الصفحة الأساسية > البديل الوطني > إلى متى سنظل شعبا يأكل من وراء البحار!
بمناسبة "اليوم الوطني للفلاحة":
إلى متى سنظل شعبا يأكل من وراء البحار!
15 أيار (مايو) 2004

دأبت السلطات التونسية كل يوم 12 ماي من كل سنة على إحياء "اليوم الوطني للفلاحة". ويصادف هذا اليوم (12 ماي) تاريخ إجلاء المعمرين الفلاحيين الفرنسيين عن التراب التونسي سنة 1964 (الجلاء الزراعي). وعادة ما تنطلق الاستعدادات للاحتفال بهذه المناسبة مع الاستعداد لموسم الحصاد وجني محصول السنة الفلاحية بما أن الزراعات الكبرى (الحبوب) ما تزال حتى اليوم تمثل "رمزا" للنشاط الفلاحي نظرا للوزن الذي تحتله في هذا القطاع.

ومن المعروف أن الدّعاية الرسمية كانت دائما لا تبرز إلا الجانب الإيجابي من سياسة الدولة في الفلاحة لذلك نسمع كل سنة عن "موسم فلاحي ناجح" وتتردد شعارات "تطوير وتعصير الفلاجة" و"تحسين المردودية" و"تنويع الأنشطة" و"فتح أسواق جديدة" في وجه منتوجاتنا و"ترشيد استهلاك الماء" وبطبيعة الحال كل ذلك من أجل بلوغ ذلك الهدف الذي يتكرر في كل المخططات الاقتصادية الخماسية والذي لم يقدّر له أن يتحقق حتى اليوم ألا وهو"تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي".

والمتابع لتطوّر أوضاع هذا القطاع يلاحظ دون عناء أن الدولة التونسية منذ 1956 جرّبت وصفات كثيرة ومتعددة وأحيانا متناقضة دون أن تبلغ الأهداف المعلنة. وإذا كان هذا الانتقال الدائم من "تجربة" إلى أخرى يفسر حسب الخطاب الرسمي بالإصرار على "البحث عن الوصفة التي تعالج الموضوع بصواب وتحل المشكل الذي تعانيه الفلاحة في تونس بصورة جذرية"، فإنه يعكس في الحقيقة غياب استراتيجية وطنية مدروسة وواضحة لتطوير هذا القطاع والنهوض به.

لقد انتهت تجربة التعاضد في الستينات في إطار ما سمي كذبا "الاشتراكية الدستورية" بفشل ذريع جعل الدولة التونسية تتراجع عنها وتقر بأنها كانت فوقية وفرضت قسرا على الفلاحين التونسيين والفلاحين الصغار فقط دون أن تطال كبار ملاكي الأراضي. ولم تخفِ كذلك اعترافها بأنها تجربة فاشلة من حيث النتائج بل وأدت إلى نتائج معاكسة للشعارات المرفوعة آنذاك حيث فقّرت الريف أكثر وعمقت الفوارق بين الطبقات وخلقت مكبلات للطاقات الإنتاجية للفلاحة والفلاحين التونسيين. لكن هذا الاعتراف لم يأت نتيجة عملية تقويم وطنية شملت كل تعبيرات المجتمع وطاقاته الفكرية والسياسية وخصوصا المعنيين مباشرة بهذه التجربة وبقطاع الفلاحة على العموم ونعني الفلاحين وبالأخص منهم الفلاحين الصغار والفقراء. فبالعكس جاءت هذه الاستخلاصات من لدن الذين خططوا للتجربة وسهروا على تنفيذها أي الذين يتحملون وحدهم مسؤولية ذلك الفشل الذريع. وكان حريا بهم أن يفتحوا الباب على الأقل لتقويمها وصياغة البديل اللازم لها لكنهم كالعادة أحاطوا ذلك بجو من القمع والإقصاء طال حتى شرائح من الحزب الدستوري الحاكم (مؤتمر المنستير 1974).

كما انتهت تجربة نويرة المعروفة بـ"تعايش القطاعات الثلاثة" على المستوى الاقتصادي العام وكذلك في قطاع الفلاحة (أملاك خاصة، ووحدات الإنتاج الفلاحي الموروثة عن التعاضديات الفلاحية في عهد بن صالح، والأراضي الدولية) هي الأخرى بفشل لا يقل عن فشل التجربة السابقة. وعوض أن يبسط الموضوع على استشارة الشعب في هذا المجال ولما لا في استفتاء شعبي (أم أن الاستفتاء لا يصلح إلا لتأبيد رئاسة الرئيس الذي لن يتنحى عن الكرسي إلا إلى القبر؟!) راحت الحكومات المتوالية والمتشبعة كلها بالقواعد الحكيمة لليبرالية الاقتصادية المملاة من صندوق النقد الدولي خصوصا، من حكومة مزالي إلى الرئيس الحالي (وهو رئيس حكومة فعلي ووزيره الأول لا يمارس وظيفة رئيس الحكومة) مرورا بحكومة صفر، راحت كلها تراجع وتجرّب وتعيد التجارب في غياب تام للشعب ولمكونات المجتمع المدني المعنية بهذا الملف الوطني ودون أن تحقق أدنى تقدم في الموضوع.

فالاجراءات القانونية المتخذة في نطاق تشجيع الاستثمار في الفلاحة لا تعدو أن تكون إجراءات ترقيعية عاجزة عن معالجة المشكل في عمقه. كما أن الإجراءات التنظيمية الخاصة بتسوية الملكية العقارية وإنشاء و"تطوير" مناطق الإحياء الفلاحي وبعث المناطق السّقوية الجديدة وإعادة هيكلة مجامع الإنتاج ليست هي الأخرى سوى إجراءات إدارية لم تعد بالفائدة اللازمة على قطاع الفلاحة رغم الأهمية الجزئية التي تكتسيها.

والنتائج الحاصلة رغم سلسلة الإجراءات المذكورة كلها تؤكد اليوم وبما لا يدع مجالا لشك أن الارتقاء بقطاع الفلاحة إلى المكانة التي تعود له على نطاق الاقتصاد الوطني ككل أو إلى ما هو مطلوب منه بخصوص حاجاتنا الغذائية هو مهمة وطنية شعبية لا بد أن يدلي كل مواطن برأيه فيها خاصة وأن الذين احتكروا هذه المسؤولية قادوا القطاع إلى ما هو عليه اليوم من ترد وفوضى وعجز.

لقد تراجعت نسبة مساهمة قطاع الفلاحة في الناتج الداخلي الخام بصورة ملحوظة في السنوات الأخيرة كما تراجعت طاقته التشغيلية وخاصة لخريجي الجامعة وأصحاب الشهائد لأن نسبة التأطير في هذا القطاع هي أصلا من أضعف المعدلات. ورغم التحسن الذي شهدته الصناعات الغذائية وخاصة الموجهة إلى التصدير فإن المنتوجات التقليدية كالتمور وزيت الزيتون ومنتوجات البحر ما تزال هي الطاغية على صادراتنا ولم يحصل تطور بخصوص تنويع هذه المنتوجات أو في مستوى تحسن نوعية الصادرات ذلك أن 50 مؤسسة فقط حصلت على شهادة الجودة (ISO) من جملة 700 مؤسسة عاملة بالقطاع.

أما بالنسبة للحبوب فإن تونس لم تتمكن حتى الآن من تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المادة ولا يتجاوز المحصول في أحسن السنوات كالسنة الفارطة مثلا سقف 75 % من الحاجات الوطنية. فعلى سبيل المثال بلغت محاصيل السنة الماضية 2003 حوالي 20 مليون قنطار فيما تستهلك البلاد سنويا 17 مليون من القمح اللين والصلب وحوالي 7 ملايين قنطار من الشعير أي ما جملته حوالي 24 أو 25 مليون قنطار الأمر الذي يؤثر سلبا كل سنة في ميزان الدّفوعات نتيجة توريد كميات هائلة من هذه المادة.

والجديد في قطاع الفلاحة هو العجز الذي بات يميز إنتاج عدة مواد أخرى كاللحوم والخضراوات والحليب بعد أن تحقق الاكتفاء الذاتي في مادة الحليب في موفى التسعينات.

وقد صرح وزير الفلاحة يوم الخميس 18 مارس الماضي بمناسبة إعلانه انطلاق الحملة الوطنية للنظافة ومقاومة النفايات البلاستيكية بمنطقة المروج أنه ينتظر أن تكون مؤشرات الصابة هذه السنة أفضل من السنة الماضية معللا نزيف التوريد للمواد الاستهلاكية بالفيضانات لكنه اعترف في الآن ذاته أن البلاد تخصص أكثر من 3 % من الناتج الإجمالي للتوريد الغذائي.

ومن المعروف أن التوريد أصبح يمس إلى جانب الحبوب الطماطم والبطاطا والحليب والبصل واللحوم الحمراء. وأكد الوزير أن النقص في الأبقار بلغ 15 % لذلك تم توريد 12 ألف أراخي من أوروبا والأوروغواي ولن يتم استرجاع الثروة الحيوانية إلا بعد 2006. كما ينتظر أن يستمر توريد الحليب (حوالي 30 مليون لتر) والبصل والبطاطا هذه السنة وربما لسنوات أخرى.

وبدل أن يبحث الوزير عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا العجز المفزع والذي سيستنزف كميات هائلة من العملة الصعبة ويسبب للمواطن ضغطا أكبر على مقدرته الشرائية بما أن أسعار البطاطا زادت بنسبة 100 % ( من 350 مليم إلى 700 مليم للكيلو) وأسعار البصل زادت اكثر من 400 % ( من 250 مليم إلى دينار للكيلو الواحد )، بدل ذلك حمّل الوزير المسؤولية للمواطن قائلا " أن المواطن ساهم عن طريق كثرة الطلب والاستهلاك في تزايد نزيف التوريد " ودعاه إلى ضرورة " ترشيد الاستهلاك لمعاضدة مجهودات الدولة".

إن مثل هذه الحلول الدعائية وتهرّب المسؤولين في الدولة من الإعتراف بما تسببوا فيه من عجز لفلاحتنا لا ولن يساعد البلاد على تجاوز الأزمة الغذائية التي يبقى المواطن والفلاح على حد السواء ضحيتها الأولى.

إن معالجة هذه الحقيقة تستوجب خطة وطنية استراتيجية مدروسة ومعمقة تأخذ في الاعتبار أن فلاحتنا كما هو حال مجمل الاقتصاد التونسي تنبني على المؤسسات الصغرى والمتوسطة وعلى الفلاحين الصغار أساسا. لذلك وجب اليوم مراجعة خطة التنمية الفلاحية عبر إصلاح الوضع العقاري وتوفير أحسن السبل لاندماج الفلاحة بمجمل الاقتصاد وخاصة بقطاع الصناعة مما يعني وجوب تصنيع الفلاحة وتعصيرها وتطوير الصناعات التحويلية والغذائية وتوفير البذور الوطنية لا البذور المستوردة والمعدلة بكيفية لا تساعد على ضمان الاحتياطات الوطنية لإعادة استعمالها كبذور متجددة. كما أنه لا مناص من مساعدة الفلاحين الصغار وذلك عبر مراجعة نظام القروض ونظام التسهيلات وسحب الإجراءات التشجيعية المخصصة للمستثمرين الرأسماليين الكبار ولشركات الإحياء الواردة بمجلة سنة 1993 الخاصة بتشجيع الاستثمار في قطاع الفلاحة.

وقد بينت التجربة أن تشجيع الصادرات الفلاحية دون مراعاة الحاجات الداخلية كان ضرره أكبر من منافعه ذلك أنه أثقل كاهل الميزان التجاري وعمق نسبة التداين الذي يتحمل المواطن في النهاية تبعاتها سواء عبر الترفيع المشط في الأسعار أو عبر الترفيع في الجباية بكل صنوفها المباشرة أو غير المباشرة على الاستهلاك. لذلك بات من الضروري توجيه هذا القطاع أولا لتلبية الحاجات الداخلية ثم بالترفيع من مساعدات الدولة والتعويض على جملة من التكاليف للفلاحين الصغار خصوصا حتى يتمكنوا من توفير مواد قادرة على المزاحمة في الأسواق الخارجية. ومعروف أن مجمل الصادرات الفلاحية الفرنسية والأوروبية مثلا تتمتع بتعويضات كبيرة جعلتها تفرض نفسها في الأسواق العالمية. ولعل التخفيض من سعر الماء ومزيد تعبئة موارده سواء عبر تجهيز البلاد تقنيا للحفاظ على مياه الأمطار أو عبر ترشيد توزيعه وتوجيهه للفلاحة أساسا (لا للمشاريع الترفيهية والخاصة) أو كذلك عبر تطوير تقنية تحلية المياه من أوكد المهمات المطروحة على الدولة.

إن الفوضى التي تميز قطاع الفلاحة والإجراءات الترقيعية والتعويل على كبار الفلاحين أو البرجوازية العقارية أثبتت أن مثل هذا التمشي لا يخدم مصلحة الوطن والاقتصاد والشعب. كما أن تحميل المواطن مسؤولية الأزمة مجانبة للحقيقة وتهرّب من المسؤولية التي تعود رأسا للمتسببين في الأزمة لا للشعب الذي لا يقع تشريكه في رسم الاختيارات وفي تنفيذها ومتابعتها وتقويم نتائجها واتخاذ الإجراءات التعديلية اللازمة. وهنا يتبين لنا أن أسلوب الحكم الذي يقصي الشعب يبقى هو منطلق الأزمة والمسؤول عنها.

وكما أن الشعب عموما مطالب بأخذ هذا الأمر مأخذ الجد لمعالجة كل مظاهر الفقر والبؤس والتعسف التي يعيشها. على جماهير الفلاحين أن يعوا أن نفس الأمر هو المتسبب في فقرهم وفي ضيق حالهم وعجز نشاطهم عن توفير ظروف الحياة الطيبة لهم. وعلى عموم الناس أن يعرفوا أيضا أن من يعمّق عجز مقدرتهم الشرائية عندما ترتفع أسعار اللحم والبطاطا والبصل والخبز وغيرها من مواد استهلاكهم الأساسية إنما هو نظام الحكم القائم الذي يحكم باسمهم دون استشارتهم وينسب لنفسه النجاحات وينشر بينهم الوهم حول نجاحات كاذبة ويحمّلهم المسؤولية في حالة العجز وعندما تفتضح الأمور على حقيقتها وعندما "تقف الزنقة للهارب".

فإلى متى سنظل شعبا يأكل من وراء البحار؟



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني