الصفحة الأساسية > البديل الوطني > العفو التشريعي العام مطلب ملح (1)
العفو التشريعي العام مطلب ملح (1)
16 آذار (مارس) 2006

أمام حالة الانغلاق التام والقمع المتواصل وخنق الحرية على المكشوف في تونس ترتفع يوما بعد آخر أصوات الديمقراطيين والمناضلين السياسيين والهيئات والمنظمات الحقوقية في الداخل والخارج مطالبة السلطة التونسية بإطلاق سراح المساجين السياسيين وسنّ عفو تشريعي عام يستجيب لمتطلبات الواقع السياسي الحالي لبلادنا بعد المآل القاسي الذي عاشه ولازال الكثير من التونسيين والتونسيات طيلة حقب متتالية في ظل الهيمنة القمعية للحزب الحاكم على دواليب البلاد والعباد على امتداد ما يقارب الخمسين سنة متتالية دون انقطاع. ترتفع هذه الأصوات مدعومة بجميع الشرفاء والأحرار في العالم عاليا مطالبة السلطة بوضع حدّ لسنوات طويلة من القهر والقمع والمصادرة الذي تعرض له الآلاف من المناضلين السياسيين من مختلف التيارات والقوى والأحزاب السياسية التي عرفتها بلادنا.

أمام هذا الواقع المشترك الذي تقاسم ضيمه أغلب التونسيين صار العفو التشريعي العام يشكل أحد أهم المطالب الأساسية التي رفعتها وترفعها إلى الآن الحركة الديمقراطية قبل انقلاب 7 نوفمبر وبعده باعتبار وأن هذا الاستحقاق المطلبي يمثل جزءا مهما جدا من معركة أكبر وأوسع ألا وهي معركة فرض وترسيخ الحريات السياسية ببلادنا وجعل نتائجها وأبعادها تمس أوسع الفئات الشعبية المغيبة حاليا من ساحة العمل السياسي العام بفعل تفشي حالة الخوف والريبة التي مهدت للدكتاتورية المجال لمواصلة بسط هيمنتها ونفوذها على البلاد.

إن سنّ قانون العفو التشريعي العام لا يمثل مطلبا انعزاليا لحزب دون آخر (باستثناء طبعا الحزب الحاكم وأحزاب الديكور التي تدور في فلكه)، فهذا المطلب شكل منذ نهاية الستينات وباستمرار مطلبا جامعا وملحا لكل أطياف الحركة الديمقراطية ببلادنا باعتباره يهم آلاف التونسيات والتونسيين ممن اضطهدتهم السلطة على امتداد سنوات طويلة. وفي هذا الإطار نكاد نجزم بأنه لم تخل مدينة أو قرية تونسية من وجود مساجين سياسيين بين متساكنيها كما يندر جد أن تمر سنة واحدة لا تنظّم خلالها السلطة محاكمة حتى لا نقول محاكمات ذات خلفية سياسية. وفي غياب تعددية الآراء عشنا تعددية المحاكم التي ابتدعتها السلطة القائمة بدأ بالمحكمة العليا والمحكمة الشعبية والمحكمة العسكرية والمحاكم العادية و صولا إلى محكمة أمن الدولة الذائعة الصيت. لقد هيمنت تبعا لذلك المحاكمات بسبب الآراء والأفكار والأنشطة الفكرية والنقابية والسياسية على المشهد السياسي لبلادنا عبر مسار تاريخها الحديث وأضحت مثل هذه الممارسات ظاهرة مميزة لحكومات ما بعد 1956 حيث اختارت السلطة من بورقيبة لبن علي نهجا تصاعديا معاديا للحريات والديمقراطية فتعددت الإيقافات التعسفية وحملات التعذيب ومورس القمع الفاضح وتكررت المحاكمات غير العادلة وزج بالجهاز القضائي في قضايا تهم تصفية الخصوم السياسيين. وطالت التضييقات عائلات المساجين و أقاربهم في تشابه تام مع ما كانت تقوم به القوى الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية وكل الدكتاتوريات العسكرية التي هيمنت في أمريكا اللاتينية واليونان وإسبانيا والبرتغال خلال عقود.

1 - لماذا العفو التشريعي العام؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال نقول أن النص القانوني للعفو التشريعي العام في القانون التونسي (مجلة الإجراءات الجزائية) ينص في الفصل 376 على أن (العفو العام يمنح بقانون، وتمحى به الجريمة مع العقاب المحكوم به) ويضيف الفصل 377 (ما وقع العفو فيه يعتبر كأن لم يكن). وهو يصدر بقانون صادر عن السلطة التشريعية ممثلة في مجلس النواب خلافا للعفو الخاص أو السراح الشرطي الذي تصدره السلطة التنفيذية . وهو في حال اتخاذه يوقف التتبعات ويعيد الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية بما في ذلك حق الشغل للمتمتع به. بهذا المعنى يشكل العفو العام آلية تمحي الجريمة والعقاب الأصلي والتكميلي من السجل العدلي وتمكّن المتمتعين به من استعادة حقوقهم المدنية والاجتماعية المشروعة وحقهم في التعويض الكامل عمّا تعرضوا له من ظلم وتعسف، وكشف جميع الخلفيات التي تمت في إطارها جميع المحاكمات السياسية وانتهاكات حقوق الإنسان. إن الحق في ردّ الاعتبار للضحايا يعني حقهم الطبيعي في تتبع من يثبت اقترافه جريمة التعذيب المادي والمعنوي أمرا وتنفيذا أو سكوتا عليه بما يضع حدّا للإفلات من العقاب وهو الشكل الذي ساد بشكل واسع وكلي بلادنا طيلة حقب واسعة من حكم الحزب الدستوري. بهذا المعنى فإن العفو العام المطروح اليوم باعتباره مهمة ديمقراطية للإنجاز لا يعني البتة "الصفح" و"الغفران" على أناس ("أخطأوا" بل يعني رد الاعتبار لمواطنات ومواطنين مارسوا حقوقهم الأساسية وقُمِعوا ظلما وتعسفا. لقد أضحى العفو التشريعي العام أمام كمّ وحجم المحاكمات التي شهدتها بلادنا وتضخم عدد المحاكمين وتعرضهم لعديد الأضرار التي طالتهم وعائلاتهم طيلة سنوات الجمر مطلبا ملحا للقوى الديمقراطية، وضرورة قصوى لا تنتظر التأخير باعتبار وأن العفو العام هو الكفيل وحده بإنهاء الأحكام التي صدرت ضد آلاف التونسيات والتونسيين الذين لفقت ضدهم القضايا أو انتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب أو لم تتوفر لهم شروط المحاكمة العادلة التي اقترنت بسياسة سجنية وعقابية تعتمد التنكيل واللاإنسانية كما تبعت بإجراءات تضييقية بعد قضاء العقوبة والخروج من السجن.

(يتبع)



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني