الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > المثقف في ثالوث البلاط والاعتباط والانحطاط
المثقف في ثالوث البلاط والاعتباط والانحطاط
3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

قرأت بتاريخ 13 سبتمبر 2011 مقالا في الملحق الثّقافي لجريدة الشّروق التّونسية بعنوان «فنّانون تونسيّون: حياد الفنّان واجب... لكنّه صعب» وحقيقة صدمني هذا العنوان لما فيه من استفزاز لأكثر قناعاتي بديهية وهي أنّ الفنّان، والمثقّف بصفة أعمّ، منحاز أو لا يكون !!

فلا أدري كيف يمكننا، بعد نصف قرن من سياسات ثقافية تتدحرج بين التّهميش والاحتواء، وبين الإقصاء والتّوظيف، أن نسوّق لحياد المثقّف على أنّها ظاهرة صحيّة في المشهد الثّقافي...أم ترانا لا نتحدّث عن نفس البلد الّذي أعيش فيه والّذي صارت فيه الأوساط الثّقافية مرتعا لشعراء البلاط وممتهني السّخافة تحت مسمّيات عدّة كالحداثة والتّحديث والثّورية والتّجديد وأحيانا وبكلّ بساطة «خبزة الأولاد»...؟ وماذا جنينا من هذه السّياسات؟ عزوف شبه تامّ عن الفنون والكتب والفكر لتوفيق النّظام في نسج نموذجين لا ثالث لهما للمثقّف: مثقّف موظّف لدى الحزب الحاكم يمثّل الذّراع الثّقافي للنّظام، وهو تارة نخبوي متعال، وتارة شعبوي منحطّ. وإمّا المثقّف البوهيمي السّكير، القبيح، المتّسخ، اللاّأخلاقي والّذي يعيش في ملكوت عالم خيالي صنعه لنفسه... وصراحة، أجد نفسي مرغما هنا على ضرورة التّذكير بين الاستقلالية والحياد وخطورة الخلط بينهما: فأن يكون المثقّف مستقلاّ، فذلك بالضّبط ما هو مطلوب، وأن لا يكون له ولاء إلاّ للفكر الحرّ وللوطن وللإنسان في إنسانيّته المتعدّدة والمنفتحة، فذلك هو المنشود، وأن لا يكون عليه سلطان إلاّ العقل وتوقه الدّائم إلى الحرّية وبحثه الدّؤوب عن الجمال والحقيقة العارية، فذلك هو الهدف.

كما أنّ انضواء المثقّف تحت لواء تيّار إيديولوجي أو حزبي لا يعني - بالضّرورةّ- تبعيّته. على أن يكون هذا الانتماء الأرضيّة الّتي ينطلق منها المثقّف للانفتاح على الآخر الإيديولوجي والسّياسي والثّقافي، لا أن لا يصبح الوعاء الّذي يسبح فيه ويسقط في تلك الدّعاية الفظّة للإيديولوجية الّتي تمنح صكوك الوطنية والولاء القومي والدّيني لمن يحاكيها ويغازلها وتخوّن كلّ من يعارضها ويخافها، وتصحّ حينها مقولة درويش: «الإيديولوجيا مهنة البوليس» مع أنّه لا يخفى على أحد أنّ الشّاعر من أبرز رموز اليسار في العالم وأنّه مفعم، إلى حدّ كبير، بالعزّة القومية، أي أنّه مشبع بالإيديولوجيا.

أمّا، في الجهة المقابلة، أن يكون الفنّان أو المثقّف مسبّحا في عالم المثل أو محلّقا خارج سرب الواقع في عوالم طوباوية مثاليّة، فذلك ضرب من ضروب التّرف والعقم الفكريين، فنحن لا ننكر أهمّية الحلم والطّموح بالنّسبة للمثقّف، بل بالعكس نعتبره المحرّك الأساسي للإبداع ونؤمن بأنّ المثقّف أكثر أهلية من غيره لجعل شعبه ومن يعتبر نفسه متحدّثا باسمهم عموما يواصلون التّوق إلى مستقبل أفضل، وإلى زعزعة النّظام وضرب السّلطة المكبّلة لمخيلتهم المتجذّرة في النّمطية والرّداءة. لكن أن يصير الحلم شكلا من أشكال التّصوف الفضفاض، وتحليقا عبثيا في عوالم المثالية المنسلخة عن الواقع المادّي المعيش، فذلك ما نرفضه ونعتبره منتوجا ترفيهيا وصناعة للأفيون مساوئها أكثر من منافعها. وبدون شكّ، فإنّ هذه المقاربة النّخبوية المتعالية لا تزال متجذّرة عند شقّ كبير من مثقّفينا، فلا يمكن أن أنسى الحادثة الّتي حصلت لي مع أحد الأساتذة بلجنة تحكيم أحد مهرجانات الأدباء الشّبان، حينما قال لي ببعض الاستهجان، بعد أن قرأ أقصوصتي: «تركت لي روح نصّك الانطباع بأنّك منحاز لكذا» فأجبته: «أستاذي، أنا أكتب لأنّي منحاز « وهنا بالضّبط يكمن جمال العملية الإبداعية: فهي نسبية في آخر المطاف ولا تخلو من ذاتية تجعلها من قبيل البديل الممكن الّذي يحتمل الصّواب والخطأ، والّذي يخرج الفكر من صمت المعابد وجمودها إلى معترك الحياة وضوضائها، ف»الفلسفة حظيرة وليست معبدا» كما قال الفيلسوف الفرنسي كانغيلام، والشّأن يصحّ لبقيّة أشكال الإبداع.

و للأسف، فإنّ هذه المقولة لم تتجسّد في مشهدنا الثقافي والسّياسي إلاّ بإحتشام، فمن منّا رأى أحد رموز الثّقافة أو السّياسة في إعتصام أو مسيرة إحتجاجية بعد الثّورة؟ مع بعض الإستثناءات الّتي لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد...و الحال أنّه لنا من روّاد الفكر والإبداع من بلغ العالمية، وأخشى أن يكون ذلك مردّ إعتكافهم أبراجهم العاجيّة، ممّا يحيلني على ظاهرة أخرى وهي إنزواء عدد لا بأس به من اليسارويين والحداثويين بتعلّة أنّ السّاحة اكتسحها الانتهازيون والرّجعيون.. أ وليس من المفروض أن يكون ذلك كافيا للإنخراط في الصّراع بل ويجعله أمرا طارئا وعاجلا من أجل الحفاظ على المكتسبات الحداثية والثّورية لتونس وتعزيزها؟ أم ترانا إزاء صنف جديد من المثقّفين: تكنوقراط الفكر، علاقتهم بالشّأن العامّ كعلاقة الكيميائي بقواريره وعقاقيره، تنتهي بمغادرته للمخبر؟ إنّ الطّبيعة لا تحتمل الفراغ، والوطن لا يحتمل الحياد، وكمّا أنّ الأرض لمن يفلحها فانّ الثّقافة لمن ينتجها...

في الختام، أتمنّى أن يبلغ صوتي جميع الثّوريين والتّقدميين وأن تتكاتف جهودهم لصياغة عقيدة سياسية وفكرية جديدة قائمة على المشاركة وعلى السّعي الدّائم لتطوير الذّات والوعي بطبيعة الصّراع سعيا لكي يكون المستقبل لهم شريطة مراعاة الإطار الزّمكاني للصّراع، وأن يكونوا أبناء «الآن وهنا»...

مجد مستورة



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني