن المواطن هو الذي يؤدي الفاتورة، عبر ارتفاع الضرائب وغلاء الأثمان وعدم الاستفادة من العديد من المرافق العمومية أو الضرر الذي يلحقه بسبب رداءتها.

فما هي يا ترى سبل تجاوز هذا الواقع؟

4 – طرق معالجة الرشوة والفساد:

بما أن الرشوة والفساد إحدى مكونات النظام وأحد أساليبه في الحكم وأن تفشيها بشكل شامل مرتبط بسيادة الاستبداد وغياب المراقبة والمحاسبة وسيادة الإفلات من العقاب، فإن الحل هو حل سياسي بامتياز يتمثل في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي يرتكز إلى عزل المافيا المخزنية وسنّ دستور ديمقراطي، بلورة ومضمونا، دستور يقرّ بأن الشعب هو مصدر كل السلط وصاحب السيادة ويضمن حق الشعب بواسطة ممثليه الحقيقيين في تعيين ومراقبة وعزل ومحاسبة كل المسؤولين في كل أجهزة الدولة المدنية والعسكرية والأمنية، بما في ذلك حقهم في تقديمهم للمحاكمة أمام القضاء كسلطة دستورية، قضاء حرّ ونزيه وكفء.

لذلك فإن الحلول الرسمية الحالية والتي جربت من قبلها حلول أخرى ستبوء بالفشل لأنها تعالج مسألة سياسية اقتصادية اجتماعية بوسائل تقنية (قوانين، مساطير، لجان تقصي، هيئة متخصّصة...).

عبد الله الحريف
جريدة "النهج"، لسان النهج الديمقراطي المغربي
العدد 128 فيفري 2009.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني