الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > الأدب والفن في الاشتراكية
قرأنا لكم:
الأدب والفن في الاشتراكية
29 آذار (مارس) 2010

إن استباق الثورات والانتفاضات الشعبية، بعصور تنوير ثقافية يبدو شرطا للنهوض بالشعوب والمجتمعات من عصور الانحطاط والذّل. فالوعي الثقافي مؤشر لحالة الجيشان في أعماق الشعب، لأنها المنبئة بأن المجتمع يتمخض عن عالم جديد قيد الولادة. لذا لا بدّ أن يترسّخ الأدب والفن في أعماق الأحياء من البشر الذين ينشدون الحدّ الأدنى من حياة الحرية والكرامة والمستقبل المضئ... فذاكرة الناس لا تنسى، والكذب والزيف وحقن عقول البشر بالأضاليل وطمس الحقائق سجّل بكثير من المقت والإزدراء في ذاكرة الشعب الذي أستُذِلّ وأهينَ بقوة القمع والخوف.

و كماركسيين لينينيين يجب أن نكشف هذا العار الذي يرى في البشر قطيعا، يأكل ما يُقدّم له من فتات أسيادهم غير قادرين على الإبداع. وفي هذا الإطار قرأنا لكم في هذا العدد كتاب "الأدب والفن في الاشتراكية" لكارل ماركس، ترجمة الدكتور عبد المنعم الحنفي. والكتاب هو عبارة عن نصوص وتحليلات وملاحظات متناثرة في كتب ماركس وأنجلس ومقالاتهما ومسودّاتهما والخطابات التي تبادلاها مع بعضهما ومع الآخرين، وهي تشكل كلها مجموعة ذات أهمية بالغة مترابطة رغم تناثرها.

ولسائل أن يسأل: ما علاقة الماركسية بالأدب والفن؟ إن للفلسفة الماركسية مفهوم للعالم كله ونظرية في المعرفة ومنهج في البحث، وهي لذلك لا تهمل الفن والأدب من بحثها.

وقد طبّق ماركس وأنجلس المادية التاريخية كمنهج في الأدب والفن ليوضحا الأثر السئ للأدب البورجوازي على البروليتاريا. كما بيّنا من منظور الصراع أن الأدب والفن في أيّ عمل ذو حدّين: موضوعي وذاتي. كفاح الإنسان في العالم طبقيا ضدّ القوى الطاغية اقتصاديا واجتماعيا، وكفاح الإنسان الداخلي نزوعا نحو التوازن النفسي ضدّ الاغتراب والإحباط والألم... الذي يكرّسه الجهل الإيديولوجي والديني ومظاهر الانتهازية والطائفية، وهذا الاغتراب ما قبل الوعي، يدفع هذه الطبقات أحيانا لتكون ضدّ مصالحها ومستقبلها على نحو إرادي.

لذا نجد أن ماركس وأنجلس يدعوان، في كتاباتهما وملاحظاتهما، الأدباء والفنانين أن يرسموا صورة دقيقة لواقع الصراع الطبقي في العالم، ويسهموا في تشكيل الضمير الطبقي لدى المُستَغلين. فالواقعية الاشتراكية في الأدب والفن مذهب يحتوي بداخله على كل المضامين والقياسات الشمولية وفي المقابل يُبرز بصفة خاصة النضال الطبقي ويُدين الرأسمالية والبورجوازية. فقد أكد ماركس حتمية وضرورة التصادم بين القوى المادية للإنتاج في مرحلة ما من تطوّرها مع علاقات الإنتاج القائمة التي تستحيل إلى قيود لقوى الإنتاج وهو ما سيؤدي إلى ثورة اجتماعية يتغيّر فيها البناء الفوقي بأكمله مع تغيّر الأساس الاقتصادي. وهنا لا بدّ أن نميّز بين التغيير المادي للظروف الاقتصادية للإنتاج والتي يمكن أن نحددها بدقة، وبين الايديولوجية التي يعي بها الناس هذا الصراع ويتغلبون بها عليه. لذا ينبغي على الأديب والفنان أن يفسّر الوعي بتناقضات الحياة المادية، وبالصراع القائم بين القوى الاجتماعية للإنتاج وبين علاقات الإنتاج. وبإشارتهما إلى بعض القصص الأدبية أو اللوحات أو مدارس فنية يوضحان أثر الرأسمالية ومعنى الإنتاج الرأسمالي، بمعنى أنهما يكتبان ليحققا فعلا سياسيا. فالأدب والفن هو تعبير عن الصراع، لا بين الفرد والمجتمع فحسب، بل أيضا بين قوى مناضلة صاعدة من جهة، وقوى معادية للشعب وتطور التاريخ نحو المستقبل الأكثر عدالة والأكثر تقدمية من جهة أخرى.

والواقع دائما يُعبّر عنه بأشكال مغايرة، لكن لا بدّ لنا أن نكون أوفياء لعصورنا وشهودا عليها. نرصدها ونحللها ونشهد عليها بكل تجلياتها الجائرة والقاسية والمنحطة. رغم كثرة المضللين الذين يرفعون رايات الفرح والتفاؤل والطمأنينة في عصور الشقاء وفقدان الأمان وسحق الحرية والكرامة بأحذية بوليس الفاشية والرأسمالية.

ولعل اهتمام ماركس وأنجلس ببلزاك دون غيره من الواقعيين الآخرين، وإعلان أنجلس أنّه تعلم من بلزاك ما لم يتعلمه "من كلّ كتب العصر التي كتبها المؤرخون والاقتصاديون والأخصائيون المحترفون مجتمعين"، خير دليل على أهمية الدور الذي يلعبه الأديب في مجتمعه. فقد فضح بلزاك البرجوازية الفرنسية وروايته "الكوميديا الإنسانية" مفعمة بصور البرجوازيين الأدنياء والخسيسين الدسّاسين المتآمرين، والأجهزة الخفية المتحكمة بالشعب. إن روايته تعكس واقعيا الأهواء المرتشية وجنون التملك الذي تجاوز القانون في سبيل التلذذ بالعيش على حساب الشعب.

مثل هذا الأدب يبدو اليوم نادرا، بل ربما كان على حافة الانقراض. وهذه الصيغة واقعية في عصر الانحطاط وزمن الاستهلاك. فالأدب والفن مسخّر لخدمة الطبقة الحاكمة التي بلورته ومنهجته لترسيخ بقاء الطبقة المسيطرة وإحكام هيمنتها المطلقة مسلحة بنظام قمعي، بوليسي، هدفها التدجين الديماغوجي للشعب بأسره. بمعنى أن الطبقة التي تملك وسائل الإنتاج هي التي تملك الإنتاج الفكري في نفس الوقت. فتحوّل في ظلها الأدب والفن إلى ثقافة مؤسساتية مشلولة وضيقة الأفق. فالسلطة تأخذ من الأديب والفنان شرعيتها وهويتها ثم تدجّنه داخل آلية قمعها وقانونها المزيف وغير الشرعي، وتعتبر العمل الفني سلعة تتحدد قيمتها بنجاح عملية البيع أو فشلها. وهي تسعى إلى المراوحة بين الثقافة السائدة والموروثة، والثقافة الغربية كسياج ملفق لحماية سلطتها السياسية مُكرسا هيمنة فكرها وثقافتها البرجوازية، لتعرقل تقدم المجتمع داخل استمرارية واقع يظل أسيرًا لهيمنة الماضي المقدس وحاضر يدغدغ غرائز الجماهير.

ولعلّ الواقع والمشهد الموضوعي للشعب في بلادنا اليوم، يورث إحساسًا بالمرارة والعجز والسلبية لدى بعض الأدباء والفنانين. كما يولّد شعورا بالهرب والحياد والاغتراب... للبعض الآخر. لكننا نجد أدبًا يخترق الجميل إلى الكريه والدميم، ويتجاوز التفاؤل الأبيض باتجاه الواقع الأسود والسوداوي فيعرّيه. كما يرى الحب يرى الخيانة، وفي عصور القمع والذّل وجنون الدم وبشائر الموت على يد الدكتاتورية، لا يمكن أن يكتب أديب وروائي مثل عبد الجبار المدّوري عن التبشير بالحريّة والديمقراطية والسعادة والفرح في ظل نظام فاشي. فليس عبد الجبار قاسيًا لكن الواقع هو الأقسى وما ارتكب في حقه وفي حق الشعب التونسي اليوم قد فاق بقسوته وفظاعته ما كتبه رعبًا ورهبة وفظاعة.

وهنا تظل الأسئلة مطروحة علينا جميعا: هل لسلطة الوعي دور في مواجهة سلطة القوة العمياء؟ وماهو دورنا وفعالياتنا ونشاطنا المضاد أفرادًا وجماعات في مواجهة الانحطاط المهيمن على الواقع الراهن؟



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني