الصفحة الأساسية > بديل الشباب > البطالة في تونس: ليتحمل الأزمة المتسببون فيها
البطالة في تونس: ليتحمل الأزمة المتسببون فيها
5 نيسان (أبريل) 2004

مما لا شك فيه أن الاختيارات الاقتصادية المتبعة في تونس هي اختيارات رأسمالية تخدم مصالح أقلية طبقية جشعة. وهذه الأقلية هي التي رسمت، وفقا لمصالحها الخاصة، توجهات الدولة منذ انتصابها سنة 1956. وعلى اعتبار أن هذه الاختيارات هي اختيارات رأسمالية فإنها لا تلبي مشاغل كل المجتمع، بل مشاغل جزء ضئيل منه. أما الأغلبية فلا نصيب لها سوى بيع قوة عملها وتسخير كل جهدها "لتنمية اقتصاد" ليس في خدمتها. إن نصيب عموم الشعب من الثروة هو نصيب "الداخل في الخسارة والخارج من الربح". فالشعب مطالب دائما بتحمل تبعات برامج لم يعط رأيه فيها ولم يقررها. فعندما يتعلق الأمر برسم التوجهات والسياسات العامة والخصوصية للدولة فإن الشعب بفعالياته المختلفة، أحزاب وجمعيات ونقابات وكفاءات، مغيب دائما. فالبرلمان الصوري عُيّن كل أعضائه (بدون استثناء) لتزكية، (وبالإجماع دائما) "ما يأتي من فوق". والوزراء والمجالس والهيئات وكل الهياكل المعنية لا دور لها سوى التطبيق الحرفي لما يصدر لها من تعليمات وأوامر. وهنا لا بد من ملاحظة أن الأوامر والتعليمات في الحقيقة لا تصدر عن الدولة ذاتها بل عن راسمي توجهات الدولة وهم "سادة العالم" في الصناديق المالية وكبريات الاحتكارات التي تحدد توجهات الدول التابعة وتملي عليهم برامجها.

إن البرنامج العام للدولة في تونس والمسمى زيفا "برنامج الإصلاح الهيكلي" والمطبق في بلادنا منذ سنة 1986 لم يحقق لتونس سوى مزيد من التبعية ويؤشر لذلك حجم المديونية التي ناهزت 16 مليار ونصف سنة 2001 أي 1800 دولار لكل مواطن. ولم تحقق لشعب تونس سوى مزيد من الفقر ومزيد من الحرمان، فرغم تغنّي الدولة بـ"النجاح الباهر" و"السياسة الحكيمة"… التي يؤكدها "السلم الاجتماعي" و"الأمن والأمان"…، فالواقع له رأي آخر. فنسبة النمو التي ناهزت الـ5% حتى مشارف أحداث 11 سبتمبر 2001 والتي شكلت مجالا دعائيا في خطاب السلطة المسوّق خاصة للخارج والمؤكد لتميز "المعجزة التونسية". هذا الرقم الذي لم يتحقق بتوجهات اقتصادية سليمة وكذلك هو دون الـ7% المطلوبة من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، لم يحقق شيئا للناس علما وأنه نزل سنة 2002 إلى 1,7% فقط. فتطهير المؤسسات وطرد العمال هو بصدد التضاعف. والمقدرة الشرائية للمواطن لم تشهد تدهورا كالذي عرفته في عهد بن علي وخاصة في العشرية الأخيرة. وهي نتيجة منطقية لتحرير الأسعار وتجميد الأجور. إن المواطن العادي أصبح يعي أن سبب فقره وبؤسه هو توجهات الدولة بعد أن أدرك أن لا شيء، مثلا، يجعل بعض المواد الفلاحية مثل الحليب والغلال والخضر تطير أسعارها وتختفي أحيانا من السوق في "عام الصابة"!

أما الجانب الآخر الذي يسفه دعاوي السلطة فهو اتساع رقعة البطالة التي نرى أن حجمها يعكس دائما حالة الاقتصاد. ففي تونس تقول الإحصائيات الرسمية أنها في حدود 15,4% في سنة 2003 والواقع أنها أكثر من ذلك بكثير وهي في تقدير العديد من الاقتصاديين في حدود 25% أو 30%. فالدولة عودتنا على نشر أرقام مغلوطة وخاصة في شأن مثل البطالة التي تحدد نسبتها وفقا لعدد الأشخاص المسجلين في مكاتب التشغيل وهم في كل الحالات ليسوا كل العاطلين. فنسبة كبيرة منهم لا تتجه لهذه المكاتب، ثم إن المشتغلين في أعمال وقتية (هشة) أو موسمية (وهي كثيرة خاصة في الفلاحة والخدمات) وكذلك المسرحين من مؤسساتهم وفقا "لاتفاقات" هزيلة لا تضمن تعويضات دنيا للعمال، كل هؤلاء غير مدرجين في النسبة العامة للعاطلين عن العمل. وحتى إن سلمنا بالرقم المعلن من قبل الدولة، فإنه في كل الحالات رقم مرتفع ويعني أن أكثر من مليون ونصف تونسي يعيشون وضعا اجتماعيا صعبا. فالبطالة كما يحددها علما الاجتماع والنفس هي من أسوأ ما يمكن أن يعيشه الفرد. فالبطال هو قوة معطلة وعنصر مغيب ومحروم من حقه في إنتاج الثروة، مما يعني أنه يعيش عالة على عائلته وعلى المجتمع. فالعاطل هو ضحية سياسة اقتصادية اقتضت تهميشه.

على أن اتساع رقعة البطالة وضيقها إنما يؤشر في الحقيقة بسلامة التوجهات أو فسادها. أو بلغة أخرى أن البطالة تعكس العمق الاجتماعي لأي سياسة اقتصادية إن كانت شعبية، أي في خدمة عموم الشعب أو عكس ذلك، أي في خدمة حفنة من أصحاب الامتيازات الطبقية وهو حال الاقتصاد في بلادنا. فالبرامج المتعبة لم ولا ولن تفرّخ إلا أعدادا متضاعفة من العاطلين. فبرنامج الخراب الاقتصادي المتبع والذي يقوم على التفويت في القطاع العام إلى القطاع الخاص والتخلي "التدريجي" عن الدور الاجتماعي للدولة (أي التخلي عن "القطاعات غير المنتجة" كالتعليم والصحة والسكن) والتحرير المطلق لكل حيثيات الحياة الاقتصادية وصولا بها إلى إلغاء "الحماية القمرقية" سنة 2008 التزاما بتعليمات منظمة التجارة الدولية واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأروبي، مما يعني مزيد دهورة الوضع الاجتماعي ومزيد ضرب "المكاسب" التي حققها الشعب مثل تفكيك القطاع العام وتخلي الدولة عن كل دور اجتماعي.

الضريبة أو الوجه الآخر لهذه التوجهات هو رمي آلاف جديدة من أبناء الشعب وقواه العاملة إلى صفوف المهمشين وجيش احتياط الاقتصاد الرأسمالي التابع والمتباين بصفة كلية ومطلقة مع طموحات الشعب وحقه في حياة كريمة، هذه الحياة التي يمثل الحق في الشغل ركنها الأساسي والجوهري والذي بدونه لا يمكن الحديث عن كرامة وما شابه ذلك بل لا يمكن الحديث عن حياة أصلا.

لقد أصبحت البطالة اليوم تهدد الجميع، ليس عديمي التأهيل المهني وغير الحاصلين على شهائد، بل الجميع بمن فيهم العمال المرسمون منذ عشرات السنوات وذلك بفعل "التأهيل الشامل" الذي يقوم مثل برنامجه الأم على تطهير المؤسسات، أي طرد نسبة من العمال مع مضاعفة الإنتاج تطبيقا لنظرية "النجاعة" و"تطوير مساهمة المؤسسة في خدمة الاقتصاد الوطني..إلخ". كذلك تطال البطالة أعدادا متزايدة من عاملات وعمال مؤسسات 72 التي كثيرا ما يهرب صاحب المعمل الأجنبي ويترك العمال "في التسلل" وهم الذين لم تُجعل القوانين لحمايتهم فيعتصمون ويضربون عن الطعام ليحصلوا في النهاية على "تعويضات" زهيدة لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تعوّض شيئا عن "العمر الذي راح" في خدمة رأس المال الطفولي والأجنبي. وتلحق البطالة أعدادا كبيرة من عمال القطاع العام وموظفيه خاصة حين يقع التفويت في المؤسسة للخواص.

إن البطالة تشكل اليوم طاعونا مستشريا، يهدد ويمس الجميع. إن الدولة تتستر على الأرقام الحقيقية الخاصة بالبطالة. فلا أحد يعرف اليوم عدد المسرحين وعدد عمال المناولة وعدد خريجي الجامعة..إلخ. الجميع في تونس يعلم أن الدولة تتلاعب بهذه الأرقام لغايات سياسية خدمة لمصالحها الضيقة.

كما أن تعريف العاطل يخضع هو الآخر لاعتبارات سياسية تصب في اتجاه التقليص من عدد العاطلين. فلا يتم احتساب الذين يشتغلون في غير اختصاصاتهم، مثل الذين اضطروا للعمل في مهن لا تتماشى مع مستوى شهائدهم وبأجور أدنى بكثير من التي تعادل هذه الشهائد. ولا يقع احتساب الذين وقع إدراجهم ضمن ما يسمى "المنتفعين بقروض 21/21 و26/26 وبنك التضامن..إلخ" أو المدرجين ضمن قائمة "الإعداد للحياة المهنية"… كما لا يتم احتساب العاطلين غير المسجلين في مكاتب التشغيل. لهذا فإن الأرقام الرسمية حول البطالة لا تعكس الحقيقة وبعيدة كل البعد عن العدد الحقيقي.

ولا يخفى على أحد في تونس أن الحصول على شغل لا يعتبر حقا بل امتيازا يخضع للحسابات السياسية والجهوية ولأفكار وميولات الباحث عن شغل. حيث يتم حرمان كل من يشتم فيه "رائحة معارضة للنظام" من الشغل حتى وإن نجح في مناظرة أو تحصل على شغل بمجهوده الفردي. ولا يطال ذلك ذوي "السوابق السياسية" أو المدرجين ضمن قائمة "المغضوب عليهم" فحسب بل يطال أيضا أقرباءهم وأصدقاءهم وكل من لهم صلة بهم. وأكبر مثال على ذلك المئات الذين تم إقصاؤهم من النجاح في مناظرة "الكاباس" بعد وصول "فيتو" من البوليس السياسي، فضلا عن خضوع هذه المناظرة كغيرها من المناظرات لقانون "الأكتاف والرشاوي". ولا ننسى أيضا الذين تم طردهم من العمل بعد تدخل جهاز البوليس للضغط على مشغليهم.

نفس الشيء بالنسبة للقروض التي تخضع لنفس المقاييس التي ذكرناها سابقا. حيث يشترط في صاحب المطلب أن يكون منخرطا بـ"التجمع" وأن يتدخل لفائدته أحد الوسطاء المعروفين بولائهم للحزب الحاكم. وحتى الذين تمكنوا من الحصول على هذه القروض فإنهم يواجهون صعوبات كبيرة في إنجاح مشاريعهم الصغيرة في ظل نظام اقتصادي يمتاز بسيطرة أقلية مافيوزية على كل دواليبه ولا يمكن للحيتان الصغيرة فيه التحرك خارج الأفواه المفتوحة للحيتان الكبيرة المحكومة بقانون البحار: "حوت ياكل حوت وقليل الجهد يموت".

إن الدولة الرأسمالية تتمعش من مآسي شعبها وتستبلهه من خلال تحويل بعض المآسي إلى "تجارب حية" وُجب الاقتداء بها. فكم من أستاذ فلسفة تحوّل إلى مربي نحل بإمكانيات بدائية وبسيطة، وكم من أستاذ رياضيات اختص في تربية "الدجاج العربي" وكم من مختص في العلوم الإنسانية حوّل وجهته نحو الأسواق الأسبوعية لبيع الملابس الداخلية..إلخ. دون أن ننسى من أجبرتهم الخصاصة وانسداد الأفق على الانحراف بدءا بالإدمان على ارتياد المقاهي وقتلِ الوقت في سيجارة أو في قارورة خمر إذا توفّر ثمنها، وصولا إلى ارتكاب بعض المخالفات التي قد تؤدي بهم إلى السجن مثل التحيّل والمتاجرة في الممنوع وحتى السرقة..إلخ.

إنها وضعية مئات الآلاف من أبناء شعبنا التي تعاني الويلات من أجل الحصول على "حق قهوة" أو "باكو حلوزي"… بعد أن أصبح التفكير في الزواج وبناء أسرة حلما مستحيلا. ويشمل ذلك عشرات الآلاف من أصحاب الشهائد الذين يمثلون نخبة البلاد المتعلمة والمثقفة والتي صُرفت من أجل تكوينها آلاف المليارات. إن البطالة، وخاصة منها بطالة أصحاب الشهائد، هي نكبة وطنية تتحمل مسؤوليتها السلطة الرجعية المعادية لمصالح الشعب، إن هذه المسألة يجب أن تتحوّل إلى هم شعبي عام. فالقضية تعني الجميع وأغلب العائلات التونسية لها عاطل على الأقل. وكل عاطل وراءه عائلة فقيرة تنتظر حصوله على شغل وعلى "شهرية" من شأنها "القضاء على الفقر" وإعانتها على توفير مستلزمات الحياة في ظل الارتفاع المهول والمطرد لتكاليف المعيشة.

لا مفر اليوم من أن يأخذ العاطلون عن العمل، وخاصة أصحاب الشهائد منهم باعتبارهم الأكثر وعيا بالمسألة، مصيرهم بأيديهم وينظموا المعركة: معركة الكرامة من أجل إبلاغ صوتهم والدفاع عن حقهم في الحياة.

إن البطالة ستظل عارا يلاحق الدكتاتورية البنعلينية. والمعركة حولها هي معركة الحق في الحياة الكريمة. إن الآلاف من العاطلين مجبرون اليوم على تنظيم صفوفهم والدفاع عن حقهم المصادر، حقهم في الحياة وحقهم في الوجود. ولنرفع جميعا شعار: ليتحمّل الأزمة المتسببون الحقيقيون فيها.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني