الصفحة الأساسية > كتب ومنشورات > الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا (في الردّ على بيان مواعدة/ الغنّوشي) > في علاقة الدّين بالدّولة
الأدنى الدّيمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا (في الردّ على بيان مواعدة/ الغنّوشي)
في علاقة الدّين بالدّولة

مثّل الموقف من علاقة الدّين بالدّولة وبالسّياسة عامّة قضيّة مركزيّة في الخلاف بين القوى الدّيمقراطيّة من جهة، و"حركة النّهضة" من جهة ثانية. فقد دأبت حركة النّهضة منذ نشأتها على إدراج هذه القضيّة في إطار الموقف من "الهويّة" وعلى هذا الأساس اعتبرت أنّ الرّبط بين الدّين والدّولة بما ينجرّ عن ذلك من انعكاسات فكريّة وسياسيّة وتشريعيّة واجتماعيّة، ضروري لـ"الحفاظ على هويّة البلاد". ومن هذا المنطلق عُدّت المناداة بالفصل بين الدّين والدّولة أي بالعلمانيّة (اللاّئكيّة) "مؤامرة" على تلك الهويّة. وقد دأب حزب العمّال منذ نشأته على رفض طرح هذه القضيّة بهذه الطّريقة معتبرا أنّ ذلك ينحرف بالنّقاش إلى إطار غير إطاره. فالإطار الذي تطرح فيه قضيّة علاقة الدّين بالدّولة، ليس إطار "الهويّة"، إنّما هو إطار الحرّيات والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان. وقد بيّن أنّ هذه القيم لا يمكن أن تتحوّل إلى جزء لا يتجزّأ من المبادىء والتّشريعات التي تقوم عليها الدّولة إلاّ إذا اعتبرنا السّياسة (والدّولة هي المؤسّسة السّياسيّة بامتياز) مجالا دنياويّا تتصارع فيه الآراء والبرامج والمشاريع وفقا للمصالح التي تدافع عنها كلّ مجموعة في هذه المرحلة أو تلك من مراحل تاريخ البلاد. ولا يمكن أن يكون المعيار في هذا الصّراع السّياسي، "الكفر والإيمان" بل ما يصلح للشّعب والطّبقة وما لا يصلح لهما، ما يقدّم المجتمع وما يتركه ضحيّة للتّخلّف إلخ... وحتى يكون للجميع حقّ المشاركة في الحياة السّياسيّة أي في إدارة شؤون المجتمع وبالتّالي "الحقّ في الدّولة" لا بدّ من الإعتراف لهم كحدّ أدنى بحرّيتهم وحقوقهم الأساسيّة وبالمساواة بينهم على قاعدة مبدأ المواطنة الذي لا يعير اهتماما لمعتقدهم أو مذهبهم الفكري أو جنسهم أو مركزهم الاجتماعي أو انتمائهم السّياسي.

لقد اعترض حزب العمّال على ربط الدّين بالدّولة بناء على هذا الموقف، لأنّ الدّين يحيل في وعي النّاس على "المقدّس". وإذا ارتبط "المقدّس" بالدّولة، كما حدث في التّاريخ وكما يحدث إلى الآن في عدد من الأقطار العربيّة والإسلاميّة التي تحكمها عائلات فاسدة ومستبدّة، فهويضفي عليها وعلى مؤسّساتها وتشريعاتها وممارساتها وعلى الأشخاص القائمين عليها (أي الحكّام) طابعا قدسيّا، فيصبح نقدهم أو معارضتهم أو المطالبة بتغييرهم وتغيير النّظام والتشريعات المعمول بها "كفرا" و"خروجا عن الدّين". وهكذا يتحوّل الدّين إلى سلاح بيد الأقلّيات الحاكمة لتشريع القهر وحرمان المواطنين من أبسط حقوقهم ومن إدارة شؤونهم بأساليب وعبر آليات ديمقراطيّة يعود إليهم حقّ تقريرها بأنفسهم ووفقا لمصالحهم. وبتعبير آخر وما دمنا نتحدّث عن تونس، فإنّ القهر الذي يمارسه بن علي اليوم باسم "المصلحة العليا للوطن" يصبح في دولة الغد الدّينيّة (التّيوقراطيّة) يمارس بأغلفة غيبيّة أي أنّ الجوهر القمعي -الدّكتاتوري للدّولة لا يتغيّر، بل تتغيّر طريقة تسويغه أو تشريعه فقط. فيترك التّخوين مكانه للتّكفير. وإذا كان بن علي قد وضع نفسه اليوم للاستبداد بالشّعب في مركز من يمثّل الوطن وينطق باسمه بل ويتماهى معه، فإنّ طاغية الغد، المتجلبب بجلباب الدّين، سيضع نفسه في مركز من يمثّل اللّه في الأرض وينطق باسمه.

ولسائل أن يسأل إذا خرج الدّين من حيّز السّياسة في معناها العامّ وانفصل عن الدّولة فماذا سيكون مصيره؟ وماذا سيكون مصير المؤسّسات والجمعيات الدّينيّة؟ إنّ الجواب بسيط جدّا. فالدّين يخرج من ذلك الحيّز ليدخل الحيّز الشّخصي فيصبح جزءا لا يتجزّأ من الحرّية الشّخصيّة التي يضمنها القانون ويحميها من الانتهاك سواء كان مصدره الدّولة أو أطرافا من المجتمع. أمّا المؤسّسة الدّينيّة فهي مثلها مثل الجمعيات والتّنظيمات الدّينيّة الأخرى تتحوّل إلى جزء لا يتجزّأ من المجتمع المدني وتستمدّ شرعيتها من مبدأ الحرّيات العامّة التي يضمنها القانون ويحميها أيضا. وهي بهذا المعنى تخضع كما يخضع غيرها من الجمعيات والتّنظيمات والمؤسّسات لسلطة القانون الذي لا يقيّد نشاطها بأيّ قيد عدا احترام حرّية المواطنين وعدم النّيل من حقوقهم أو التّسلّط على ضمائرهم.

إنّ العلمانيّة بهذا المعنى. وهو معناها الصّحيح، بعيدة كلّ البعد إذن، عن المعنى المبتذل الذي يلبسه لها بعض الجهلة والدّجالين الذين يروّجون أنّها مرادف "لقمع الدّين والمتديّنين" و"لانتهاك الهويّة" و"لسيادة الفساد وغياب الضّوابط الأخلاقيّة". إنّ العلمانيّة لا تعدو ان تكون وسيلة لتنظيم التّسامح داخل المجتمع وفرض احترام الغير، بما فيه احترام عقيدته، كواجب مدني، والنّظر إليه كمواطن عوض النّظر إلى عقيدته أو مذهبه أو جنسه لتحديد ما إذا كان أهلا للتّمتّع بحرّيته وحقوقه أم لا. وهي أيضا وسيلة لتكريس مبدأ سيادة الشّعب في مختلف أبعاده. فحزب العمّال إذن حين طرح ولا يزال يطرح ضرورة الفصل بين الدّين والدّولة أو إن شئنا علمنة الدّولة فإنّما فعل ويفعل ذلك لسدّ الباب أمام مواصلة اضطهاد التّونسيّين باسم الدّين ولإتاحة الفرصة لهم كي يتمتّعوا بحرّيتهم وكافّة حقوقهم التي حرموا منها إلى حدّ الآن بذرائع مختلفة.

وخلاصة القول إنّ العلمانيّة لا تُضرّ إطلاقا بالتّونسي المؤمن في إيمانه، بل إنّها تمثّل طريق عبوره إلى الدّيمقراطيّة إذ هي تخوّل له من ناحية أن يمارس معتقده في إطار حرّيته الشّخصية، دون ضغط أو إكراه من الدّولة أو من أيّ طرف آخر ومن ناحية ثانية أن يساهم في الحياة العامّة مساهمة فعّالة وهو يتمتّع بكافة حقوقه دون ميز بسبب معتقده أو مذهبه أو جنسه أو انتمائه السّياسي. وبشكل عام فإنّه لا يوجد أيضا أيّ تناقض بين أن تكون أغلبيّة المجتمع السّاحقة مؤمنة والدّولة علمانيّة. فعلمانيّة الدّولة لا تلحق أيّ ضرر بإيمان الأغلبيّة، بل على العكس من ذلك فإنّها تحميها من تسلّط بعض الأقلّيات من داخلها لتفرض عليها تصوّرا معيّنا لممارسة إيمانها، علاوة على كونها تحمي أيّة أقلّية سواء كانت هذه الأقلّية لا تؤمن أو تنتمي إلى عقيدة أخرى لأنّ قضية المعتقد لا تخضع لمنطق الأغلبيّة والأقلّية بل لمنطق الحرية الذي يقضي باحترام كلّ معتقد أو مذهب أو قناعة وعدم المساس بأتباعها مهما كان عددهم.

وعلى صعيد آخر فإنّ العلمانيّة لا يمكن أن تلحق الضّرر بـ"هويّة" الشّعب التّونسي الثّقافيّة، بل على العكس من ذلك تسمح بإثرائها لأنّها تفسح المجال أمام التّجديد والابداع والتّنوّع والاختلاف وتتصدّى لكلّ المعوقات الذّهنيّة والعقائديّة التي تحول دون ذلك. كما أنّها تقوّي وحدة المواطنين ضدّ الأجنبي، الغازي والمستعمر. لأنّها تقضي على عوامل التّفرقة القائمة على العقيدة أو المذهب وتجعل من الوطن والأرض والقيم الثّقافيّة المشتركة والمصالح المجمّعة، المرجعيّة التي يستندون إليها لتقويّة لحمتهم. وبالإضافة إلى ذلك فإن الدفاع عن الهويّة الثقافية كجزء من المسألة الوطنية لا يمكن أن يتمّ إلا في إطار نظرة شاملة إذ لا استقلالية ثقافية دون استقلال اقتصادي وسياسي وعسكري ودون امتلاك لناصية العلم والمعرفة.

وفي الحقيقة فإنّ حزب العمّال اعتبر ولا يزال يعتبر أن لا أحد يمكن أن يعتبر نفسه متضرّرا من العلمانيّة عدا الذي يعتقد أنّ من حقّه الإضرار بحرّية غيره الذي لا يؤمن بما يؤمن به أو لا يفكّر بالطّريقة التي يفكّر بها أو ذاك الذي لا يقدر على البرهنة على "الحقائق" التي يتبنّاها بسلاح العقل والمنطق، فيجنح، لتعويض عجزه، إلى استخدام سلاح الإرهاب الفكري أو الجسدي بدعوى أنّ ما يؤمن به يمنحه "حقّا" على حرّية الآخرين أو على حياتهم لتبنّيهم آراء وعقائد مختلفة. ومثل هذا الشّخص لا يمكن أن يزعم بأيّ حال من الأحوال أنّه نصير للحرّية. هذا على المستوى الفردي.

أمّا على المستوى العامّ فإنّ رفض العلمانية والتّمسّك بالخلط بين الدّيني والسّياسي ليست فيه مصلحة إلاّ للأحزاب والأنظمة التي تفتقد إلى شرعيّة حقيقيّة سواء بسبب الأهداف والبرامج الرّجعيّة التي تدعو إليها أو تطبّقها فتحاول إضفاء طابع غيبي عليها لتفرضها على النّاس أو بسبب عجزها عن الوصول إلى السّلطة أو البقاء فيها بطرق وعبر آليات ديمقراطيّة فتختلق لنفسها مشروعيّة سماويّة لتستبدّ بشعوبها. ومن يتمعّن اليوم في أكثر الدول العربيّة تشدّدا في الدّين وهي المملكة العربيّة السّعوديّة يلاحظ بيسر أنّها من أكثر الدّول تخلّفا على وجه الأرض من النّاحية السّياسيّة والإجتماعيّة كما أنّها من أكثر الدّول عمالة للامبرياليّة الأمريكيّة وانتهاكا لهويّة شعبها ولاستقلاله الوطني إضافة إلى كونها تشكّل قاعدة عسكريّة أمريكيّة بريطانيّة للعدوان على العراق ومراقبة بقيّة دول المنطقة. وعلى هذا الأساس فإن ربط الدّين بالدّولة لا يمثّل علامة على "احترام حقّ البشر الذي كرّم اللّه"، بل إنّه على العكس من ذلك وسيلة لإذلاله وقهره ونهب خيرات بلده من قبل عائلة مالكة فاسدة. كما أنّه لا يمثّل علامة على "صيانة الهويّة من التّفسّخ" بل إنّه غطاء للعمالة والتّبعيّة. وفي كلمة فإنّ من له ثقة بالأهداف والبرامج التي يدافع عنها لا يخشى عرضها على شعبه الحرّ واستفتاءه فيها وقبول حكمه دون أن يحتاج إلى غطاء سماويّ. فمن يحتاج إلى هذا الغطاء إنّما يبحث عن تعتيم الأمور لا عن توضيحها وتنويرها.

هل تطوّر موقف "حركة النّهضة" من مسألة علاقة الدّولة بالدّين؟

لقد مرّ على الصّراعات التي دارت بين حزب العمّال و"حركة النّهضة" حول مسألة علاقة الدّولة بالدّين أكثر من عشر سنوات. فما الذي حدث منذ ذلك الوقت؟ وهل حصلت تطوّرات في موقف "حركة النّهضة" جعلتها تتخلّى عن مشروع الدّولة الدّينيّة الذي ينافي المشروع الدّيمقراطي الذي نريده لهذه البلاد؟ إنّ البيان المشترك مواعدة/الغنّوشي لا يتعرّض لهذه المسألة بصورة مباشرة وإن كان المتمعّن في محتواه يلاحظ بيسر أنّه علمانيّ على العموم. فمصطلحات "الجمهوريّة" و"دولة القانون والمؤسّسات" و"الفصل بين السّلطات" و"السّيادة الشّعبيّة" و"التّداول الدّيمقررطي على السّلطة" و"احترام الحرّيات العامّة وحقوق الانسان" و"التّعدّديّة السّياسيّة"وغيرها من المصطلحات والمفاهيم تشكّل كلّها عناصر أساسيّة لمنظومة علمانيّة ديمقراطيّة لا علاقة لها بالمنظومة الاصطلاحيّة للدّولة الدّينيّة الاستبداديّة التي تعتبر تلك المصطلحات والمفاهيم "كفرا وإلحادا". أمّا البيان الختامي للمؤتمر السّابع لحركة النّهضة، وهو الأهمّ لاستقراء تطوّرها الفكري، فقد تعرّض في بعض فقراته لتلك القضيّة. ولكنّ الموقف الذي تضمّنته هذه الفقرات بقي غامضا، ملتبسا. فهو يتأرجح بين نظرة سلفيّة تحيل على مفهوم الدّولة الدّينيّة وبين نظرة اصلاحيّة إسلاميّة تحيل على مفهوم دولة شبه ليبراليّة. وليس أدلّ على هذا التّأرجح من الإشارة في مرجعيّة الحركة الفكريّة إلى حسن البنّا وأبو الأعلى المودودي وهما من أقطاب دعاة الدّولة الدّينيّة المستبدّة الذين يعتبرون الدّيمقراطيّة بمعناها الحديث كفرا، من جهة، وإلى بعض المصلحين على غرار الأفغاني وعبده وخير الدّين التّونسي وعبد العزيز الثّعالبي وغيرهم من دعاة الأخذ بهذه الدّرجة أو تلك من مكاسب اللّيبراليّة السّياسيّة الغربيّة من جهة أخرى، مع علم أن حركة النهضة لا تدرج ضمن هؤلاء اسم عبد الرّحمان الكواكبي صاحب "طبائع الاستبداد" وهو أكثر الجماعة نقدا للاستبداد السّياسي في شكله الدّيني، ودعوة إلى الحرّية والدّيمقراطيّة.

وما من شكّ في أنّ ذلك التّأرجح قد يعكس صراعا داخل الحركة بين من يريدون تحويلها إلى حركة إسلاميّة إصلاحيّة تستوعب بعض مكاسب الفكر الدّيمقراطي المعاصر وبين أنصار الطّرح السّلفي -الإخواني التّقليدي. فتكون الإشارة إلى أقطاب الفكر السّلفي الاستبدادي ترضيّة للشقّ الثّاني. وطمأنة لهم بأنّ الحركة لم تتخلّ عن مصادرها الفكريّة الأولى والإشارة إلى عدد من المصلحين "المجدّدين" رسالة إلى الرّأي العامّ بأنّ الحركة تشهد تفاعلات في داخلها. كما قد يكون ناجما عن محـاولة لتسويغ خطــاب الحركة السّلفي المعروف عن طريق إدمـــاج جملة من المفاهيم والمصطلحات اللّيبراليّة والدّيمقراطيّة في ذلك الخطاب، بوصفها أشكالا أو أوْعية خاضعة في مضمونها لمضامين ذلك الخطاب وآلياته. ومهما يكن من أمر فليس هدفنا النّبش في النّوايا بقدر ما هو معالجة ما جاء في البيان (البيان الختامي) من قضايا تهمّ مسألة علاقة الدّولة بالدّين. وهو ما يمكن حوصلته في النّقاط التّالية :

1 - تؤكّد الحركة تشبّثها بـ"الهويّة الإسلاميّة" "باعتبارها هويّة البلاد والإطار المرجعي للحركة ومضمون مشروعها الإصلاحي في مواجهة سياسات الدّولة التّسلّطية الحديثة في بلادنا ومنذ نشأتها في محاربة الإسلام".

2 - وتضيف أنّ مشاركتها في المجهود الإصلاحي للبلاد تتمّ "من منطلق تبنّيها لتصوّر للإسلام يشكّل الأرضيّة العقائديّة التي منها تنبثق مختلف الرّؤى الفكريّة والاختيارات السّياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة التي تحدّد هويّة هذه الحركة وتضبط توجّهاتها الإستراتيجيّة ومواقفها الظّرفيّة".

3 - ويلاحظ البيان أنّ "تأكيد الحركة على هويّتها الإسلاميّة وحرصها على أن تلتزم في مشروعها بذلك لا يعني بأيّة حال من الأحوال احتكارها الصّفة الإسلاميّة أو توظيفها بأيّ شكل من الأشكال في صراعها السّياسي، فلم تكن الحركة يوما في موقع النّاطق الرّسمي باسم الحقيقة الإسلاميّة ولا هي تطمح إلى ذلك".

4 - وأخيرا تدرج "حركة النّهضة" في لائحة مطالبها الرّاهنة مطلب رفع القيود المفروضة على التّديّن والكفّ عن وصاية الدّولة على الدّين ومؤسّساته".

هذه هي مجمل الأفكار الواردة في البيان الختامي ونحن نرى أنه من الضروري إثارة بعض الأسئلة لدفع الجدل ورفع الالتباسات. وفي هذا الإطار فإن أوّل سؤال نطرحه هو ما المقصود بأنّ "الإسلام هويّة البلاد"؟ فهذا المفهوم للهويّة حصري (reducteur) وملتبس. بالطّبع نحن لا ننفي كون الأغلبيّة السّاحقة من الشّعب التّونسي "مسلمة" وكون الإسلام في بعده الحضاري والثّقافي والرّوحي حاضرا في حياة التّونسيّين بهذا الشّكل أو ذاك أو بهذه الدّرجة أو تلك. ولكن الإشكال الأوّل المطروح هو لماذا حصر الهويّة في "الإسلام" أليس يعني ذلك محاولة حصرها فيما هو عقيدة وتحديدا فيما هو شعائر وشريعة (حدود، تعدّد زوجات...) وهو طرح خاطىء للهويّة. ثمّ أين هو البعد العربي في هويّة التّونسي؟ وأين هو البعد التّاريخي؟ فتاريخ تونس لم يبدأ مع الإسلام بل هو سابق له. وتراث البلاد ما قبل الإسلامي يبقى جزءا لا يتجزّأ من تراثها. أين هو البعد الثّقافي؟ والثّقافة كما هو معلوم أوسع من أن تكون إسلاميّة بالمعنى الحصري للكلمة. فكلّ عناصر الثّقافة لشعبنا عبر التّاريخ، تمثّل إرثه المشترك سواء طبعت بطابع ديني أولم تطبع، سواء كانت وثنيّة أو أرواحيّة (قبل الاسلام) أو سنّية وشيعيّة وصوفيّة وعلمانيّة وإلحاديّة (بعد الاسلام). ثمّ ما الهويّة في حدّ ذاتها وهل هي عنصر ثابت حدّده جيل من أجيال السّلف بصورة نهائيّة، وما علينا نحن إلاّ الامتثال لتصوّرهم أم أنّها عنصر متحرّك، متغيّر، قابل للإثراء والتّجدّد باستمرار حسب كلّ مرحلة من مراحل الشّعب التّونسي؟

أمّا السّؤال الأخطر فيتعلّق بالانعكاسات السّياسيّة لعبارة "الإسلام هويّة البلاد". فهل يعني ذلك أنّ الدّولة ينبغي أن تكون "إسلاميّة" أي دينيّة وأنّ الاجتماع والاقتصاد والسّياسة والثّقافة لا ينبغي أن تخرج عن هذا الإطار أي أنّه يجب أسلمة التّشريع (الحدود...) وأسلمة "الفكر" والأدب والعلوم والغناء والمسرح والسّينما والرّسم وغير ذلك من أنواع الفنون وهو مايعني الحكم عليها بالموت كما هو محكوم عليها في السّعوديّة أو في أفغانستان طالبان؟ وهل يعني ذلك أنّ التّمتّع بـ"الحرّية والحقوق" يقتصر على من يضع نفسه "داخل الخيار الإسلامي" أو"الهويّة الإسلاميّة" كما ستحدّدها "حركة النّهضة" أو أيّ طرف إسلامي آخر لأنّنا نعرف أنّ الإسلام إسلامات في الواقع، إذا نظرنا إلى مختلف القراءات التي يخضع لها. فهي تتراوح ما بين القراءة المتطرّفة التي تكفّر الجميع عدا "الفرقة النّاجية" وبين القراءة اللّيبراليّة -المعاصرة التي وإن اعتبرت الإسلام جزءا من هويّة الشّعب التّونسي فهي لا ترى في ذلك ذريعة لرفض علمنة الدّولة وإقامة دولة دينيّة؟ وهل من ينطلق في السّياسة والتّشريع والاقتصاد والاجتماع والثّقافة من مرجعيّة فكريّة غير دينيّة، ماركسيّة أو قوميّة أو ليبراليّة أو اشتراكيّة ديمقراطيّة علمانيّة هو غير تونسي أو أنه يعتبر "خارج الملّة" ويعامل كـ"مرتدّ" أو"ذمّي" أو كحزب الشيطان أو في أفضل الحالات، كـ"طرف ضالّ" يجادل بـ"الحسنى" من باب "التّسامح" لا كطرف متساو في الحقوق مثله مثل جميع الأطراف الأخرى التي تخضع لنفس المبادىء ولنفس القانون مهما كان فكرها أو مذهبها أو عقيدتها؟ ثمّ ودائما في نفس الإطار ما المقصود بـ"محاربة الدّولة التّسلّطية الحديثة في بلادنا ومنذ نشأتها، للإسلام"؟ فماذا تضع "حركة النّهضة" في باب "محاربة نظام بورقيبة الإسلام"؟ هل تضع فيه إلغاء العمل بالحدود؟ وإلغاء تعدّد الزّوجات ومنح المرأة حقّ الطّلاق؟ وإقرار مبدأ التّبنّي؟ وهل تضع فيه أيضا توحيد نظام التّعليم وإلغاء نظام الأحباس؟ وإقرار مبدأ حرّية المعتقد في الدّستور (الفصل الخامس) رغم معارضة بعض المشايخ الذين لم يرفعوا صوتهم لمّا كان الاستعمار جاثما على البلاد، بل شرّعوا حضوره ودعوا التّونسيّين إلى الرّضوخ له بدعوى أنّه قضاء وقدر وأفتوْا للمؤتمر الأفخارستي وساندوا باسم الدّين قمع نقابة محمّد علي الحامّي؟ وهل أنّ حركة النّهضة تعزو انتهاك النّظام البورقيبي للحرّيات أو بالأحرى استبداده لـ"علمانيّته"؟ كما تعزو انتهاكه للهويّة لنفس "العلّة" وليس لاختيارات نظامه الاقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافيّة التّابعة؟

كلّ هذه الأسئلة مشروعة لأنّنا نعرف جيّدا الخلافات العميقة التي تبطنها عبارات مثل "الهويّة الإسلاميّة" أو "الهويّة العربيّة الإسلاميّة" أو "قيمنا الحضاريّة والثّقافيّة العربيّة الإسلاميّة" والانعكاسات المنجرّة عن تلك الخلافات في الميادين الفكريّة والسّياسيّة والإجتماعيّة وهي خلافات ما كانت لتظهر لو وُجد اتّفاق على ضرورة الفصل بين الدّين والدّولة وبين الدّين والسّياسة عامّة لنتجنّب الاستبداد باسم الدّين. ولكنّ "حركة النّهضة" قد تجيب بما ورد في البيان الختامي من تأكيد على أنّها لا تدّعي "إحتكار الصّفة الإسلاميّة أو توظيفها بأيّ شكل من الأشكال في صراعها السّياسي" كما لا تدّعي أنّها "النّاطق الرّسمي باسم الحقيقة الإسلاميّة" حتّى وإن جعلت من الإسلام هويّتها بل هي تنطلق من "تصوّر للإسلام" وهو ما يجيز للأطراف الأخرى أن تكون لها تصوّراتها للإسلام التي تبني عليها رؤاها الفكريّ والسّياسيّة والاجتماعيّةوالاقتصاديّة.ولكنّهذا الجواب يظلّ ملتبسا. فهو لئن اعترف بوضوح بـ"التّعدّد" في إطار "إسلامي" فهو لم يعترف به وبنفس الوضوح اعترافا عامّا يتجاوز ذلك الإطار ليشمل كلّ العائلت الفكريّة والسّياسيّة ويصبح اعترافا لا لبس فيه بمبدأ التّعدّديّة الفكريّة والسّياسيّة بشكل عامّ. فالمهمّ في مجال الحرّيات ليس أن تعترف بـ/أو تحترم/ حقّ الإختلاف في دائرة مرجعيتك الفكريّة وهو اختلاف، حتى وإن احتدّ يبقى في مستوى "الفروع" بل أن توسّع ذلك الاعتراف وذلك الاحترام ليشمل من هم خارج تلك الدّائرة.

ومن جهة أخرى فإنّ تأكيد "حركة النّهضة" أنّها لا تستعمل صفتها الإسلاميّة أو توظّفها في "صراعها السّياسي" لا يصبح له معنى، إلاّ إذا تحوّل إلى مبدأ في التّعامل قائم على اعتبار مرجعيتها الإسلاميّة مرجعيّة مثل جميع المرجعيات الأخرى كالإشتراكيّة بالنّسبة إلى الإشتراكي واللّيبراليّة بالنّسبة إلى اللّيبرالي والقوميّة بالنّسبة إلى القومي، لا تضفي على أصحابها وعلى برامجهم قدسيّة ولا تجوّز لهم بالخصوص اتّهام خصومهم "بالكفر" أو"الخروج عن الملّة". ولا يصبح له معنى أيضا إلاّ إذا تحوّل إلى "مبدأ حكم (un principe de gouvernement) تلتزم بموجبه "حركة النّهضة" بأن لا تصبغ على الدّولة صفتها العقائديّة إذا ارتقت إلى الحكم، وتحوّلها إلى دولة دينيّة -طائفيّة، تنتهك حرّية الشّعب وحقوقه بدعوى أنّها فازت بالانتخابات مثلا!! هذا هو جوهر المسألة. فإذا قصد البيان المعنى الذي ذكرنا فهو موقف مقبول. وإن لم يقصده فهو موقف مرفوض، لأنّه "تكتيكي" و"نفعي" يهدف إلى ذرّ الرّماد في العيون.

إنّ "حركة النّهضة" من حقّها أن تختار، شأنها شأن كافّة الحركات السّياسيّة، المرجعيّة أو الهويّة الفكريّة التي تريد ولا أحد من حقّه أن يملي عليها ما ينبغي أن تختار، بل حقّه الوحيد يبقى في الإختلاف معها وفي مقاومتها بكلّ ما أوتي من قوّة فكريّة وسياسيّة إن شاء لإظهارخور اختيارها. وبتعبير آخر فإنّ من حقّ "حركة النّهضة" أن تكون لها مرجعيّة إسلاميّة أو "تصوّر للإسلام" تنطلق منه أو تستلهم منه موقفها في جميع الميادين سواء كانت في المعارضة أو في الحكم. ولكن ما ليس لها فيه حقّ، وهي في ذلك مثلها مثل بقيّة الحركات السّياسيّة، هو أن تجعل من هويّتها الخاصّة دينا تحاول فرضه على الجميع، فتقول للنّاس: أنا الإيمان والآخرون هم الكفر! أو تقول لهم: هذا هو "موقف الإسلام" من كذا وكذا فمن اتّبعه فهو مؤمن ومن عارضه أو قاومه فهو كافر. هذا هو الخلط بين الدّيني والسّياسي. وهذا هو توظيف الدّين في الصّراعات السّياسيّة وتحويله إلى أداة لقمع حرّية التّفكير والرّأي والتّعبير وسببا لبثّ التفرقة بين أبناء الشعب الواحد وبناته. وهنا يعطي مناضل "حركة النّهضة" نفسه "حقّا" على حرّية الآخرين إن لم نقل على حياتهم لأنّنا نعرف عواقب تكفير شخص أو حزب أو أيّة مجموعة كانت.

بالطّبع نحن لا نخفي أنّنا نريد علمنة الدّولة، وعلمنة السّياسيّة وإخراجها من حيّز الدّين، حتى لا تتحوّل الصّراعات السّياسيّة إلى صراعات "دينيّة" قائمة على التّكفير والتّكفير المضادّ. فعلمنة الدّولة كعلمنة السّياسة فيها مصلحة للجميع سواء للحركات السّياسيّة التي تناضل من أجل الدّيمقراطيّة والتّقدّم ولا تحتاج إلى إلباس مواقفها لبوسا غيبيّا لإقناع النّاس بها، أو الشّعب الذي هو في حاجة إلى من ينوّر عقله لا إلى من يعتّم رؤيته، حتى يتحرّر نهائيّا من خلق العبوديّة التي لوّث بها الحكّام، عبر القرون، وعيه وسلوكه، ويثق بقدراته ويمارس سيادته بجرأة واقتدار. ولا يسعنا هنا إلاّ أن نتساءل إذا لم يكن الفصل بين الدّين والدّولة أو بين الدّين والسّياسة جزءا لا يتجزّأ من قضيّة الحرّية والدّيمقراطيّة في بلادنا وهي القضيّة التي تفرض نفسها على الأغلبيّة السّاحقة من المجتمع وعلى مختلف النّزعات الفكريّة والسّياسيّة النّاشطة فيه فما الذي يجعل "حركة النّهضة" ذاتها ترفع، في البيان الختامي لمؤتمرها السّابع المطلب التّالي ضمن لائحة المطالب الدّيمقراطيّة التي رفعتها: "رفع القيود المفروضة على التّديّن والكفّ عن وصاية الدّولة على الدّين ومؤسّساته"؟ أليست ما تطالب به "النّهضة" هو العلمانيّة؟ أفهل للعلمانيّة تعريف أوضح من هذا التّعريف: أن لا تتدخّل الدّولة في معتقدات النّاس وأن لا تفرض عليهم قيودا وأن ترفع بالتّالي يدها عن الدّين فيصبح جزءا لا يتجزّأ من الحرّية الشّخصيّة غير قابلة للإنتهاك والتصرّف. كما ترفع يدها عن المؤسّسات الدّينيّة فتصبح جزءا من المجتمع المدني لا وصاية للدّولة عليها!!

فهل هذا هو ما تريده حقّا "حركة النّهضة" فإن كان ذلك هو فما معنى الحرب التي لا تزال تشنّها على العلمانيّة؟ إنّ ما يشغل بالنا في الواقع هو التّالي: هل أنّ "حركة النّهضة" حين ترفع ذلك المطلب في بيانها، تتحرّك من موقع مبدئي؟ أي هل أنّها ترفعه لأنّه أصبح بالنّسبة إليها مبدأ فكريا وسياسيّا وبالتّالي فهي تلتزم به اليوم في دعايتها وسلوكها وغدا، إذا وصلت إلى دفّة الحكم، أيضا فلا تفرض قيودا على معتقدات المواطنين ولا وصاية على الدّين ومؤسّساته؟ أم هل أنّها ترفع ذلك المطلب لغايات تكتيكيّة، نفعيّة ليتسنّى لها، باعتبارها تمثّل "الإسلام الصّحيح" بينما بن علي يمثّل "الكفر"، استغلال مختلف الفضاءات الدّينيّة وغير الدّينيّة (مساجد، كتاتيب، مدارس...)لنشر دعايتها وتوسيع تأثيرها السّياسي إلى أن تتمكّن من افتكاك السّلطة بهذا الأسلوب أو ذاك فتعلن وصايتها على الدّين وعلى مؤسّساته وتفرض القيد تلو الآخر على حرّية المعتقد خاصّة وعلى الحرّيات الشّخصيّة عامّة (لباس، مأكل، مشرب...) وبالتّالي هل أنّ معركة "حركة النّهضة" مع بن علي اليوم هي معركة من أجل الحرّية بما فيها حرّية الضّمير، أم هي معركة من أجل من يحتكر الدّين ويفرض وصايته عليه وعلى مؤسّساته ويوظّفه في السّيطرة على النّاس والمجتمع بدعوى أنّه "ممثّل الإسلام الصّحيح"؟

هذه هي الأسئلة المشروعة التي يحقّ للنّاس إثارتها. وتعرف "حركة النّهضة" أنّ مثل هذه الأسئلة يلاحقها في كلّ القضايا المتّصلة بالحرّيات والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان سواء بسبب بعض ممارساتها في السّاحة التّونسيّة أو بسبب ظاهرة ازدواجيّة الخطاب التي ميّزت "حركة الإخوان المسلمين" التي تعدّها "حركة النّهضة" ضمن مرجعياتها الأساسيّة. ويمكن اختزال الأسئلة التي يطرحها النّاس في سؤالين أساسيّين هما: هل أنّ ما تطالب به "حركة النّهضة" من حقوق لنفسها تُقرّه لغيرها؟ وهل أنّ ما ترفعه اليوم من شعارات ديمقراطيّة ستلتزم به غدا حين تكون في وضع غير وضعها الحالي؟. وفي ختام هذه الفقرة المتعلّقة بعلاقة الدّين بالدّولة، ودون أن نزعم إعطاء الدّروس لمناضلي "حركة النّهضة"، إذ ليس من عاداتنا إعطاء الدّروس لأيّ كان، نريد أن نلاحظ أنّ في تجربتهم خلال العشر سنوات الأخيرة، من الحوافز، ما يجعلهم منطقيّا وموضوعيّا، إذا كان همّهم فعلا تخليص الشّعب التّونسي من القمع والقهر، من دعاة علمانيّة الدّولة.

إنّ "الإسلاميّين" الذين تمكّنوا من الإفلات من عصى القمع ومنهم الشيخ راشد الغنّوشي ووليد البنّاني وعامر لعريض وكافّة الذين حضروا المؤتمر السّابع، لم يتوجّهوا لا إلى المملكة العربيّة السّعوديّة "قلعة الإسلام السّني" ولا إلى إيران "قلعة الإسلام الشّيعي" ولا إلى أيّة دولة إسلاميّة أخرى تتجلبب بجلباب الدّين وتطبّق الشّريعة وترفع شعار "الأخوّة الإسلاميّة"، بل توجّهوا رأسا إلى دول أوروبا العلمانيّة، إلى انجلترا وفرنسا وألمانيا وهولندا والسّويد وغيرها من الدّول التي تفصل بين الدّين والدّولة وبين الدّين والسّياسة. وقد حصلوا فيها على اللّجوء السّياسي وهم يعيشون فيها دون رقيب عليهم في ممارسة شعائرهم الدّينيّة. فلا بوليسا يطردهم من الجامع ولا عسسا يغلقون أبوابه بعد الصّلاة. كما أنّهم لا يمنعون من تكوين الجمعيات والنّوادي الإسلاميّة ومن نشر الإسلام وتوزيع البيانات وإصدار الجرائد والكتب والإدلاء بتصريحات للإذاعات والتّلفزات ومن فتح مواقع لهم ولحركتهم في شبكة "الأنترنيت". وهم يجدون الدّعم الكامل من عدد كبير من العلمانيّين الأوروبيّين في مطالبهم المتعلّقة بإلحاق عائلاتهم (الزّوجة والأطفال) بهم أو بحقّهم في العودة إلى بلدانهم دون خشية من الإضطهاد (عفو تشريعي عامّ). وقد رفضت دول أوروبا العلمانيّة التي استضافتهم تسليمهم إلى بن علي، حتى لا ينكّل بهم. وهي تتقيّد في ذلك بدساتيرها وقوانينها العلمانية وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبرأيها العامّ المعلمن، الذي تربّى على رفض الإضطهاد بسبب المعتقد أو الرّأي أو الانتماء السّياسي؟ فلماذا توجّه الجماعة إلى الدّولة العلمانيّة وليس إلى الدّولة الدّينيّة الإسلاميّة إذن؟ أليس لأنّ الأولى تمنحهم الحرّية وتحميهم من الانتهاكات بسبب دينهم أو عرقهم أو جنسهم وتتيح لهم فرصة مقاضاة كلّ من يرتكب مثل هذه الانتهاكات على حسابهم؟ في حين أنّ الثّانية هي دولة لا تتوفّر فيها أبسط الحرّيات، بل يسودها الاستبداد والقهر باسم الدّين؟ ليتصوّر "الإسلاميّون" لحظة واحدة لو أنّ الدّول الأوروبّية العلمانيّة التي توجّهوا إليها كانت دولا دينيّة، مسيحيّة، تعتبر أصحاب الدّيانات الأخرى (كالمسلمين) "كفرة"، و"أعداء للّه" وتعاملهم كـ"أهل ذمّة" في أفضل الحالات، فهل كانت ستستقبلهم وتعطيهم اللّجوء السّياسي؟ وهل كانوا سيجدون الدّعم الإنساني والمعنوي الذين يلاقونه من الجمعيات والتّنظيمات الإنسانيّة والدّيمقراطيّة، التي تختلف معهم في عقائدهم وآرائهم ولكنّها ترفض أن يضطهدوا بسببها من أيّ كان؟ ثمّ هل أنّ "الإسلاميّين" لو توجّهوا إلى "خادم الحرمين الشّريفين" أو لغيره من ملوك الإسلام وأمرائه أو رؤسائه، كانوا سيبقون إلى هذه السّاعة أحرارا إن لم نقل أحياء؟ فمن سيتردّد من أولئك الملوك والأمراء والرّؤساء الذين ليس لهم أدنى احترام للمبادىء وللقانون وللقيم الإنسانيّة، رغم أنّ عبارة "الإسلام دين الدّولة والشّريعة مصدر القوانين" تتصدّر دساتيرهم، إن كانت لهم دساتير، في تسليمهم إلى بن علي أو في تصفيتهم عند الاقتضاء؟ وبعبارة أخرى لماذا يحتمي مناضلو "حركة النّهضة" زمن المحنة بالدّولة العلمانيّة ويتمتّعون بما تمنحه لهم من حرّية (لأنّ المعتقدات والأديان تتساوى في ظلّها، فلا دين أغلبيّة، ولا دين أقلّية ولا دينا سائدا ولا دينا مسودا، بل كلّ المعتقديات والأديان، بما فيها معتقدات أهل البلد وأديانهم سواسيّة أمام القانون وكلّ مواطن مهما كان أصله أو فصله حرّ في اتّباع المعتقد الذي يريد وإذا تعرّض لضغوط أو مضايقة، حتى من قبل الدّولة، فالقانون موجود ليردع ذلك السّلوك)، لماذا هم إذن يمجدون في مهجرهم فضائل العلمانيّة ولكنّهم لا يتوانون عن مقاومتها وتشويهها حين يتعلّق الأمر ببلدهم؟ لماذا هي العلمانيّة في نظرهم حرّية،يدافعون عنها ويطلبون المزيد منها حين يكونون لاجئين في أوروبا؟ ولماذا تصبح عندهم "كفرا" و"إلحادا" و"فسادا أخلاقيّا" حين يكونون في بلدهم أو حين يطالب بها جزء من أبناء هذا البلد؟ أليس في سلوك "الإسلاميّين" تناقض؟ أليسوا من دعاة العلمانيّة في الحالة الأولى، لأنّ لهم فيها مصلحة باعتبارهم أقلّية في البلدان الأوروبيّة؟ وهم ضدّها في بلدهم لأنّهم يعتقدون أنّ لهم مصلحة في الدّولة الدّينيّة لأنّه بإمكانهم استخدامها لفرض سيطرتهم على غيرهم وإعطاء أنفسهم "حقّا"، على حرّيته أو حتى على حياته لأنّه يختلف معهم في الرّأي والعقيدة (العقيدة بالمعنى العامّ وليس بالمعنى الدّيني فقط)؟ وبتعبير آخر أليسوا هنا يتعاملون مع قضيّة الحرية تعاملا ازدواجيّا؟ هي حقّ لهم حين يكونون في وضع صعب ولكنّها ليست حقّا لغيرهم حين يكونون في موقع يمكّنهم أو يعتقدون أنّه يمكنهم من السّيطرة ومن تمرير شعاراتهم؟ فلماذا إذن لا يحسم مناضلو "حركة النّهضة" هذا التّناقض ويتماسكون مع انفسهم ويقبلون العلمانيّة آليّة عامّة لضمان حرّية الجميع وحقوقهم مهما كان الموقع الذي هم فيه: موقع أقلّية أو موقع أغلبيّة؟ وخلاصة القول إنّ الفصل بين الدّين والدّولة وسيلة أو آليّة تحتاجها جميع الشّعوب، لا شعوب أوروبا فقط. فالشّعب التّونسي مثله مثل أيّ شعب أوروبّي (أو أمريكي أو آسيوي باعتبار العلمانيّة انتشرت في كافّة انحاء العالم وأقرّت عدا في البلدان العربيّة بوجه خاصّ)، في حاجة إلى الحرّية. والحرّية تتناقض مع التّعصّب الدّيني. و"حركة النّهضة"، إذا أقرّت مبدأ فصل الدّين عن الدّولة وعن السّياسة، فهي لا تخسر شيئا، عدا "حقّ تكفير الغير" وهو حقّ غير مشروع يضع صاحبه خارج دائرة أنصار الحرّية والدّيمقراطيّة. وهذه "الخسارة" هي في الواقع ربح لقواعدها الذين سيتحرّرون من عقليّة الإستبداد (لأنّ من يعتقد أنّ له حقّا على حرّية غيره أو على حياته هو شخص مستَلَبٌ) ويتفاعلون أكثر مع حركة التّاريخ الإنساني. كما أنّها ربح للشّعب التّونسي قاطبة. وطالما أنّ "حركة النّهضة" لم تحسم هذا الأمر نهائيّا ستبقى في أفضل الحالات تتأرجح بين خطاب استبدادي تشدّها إليه منطلقات فكريّة منغلقة وخطاب تحرّري قد لا يدوم إذا لم يتأصّل وبالخصوص إذا كانت تدفع إليه اليوم عوامل ظرفيّة.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني