الصفحة الأساسية > البديل العربي > التعذيب من جوهر الاستعمار والامبريالية
التعذيب من جوهر الاستعمار والامبريالية
15 أيار (مايو) 2004

إن ما كشفت عنه وسائل الإعلام العالمية في الأسابيع الأخيرة من ممارسات وحشية ترتكبها قوات الاحتلال الأمريكية في سجن أبو غريب ببغداد على حساب المعتقلين العراقيين يمثّل شاهدا جديدا على الطابع الامبريالي البربري للحرب التي شنتها الولايات المتحدة بمعية انجلترا على العراق وللاحتلال الذي يمارسانه. لقد نزعت تلك الممارسات المقرفة بشكل نهائي الغطاء الأخلاقي والسياسي الذي حاولت الإدارة الأمريكية اليمينية المتطرفة إلباسه لقرار الحرب وللاحتلال وهو الدفاع عن حقوق الإنسان وعن الحرية والديمقراطية، وأكدت للمرة الألف أن جحافل الجيش الأمريكي-الأنجليزي لم تأت إلى العراق لـ"تحرّر" وإنما لتقتل وتدمّر وتحتل وتسيطر على ثروات البلاد النفطية وتحوّلها إلى قاعدة لتسيير إحكام الهيمنة على كامل المنطقة وتوفير الظروف الملائمة للحليف الصهيوني كي يوغل في تقتيل الشعب الفلسطيني بغاية كسر مقاومته العنيدة وإخضاعه وفرض الحلول الاستسلامية عليه.

وليس ما مارسته وتمارسه قوات الاحتلال الأمريكية في سجن أبو غريب خاصة وفي كامل أنحاء العراق عامة بالأمر الجديد في تاريخ الامبريالية الأمريكية البعيد والقريب، وكذلك في تاريخ غيرها من القوى الامبريالية الاستعمارية. فالعالم يتذكر ما ارتكبته قوات الاحتلال الأمريكية من فظاعات في الفيتنام واللاوس وكمبوديا… كما يتذكر ما ارتكبته المخابرات الأمريكية من جرائم في بلدان أمريكا اللاتينية على مدى عقود عديدة. لقد شكّلت السند الرئيسي للدكتاتوريات العسكرية والبوليسية التي عرفتها تلك البلدان وساهمت بشكل مباشر في تدريب أجهزتها الأمنية على تعذيب المعارضين من الثوريين والديمقراطيين والوطنيين التقدميين. وهو نفس ما حصل في عدد من البلدان الآسيوية مثل أندونيسيا وكوريا الجنوبية والفلبين وغيرها. كما أن أجهزة المخابرات الأمريكية العسكرية والأمنية هي التي درّبت ولا تزال الأجهزة العسكرية والأمنية في معظم البلدان العربية بما فيها تونس وعلمتها وتعلمها "فنون" التعذيب كي تبسط هيمنتها على مجتمعات هذه البلدان وتوفر المناخ الاجتماعي والسياسي الملائم للشركات الاحتكارية الأمريكية كي تنهب الثروات العربية. وليس من الغريب والحالة تلك أن لا تصادق الولايات المتحدة على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وأن ترفض الاعتراف بمحكمة الجزاء الدولية لمعاقبة الجرائم المعادية للإنسانية.

وغير بعيد عن العراق يمارس الكيان الصهيوني الغاصب نفس الفظاعات في معاملته لأبناء الشعب الفلسطيني وبناته، بل إنه من الواضح والمعلوم التعامل الوثيق بين قوات الاحتلال الصهيونية في فلسطين وقوات الاحتلال الأمريكية في العراق لتبادل الخبرات في مجال تعذيب المعتقلين والتنكيل بالسكان المدنيين لإخضاعهم وصدهم عن مقاومة الاحتلال. ولا تزال في الذاكرة ما ارتكبته قوات الاحتلال الفرنسية من جرائم في المغرب العربي وخاصة في الجزائر زمن الاستعمار المباشر وقوات وأجهزة النظام العنصري في جنوب إفريقيا… وفي كلمة فإن التعذيب الوحشي هو من جوهر الاحتلال وهو عنصر أساسي في سلوك المحتلين الامبرياليين وعملائهم من الأنظمة الدكتاتورية وهم يعتمدونه أسلوبا للتخويف والترهيب والإخضاع لتأبيد النهب والاضطهاد في بعديه الطبقي والقومي. وبعبارة أخرى فهو ليس مجرد تجاوزات أو أخطاء فردية كما تحاول الإدارة الأمريكية تسويغ ذلك اليوم لمواجهة موجة الاستنكار العالمي.

وكالمعتاد فقد برزت الأنظمة العربية ومن ضمنها مجلس الحكم الانتقالي صنيع الاحتلال بصمتها عما ارتكب ويرتكب من جرائم في أبو غريب. فلا حكومة واحدة أصدرت بيانا تندّد فيه بتلك الجرائم وتطالب باحترام كرامة العراقيين. وليس من العسير تفسير سلوك الحكام العرب هذا. فهم على بكرة أبيهم يستعملون التعذيب أسلوبا للحكم. ويوميا يموت العشرات إن لم نقل المئات في دهاليز مخابراتهم جراء التعذيب الوحشي. وهم يدركون أنهم لو فتحوا أفواههم حتى من قبيل الديماغوجيا لسدّتها لهم الإدارة الأمريكية بنشر غسيلهم أمام الملأ، بل إننا لا نستبعد أن هؤلاء الحكام تقبلوا ما انكشف من ممارسات همجية في العراق بشيء من الارتياح لأنهم يجدون فيه ذريعة لمطالبة الإدارة الأمريكية بأن تكف عن الضغط عليهم في مجال حقوق الإنسان والحريات كما يجدون فيه وسيلة للتغطية على ما يجري عندهم من فظاعات وتقديمه على أنه أمر عادي ومن ثمة التضييق على نشطاء حقوق الإنسان من جمعيات وأفراد وتشويههم وحتى التنكيل بهم.

وما من شك أن ما تعيشه الشعوب العربية من مهانة ومذلة في ظل الدكتاتوريات التي تحكمها هو من العوامل التي تشجع المحتل الأمريكي على دوس كرامة العراقي خاصة والعربي عامة. وبعبارة أخرى لو كانت كرامة الإنسان العربي مصانة وحريته وحقوقه مضمونة لصعب على المحتل انتهاكها بمثل هذه الفظاعة. تصوروا لو أن ما تعرّض له العراقيون، تعرّض له مواطنون فرنسيون أو سويديون أو ألمان فهل أن الرأي العام في هذه البلدان وحتى الحكومات ستبقى مكتوفة الأيدي؟ تأكيدا لا. ولكن الإدارة الأمريكية تدرك أن الأنظمة العربية الخاضعة لها والتي تحكم شعوبها بالحديد والنار عاجزة عن ردّ الفعل بل حتى عن مجرّد التنديد. ولقد كان للرئيس الأمريكي من الوقاحة ما جعله يهاجم ضمنيا الحكام العرب ويجبرهم على ملازمة جحورهم حين قال معلقا على الجدل الذي أثارته ممارسة التعذيب في أبو غريب في وسائل الإعلام والهيئات الحقوقية وحتى الرسمية الأمريكية:" نحن حين نرتكب تجاوزات نعلنها ونحقق فيها ونعاقب مرتكبيها أما هم فلا يفعلون شيئا من ذلك". أي أنهم يعذبون ويقتلون ولا من رادع أو حسيب. ورغم الطابع الديماغوجي لهذا الخطاب، إذ أن بوش يحاول التملص من مسؤولية الجرائم التي ترتكبها قواته في العراق والتقليل من حجمها وأهميتها وتقديمها على أنها مجرد تجاوزات فردية لا سياسة دولة فإنه يعكس حقيقة ما. ففي الولايات المتحدة توجد وسائل إعلام وهيئات ومؤسسات تفضح الانتهاكات وتحمّل المسؤولية لمرتكبيها مهما كان موقعهم في الدولة. رغم ما تشهده الحريّات في هذا البلد من تضييقات في السنوات الأخيرة ورغم السيطرة الاحتكارية على الإعلام ومؤسسات الحكم. وهذا الأمر غائب تماما في الأقطار العربية بالنظر إلى الطابع الدكتاتوري لأنظمتها التي تمنع حرية التعبير والصحافة وتخضع القضاء وتقيم مؤسسات صورية تشرّع ما ترتكبه من جرائم.

وهذا الحال هو حالنا في تونس مثلا ونحن نحيي في هذه الأيام الذكرى السابعة عشرة لاستشهاد الرفيق نبيل بركاتي تحت التعذيب والتي حوّلتها الحركة الديمقراطية إلى يوم وطني لمناهضة التعذيب. فالتعذيب يمارس في بلادنا بشكل واسع بل إنه أسلوب حكم تعتمده الدكتاتورية النوفمبرية البوليسية لإحكام قبضتها على الشعب وصدّه عن ممارسة حقوقه الأساسية والتمتع بحريته. ولقد أودى التعذيب في عهد بن علي بحياة العشرات من المعارضين السياسيين وخلّف إعاقات نفسية وجسدية للآلاف منهم. وهو لا يزال يمارس إلى اليوم رغم إكثار السلطة من الكلام عن حقوق الإنسان ومصادقتها منذ 1988 على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب. ففي الآونة الأخيرة (8 فيفري 2004) توفي الشاب بدر الدين الرقيعي تحت التعذيب بعد إيقافه في قضية حق عام بسيطة. كما اشتكى شبان جرجيس (معظمهم تلامذة) المحالون أخيرا على المحكمة بتهم ملفقة (إرهاب..) من تعرّضهم لتعذيب وحشي. ويوميا تصل أخبار من السجون تكشف عن ممارسات فظيعة. ومع ذلك لم يحصل إطلاقا أي تحقيق جدي حول ممارسة التعذيب في بلادنا. ولم يكن للقضاء من دور سوى حماية الجلادين وتشريع الإفلات من العقاب.

أما "صحافتنا" فهي لا تقل تواطؤا. إذ لا تكتفي بالصمت على التعذيب بل تشن الحملات التشويهية على نشطاء ونشيطات حقوق الإنسان وعلى الديمقراطيين والديمقراطيات الذين يفضحون تلك الممارسة الوحشية ويطالبون بمحاسبة المسؤولين عنها أمرا وتنفيذا. ولقد كان أحرى بجرائد "الصباح" و"الشروق" وغيرهما أن تبدأ بنشر ما يرتكب من فظاعات في مقرات أمن الدولة والمصالح المختصة وسجون الناظور وبرج الرومي وتونس والمهدية… حتى يكون لحديثها عن سجن أبو غريب شيء من المصداقية.

خلاصة القول، إن ما يرتكب في أبو غريب العراقي على يد قوات الاحتلال الأمريكية يؤكد مرة أخرى تلك الحقيقة التي ما انفكّ حزبنا يرددها وهي أن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان مطلب تحققه الشعوب العربية بذاتها ولذاتها ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون هدية تأتيها على ظهر دبابة المحتل أو منّة من الأنظمة الدكتاتورية والفاسدة التي تحكمها. إن الشعوب العربية بما فيها الشعب التونسي مطالبة بالتعويل على ذاتها من أجل كسب حريتها وإقامة النظام الديمقراطي المنشود الذي يمكّنها من ممارسة سيادتها. فلا حرية ولا كرامة ولا ديمقراطية في ظل الاحتلال. ولا حرية ولا كرامة ولا ديمقراطية أيضا في ظل أنظمة الدكتاتورية والفساد والعمالة. فالمجد للمقاومة في العراق وفلسطين. والمجد لكل الأحرار نساء ورجالا في الوطن العربي الذين يقاومون الدكتاتورية ويرسمون بدمائهم ملامح وطنٍ حر، ديمقراطي، مستقل وتقدمي.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني