الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > وعْدُ الحُكّة
قصّة قصيرة:
وعْدُ الحُكّة
20 شباط (فبراير) 2010

الإهداء: إلى عدنان حاجي، غانم الشرايطي، محمود ذويب، محمد السوداني، وآخرين...

قاربت الشمس على المغيب بعيدة في الأفق الأحمر ملبدةً بسحبٍ زرقاء داكنة. هبّت نسمات باردة مصحوبة برذاذ خفيف. بدأت أوراق شجرة التوت في التساقط صفراء ذابلة...

توقف حمد لحظة بذاك الشعر المنفوش الذي غزا الشيب نصفه وحدّق بعينيه الغائرتين في أولائك الصبية المنهمكين في اللعب بـ"الخمّيسة" تحت الشجرة، تردّد قليلا في التقدم ثم خطى خطوات سريعة متعثرة غايته الابتعاد عنهم إلا أنه سقط في الوحل فتفطنوا إليه وركضوا نحوه مسرعين وهم يصيحون: "وعد الحكة وعد الحكة...".. طاح حمد... التفـّوا حوله في صياح وأهازيج عالية. وقف متثاقلاً مستنداً على عصاه وهو يحاول إبعادهم ومتمتما بكلمات سبّ وشتم. لكنهم حاصروه أكثر وأخذوا في رشقه بالحجارة حتى سقط مرّةً أخرى على الأرض انتبهت "فضيلة" إلى الصراخ في الشارع فأسرعت وفتحت باب الحوش وصاحت في الصبية: "يا ولدي علاه عمّكم تعملوا فيه هكّا؟! سيّب عمّك وبرّا ألعب بعيد..!".

تفرّق الصبية. اتجهت نحوه فضيلة. مدّت يدها تساعده على النهوض. نهض متثاقلا وهو يقول بصوتٍ متهدجٍ: "مَرْسِي عليك يا فضيلة بنت عمي... كي منّعتني من هالولاد... وراس بنت عمّي كيما وعدتك إلا ما نعرسوا قريب". صمت لحظة يراقب نظرتها الشاردة ثم أخرج سيجارةً من القميص وقال لها: "أما توّا براس أمك اعطني شعول لول...". نظرت إليه فضيلة في صمت نظرةً طويلةً ثم ترقرقت عيناها بالدموع... حينها بادلها نظرة سريعة وطأطأ رأسه ومرّ متثاقل الخطى وهي تبتسم شاهقةً بالعبارات حتى غاب في آخر الشارع...

قالت فضيلة: "في صباح يوم من أوائل أيام الصيف كنت أجلس حذو أمي في ركن مظلل من الحوش حيث طرق الباب الحديدي طرقاً عنيفاً، فتحتُ الباب في هلع فإذا بعون بالزيّ المدني يناديني "فضيلة بنت حسن خطيبة المدعو حمد بن حسن"، فتقدمت نحوه خطوةً فإذا بثلاثة من زملائه يشدّون وثاقي ويضعونني في سيارة سوداء ويكيلون لي شتائم بألفاظ بذيئة ثم أخذوا في ضربي في السيارة حتى فقدت الوعي... ولم أفق إلا في مكان مظلم في حجرة ضيقة باردة بعد أن سكب أحدهم على جسدي العاري سطلاً من الماء البارد... ثم دخل أربعة أعوان ضخام، يحملان حمد العاري ملطخًا بالدماء و قد بانت في كل جسده كدمات زرقاء. كان حمد مكبّلاً بسلاسل حديدية كثيرة وقد انتابني حينها فزع كبير حين نظرت إلى جسدي وجسده العاري وقد كانت الدماء تسيل على كلتا فخذيّ ثم تساقطت قطرات منها على قاعة الحجرة. ثم دخل خامس وقف أمام حمد و صاح في وجهه: "عامل فيها عنتر وتقود في التحركات و تسبّ في "علي عباس"... نعرفوا كيفاش انجيبوك للخط"... تراجع قليلا ثم صرخ بصوت أقوى: "أيّا توّا تصحّح ولاّ نريقلو العصفورة يا... تكلم يا ولد القحـ...".

نظر لي احمد مليًا ثم تقدّم قليلا من خامسهم يجرّ السلاسل في قدميه و قال له: "اتفوه عليكم يا كلاب".

تراجع خامسهم قليلاً و مسح رذاذ البصاق من وجهه في غضب ولكم أحمد لكمات متتالية في وجهه وبطنه حتى سقط على الأرض... ثمّ اتجه نحوي ومرّر يده على شعري ومدّ يده إلى صدري وأخيرًا وضعها على مؤخرتي فأبعدت يده عن جسدي... تراجع قليلا. أشعل سيجارة وقال مبتسما: "أشنوّة يا عصفورة ماكش... أوني ما تخافش الليلة ما تبات عنا كان عروسة..."

دارت الرحى ثلاث أو أربع دورات متتالية ثم نزعت "الحاجة صابرة" يدها عن المقود و قد صارت حبات الشعير مطحونة متناثرة على الفوطة الحمراء ثم نهضت لتفتح الباب لابنها حمد بعد أن سمعت صوت خفيه في الطريق، أطل برأسه مبتسما: "صحّ يا لعزوزة ولدك البطل كالعادة مشيتلهم للمركز وسيّبتهم...". كفّ عن الابتسامة وشهق بالبكاء واضعًا رأسه على صدرها وقال باكيا: "ياما ضربوني ياما..!"، ثم خفض رأسه ودخل إلى حجرته. ظلّت تتابع خطواته بنظرات كلها إشفاق وقد اغرورقت عيناها بالعبرات... أغلقت الباب وعادت إلى الرّحى تديرها في بطء شديد مع تناهيد طويلة سحبتها إلى ذكريات حزينة و مؤلمة...

أبا النـّحس



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني