الصفحة الأساسية > بديل الشباب > فشل الإصلاحات الفوقية للمنظومة التربوية
فشل الإصلاحات الفوقية للمنظومة التربوية
كانون الأول (ديسمبر) 2009

خضعت برامج التعليم (بمختلف مراحله) في تونس خلال الـ20 سنة الماضية إلى سلسلة طويلة ومتوالية الحلقات من "برامج الإصلاح" كانت سبقتها حملات دعائية تبريرية متشابهة العناوين رددت وكررت نفس الشعارات وبشرت بنفس الأهداف وتم تمريرها تحت ما يسمى في كل مرة بـ"استشارة" وطنية لا تتوفر فيها أبسط مقومات الاستشارة.

ويلاحظ المتتبع لخصائص السياسة التعليمية المتبعة في بلادنا أن كل تحوير يجري على رأس وزارة التربية والتكوين أو التعليم العالي إلا ويحمل معه "برنامجا إصلاحيا" جديدا. ويمكن أن نعدد على سبيل المثال لا الحصر برنامج الشرفي لإصلاح التعليم العالي في بداية التسعينات ثم برنامج إصلاح الإصلاح لصاحبه أحمد قريعة وبرنامج "إمد" الحالي في التعليم العالي وبرامج كل من حاتم بن عثمان والصادق القربي والوزير الحالي في التعليم الثانوي والأساسي.

وتجري اليوم "استشارة" وطنية جديدة لإصلاح برنامج التعليم الأساسي، ذكرت وزارة التربية أنها شملت السنة الماضية 60 ألف مربي. وأعلن وزير التربية في الندوة الصحفية التي نظمها عند افتتاح السنة الدراسية الجارية أنه سيقع توسيعها لتشمل كل الأطراف ذات العلاقة بملف التربية وكذلك الأطراف الاجتماعية مشيرا إلى أنه من المفترض أن تنتهي مع موفى شهر ديسمبر الجاري على أن يقع العمل بنتائجها ابتداء من السنة الدراسية المقبلة 2010/2011 مؤكدا على أنها ستستهدف مراجعة نظام المقاربة بالكفايات، في اعتراف غير معلن بفشل هذا النظام، وباتجاه العودة لنظام التقييم القديم.

وقد خلفت هذه التصريحات ارتياحا كبيرا في أوساط المربين والتلاميذ والأولياء وازداد الارتياح أكثر بصدور منشور الوزير المؤرخ بـ29 أكتوبر 2009 والذي نصّ أساسا على:
- تغيير اسم "ملف التقييم والمتابعة" بدفتر النتائج المدرسية واعتماد الرتبة لدلالتها الإخبارية وقيمتها التشجيعية مع عدم التنصيص على الكفايات في جميع المواد باعتبارها معلومة لا تهم إلا المدرسين.
- العودة لإدراج بعض المواد التي تم حذفها من قبل وهي قواعد اللغة والمحفوظات والإملاء عربية وفرنسية.
- مراجعة نظام الارتقاء بما يجيز مجددا إمكانية الرسوب لكل تلميذ معدله دون 9/20 مع اعتماد نفس شروط الإسعاف المعمول بها الآن.
- مراجعة سلم إسناد الشهائد والجوائز.

وقد شدد الوزير في منشوره على ضرورة تطبيق هذه التعديلات بكل دقة. وبناء على ذلك تجند مديرو المدارس الابتدائية لشراء ملفات التقييم الجديدة وراح المسؤولون الإداريون يشرحون فوائد هذه القرارات وانطلقت الاجتماعات التحسيسية بممثلي الإدارات الجهوية ومجالس التفقد والمديرين والمربين وحتى الأولياء. لكن وفيما كان ذلك يجري في جوّ من الارتياح و"المباركة" بوغت الجميع بصدور منشور جديد ممضى من رئيس ديوان الوزير أعلن إبطال المنشور السابق ونادى بالاستمرار في العمل بنظام السنة الماضية دون تغيير على أن يقع إرجاء أيّ تغيير إلى السنة المقبلة. ولم يقدم هذا المنشور الجديد أي تفسير مقنع لهذا التراجع عدا ما أشير به على المديرين الجهويين بإصدار مناشير جهوية غير متجانسة المحتوى تلتقي كلها في أن سبب التراجع هو بغاية الانخراط في البرنامج الرئاسي "لرفع التحديات". وهو ما يعني أن برنامج "الإصلاح: لا ينبع في الحقيقة من توصيات ومقررات "الاستشارة" الوطنية بقدر ما يخضع "للبرنامج الرئاسي لرفع التحديات".

وكما هو بيّن من هذه القرارات المتضاربة فإن ما يميز سياسة الدولة في مجال حساس كمجال التعليم هو الاضطراب وغياب الوضوح من جهة واستناد هذه الخيارات لا لمقررات الاستشارات المزعومة وإنما لسياسة إصلاحات فوقية. فنظام المقاربة بالكافايات تم فرضه على المعلمين والأساتذة والأولياء والتلاميذ دون أن تقع استشارتهم فيه. وهو مفهوم أن مبرر فرض هذا النظام كان الإملاءات الأجنبية المصاحبة للتمويلات التي تلقتها الدولة لتنفيذه رغم الاعتراضات الجدية لا فقط على طرق ومناهج تطبيقه بالنظر للإشكاليات التي يثيرها بل وكذلك على غاياته وأهدافه والنتائج السلبية التي أدى إليها.

واليوم وقد أثبت بما لا مجال للشك فيه وباعتراف الدولة نفسها فشل هذا النظام وعدم تلاؤمه مع البيئة التربوية الخصوصية لمدرستنا وتلاميذنا فإن القائمين على نظام التعليم مستمرون في التهرب من إجراء عملية تقييم حقيقية واستشارة فعلية حول هذا النظام وبالمقابل يلجؤون إلى عمليات ترقيع جزئية وغير مدروسة عبر استصدار مناشير ومناشير مضادة.

إن أسلوب الارتجال الفوقي لإجراء هذه "الإصلاحات" الانتقائيـة لا يمكن أن يعالج الأزمة العميقة والخطيرة التي بات عليها نظام التربية والتعليم في بلادنا. كما أن أي إصلاح سيستند إلى الاعتبارات السياسية البحتة وإلى الارتباطات بدوائر التمويل الأجنبي ولا يضع في الاعتبار المصلحة العليا لمستقبل البلاد الذي يمر عبر مصلحة الناشئة مآله سيكون الفشل ولا شيء غير الفشل.

لكن لا شيء يؤشر اليوم على أن الدولة مقتنعة بهذه الحقيقة ومستعدة للاستجابة لما باتت كل الأطراف ذات العلاقة بالملف التربوي مجمعة عليه ألا وهو حوار وطني حقيقي ومحايد ومستقل عن إرادة "الإدارة" يشرّك الأساتذة والمعلمين والتلاميذ والأولياء والكفاءات والخبراء البيداغوجيين المستقلين من أجل مراجعة البرامج، مضمونا ومناهج وكذلك سبل التمويل والتنظيم والبنية التحتية ومكانة رجال التعليم وظروف حياتهم وعملهم في كل جوانبها المادية والمعنوية.

إن إصلاح منظومة التربية اليوم لا يمكن أن يتم إلا في صلب عملية ديمقراطية حرة.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني