الصفحة الأساسية > البديل العالمي > الحكومة "الإسلامية" التركية تزج بتركيا في المستنقع العراقي
الحكومة "الإسلامية" التركية تزج بتركيا في المستنقع العراقي
10 تشرين الأول (أكتوبر) 2003

"لا يمكن أن تبقى تركيا غير مبالية بانعدام الأمن على أبوابها...وإذا كان هناك حريق ووضع غير مستقر لدى جارنا فلا يمكن أن نبقى غير مبالين" - الجنرال ياشار بويو كانيت – مساعد رئيس الأركان في تركيا.

"نجاح أمريكا في العراق هو بالتأكيد في مصلحة تركيا وعكس ذلك يعني الفوضى لذلك يجب أن نقوم بتعاون وثيق مع الولايات المتحدة في العراق والمشاركة في قوى الاستقرار وهو فرصة لتركيا" عبد الله غول – وزير الخارجية التركي.

وافق البرلمان التركي يوم الثلاثاء 7 أكتوبر الجاري بأغلبية كبيرة ( 258 صوتا مع 183 صوتا ضد) على طلب حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي بنشر 12 ألف جندي تركي في القطاع الأوسط من التراب العراقي. ومعلوم أن البرلمان كان رفض في مارس الماضي طلبا مماثلا بمشاركة تركيا في الحرب على العراق عبر نشر 62 ألف جندي أمريكي على الحدود مع العراق لفتح جبهة الشمال من أجل التعجيل بالإطاحة بنظام صدام حسين، الأمر الذي خلق تصدّعا في العلاقات التركية الأمريكية الذي بلغ ذروته إبان اعتقال القوات الأمريكية 11 جنديا تركيا في منطقة السليمانية ومعاملتهم معاملة المعتقلين في العراق أو في أفغانستان. وقد عاشت الأوساط الحاكمة في تركيا نوعا من الشعور بالندم والذنب. فبعد انتهاء الحرب وما عقبها من تغيرات استراتيجية في المنطقة أحست الآلة العسكرية والحكومة التركيتان على حد السواء بأن عدم استجابتها للطلب الأمريكي السابق وضعتها خارج الحلبة وأنه بات من الضروري البحث عن البوابة التي تسمح لها بالعودة إلى مسرح التطورات في المنطقة.

وقد وجدت في الضغوط التي عادت الإمبريالية الأمريكية لممارستها مؤخرا على انقرة الفرصة السانحة لذلك فسارعت الطغمة العسكرية والحكومة التركية "الإسلامية" للضغط على البرلمان للموافقة هذه المرّة على قرار نشر قوات تركية في العراق. وواضح أن الحكومة توصلت إلى إقناع نواب حزب العدالة والتنمية الذين يشكلون الأغلبية البرلمانية، بوجاهة هذا الموقف ذلك أن ثلاثة من نواب هذا الحزب فقط امتنعوا عن التصويت له إلى جانب معارضة نواب حزب الجمهورية الشعبي.

فإقدام تركيا على هذه الخطوة رغم تخوفاتها السابقة ورغم معارضة العراق وغالبية أعضاء "مجلس الحكم الانتقالي" المنصّب هناك ورغم المعارضة الشعبية التي تقودها الأحزاب اليسارية والتقدمية – ومن ضمنهم "حزب العمل" الشقيق، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني، جاء استجابة لضغوط البيت الأبيض الأمريكي من جهة ومدخلا لتحقيق جملة من الأهداف التي تريد البرجوازية التركية بقيادة حكومة الحزب الإسلامي وقادة المعسكر تحقيقها من جهة ثانية ما دامت الظروف مناسبة لذلك.

فبقبول نشر قوات تركية في العراق تأمل حكومة رجب طيب أردوغان في أن توافقها الولايات الأمريكية على تصفية تواجد حزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من شمال العراق ملاذا من ضربات الحكومة. وقد زكّت واشنطن بالفعل خلال الأيام الأخيرة خطة عمل مع تركيا تهدف إلى تحقيق تلك التصفية. كما تأمل في أن يعاد النظر في تركيبة مجلس الحكم الانتقالي العراقي بما يسمح بتمثيل أفضل للأقلية التركمانية عبر الجبهة التركمانية العراقية الموالية لها. أما أهم أهداف البرجوازية التركية فهي تمكينها من حصة أفضل في عملية إعادة إعمار العراق وذلك بتمكينها من مشاريع البنية التحتية (بناء السدود ومد الطرقات وشبكة الأتصالات وشبكات التصريف المدنية...) وتدريب الشرطة وحرس الحدود العراقية الجديدة المزمع إعادة بنائها.

وعلاوة على هذا، فإن هذا القرار من شأنه أن يساهم في انتشال العلاقات التركية الأمريكية مما عرفته من توتر عقب "حادثة المذكرة" (رفض المشاركة في الحرب في أول مارس الماضي) وخاصة في ترميم العلاقة بين المؤسستين العسكريتين في البلدين وتحسين حظوة مؤسسة الجيش التركي في البنتاغون وكذلك حظوة حزب العدالة والتنمية عند قادة البيت الأبيض الذين يعتبرونه نموذج الحزب الإسلامي المعتدل الــذي يمكن أن يكون شريكا في مقاومة ظاهرة الإرهاب الإسلامي. ولا ننسى في هذا المجال أن حكومة أوردغان "الإسلامية" لم تصل إلى السلطة في خريف السنة الماضية إلا بعد أن تلقت الضوء الأخضر من واشنطن وقدمت تطمينات لحكومة شارون وهو أمر كان فضحه أربكان ذاته رئيس الحكومة "الإسلامي" الأسبق في تركيا والذي كان رجب أوردغان يعمل معه في نفس الحزب.

إن عودة الوئام بين الطرفين سيخلق الظروف المناسبة لينال حكام تركيا من المساعدات المالية والقروض ما لم يتمكنوا من نيله بالضغط ومقايضة دوس جزمات الجنود الأمريكيين لتراب بلادهم. وبالفعل فإن الإدارة الأمريكية قدمت بعد للحكومة التركية قروضا تبلغ قيمتها 8,5 مليار دولار ثمنا لموافقتها على المشاركة في احتلال العراق وقمع شعبها. ثم إن صفاء العلاقات مع بوش يحمل في طياته ضغوط متزايدة على أوروبا وخاصة فرنسا وألمانيا لقبول تركيا بنادي الوحدة الأوروبية فضلا عن التغاضي عن مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي طالما رفعت في وجه أنقرة لحرمانها من تحقيق هذا الحلم الكبير.

وفوق كل هذا، فإن مشاركة تركيا في "حفظ السلام وإعادة إعمار العراق" أي في احتلاله، سيمكنها من فرصة فريدة من نوعها لكي تلعب دورها كقوة إقليمية تساهم من مواقع متقدمة في تصميم خريطة المنطقة والتحكم في مخاطر التقسيم المحتمل للعراق أو تصاعد نفوذ إيران شرقا أو حتى الهجوم على سوريا أو إيران مستقبلا كما تلوّح به بعض الأوساط المتشددة في الإدارة الأمريكية. إن محورا رجعيا يضم أنقرة، تل أبيب، وبغداد هو حلم من أحلام هذه الإدارة لضمان هيمنة الامبريالية الأمريكية في المنطقة.

لكل هذه الاعتبارات اتحدت جميع أجنحة السلطة في تركيا، الجيش والحكومة ورئيس الدولة أحمد نجدت سيزار على إيفاد 12 ألف جندي من لواء السلام 28 التركي للعراق رغم إدراكهم طبيعة المخاطر العسكرية والسياسية المباشرة وبعيدة المدى التي تحف بمثل هذه الخطوة الخطيرة. فلا الشعب التركي الذي ما انفك يتظاهر في الشارع ولا حتى مجلس الحكم الانتقالي في العراق ولا قوى المقاومة ولا عموم الشعب العراقي ولا حتى الأنظمة العربية المتواطئة مع الاحتلال الأمريكي ولا أيضا أوروبا وخاصة فرنسا وألمانيا سينظرون جميعا لهذا القرار بعين الرضا. وقد عبّر أغلب هذه الأطراف بعد عن موقفها الرافض (مجلس الحكم الانتقالي العراقي والفعاليات الشيعية العراقية وفرنسا وألمانيا وبعض الأنظمة العربية). أما المقاومة العراقية فقد تجد في الجنود الأتراك الهدف والصيد الأمثل لنيران أسلحتها.

ولأن الحكومة التركية مدركة لهذه المخاطر لم تنفك ترسل وفودها إلى العراق لتهدئة النفوس ولتبديد المخاوف وتحاول عن طريق فرق الخدمات المدنية في مجالات المياه والصحة والاتصالات والطاقة استكشاف الأوضاع عن كثب والإعداد بصورة جيدة قبل مجيء قواتها. وفي خط مواز لذلك تخطط الحكومة التركية لبعث وفود مماثلة لتهدئة خواطر البلدان المجاورة وخاصة سوريا وإيران حتى لا يكون دخولها للعراق مثارا لأزمات معهما في المستقبل.

لقد تأزمت أوضاع القوات الأمريكية في العراق بعد اشتداد المقاومة وقد يكون ذلك من الأسباب الرئيسية التي دعتها للاستنجاد بتركيا بصفتها دولة إسلامية وعلى رأسها حكومة إسلامية بمقدورها أن تلعب دور التهدئة مع البلدان الإسلامية الأخرى داخل منظمة المؤتمر الإسلامي وفي غيره من المنابر. كما يمكنها أن تساعد على ترويض مقاومة المثلث السني الذي يسبب متاعب جمة للقوات الأمريكية المحتلة على خلاف المناطق الشيعية والكردية المتعاونة مع المحتل بشكل أو بآخر. غير أن هذا التصوّر يمكن أن يأتي بنتائج عكسية حيث أنه يفتح الباب أمام الطوائف الأخرى غير السنية وخاصة الشيعة ليطالبوا بنشر قوات حليفة لها. لذلك لا يستبعد أن يصبح الوجود العسكري التركي بالعراق من عوامل تأجيج الصراع الطائفي هناك.

صحيح أن تركيا وجدت في الطلب الأمريكي بنشر قوات تركية في العراق فرصة لتوطيد علاقاتها مع الحليف الأمريكي ولتدخل سباق القوى في المنطقة من الباب الكبير ولكن ذلك لا يمنع من أنها في الوقت ذاته زجت بنفسها وبشعبها في مستنقع الخروج منه غير مضمون.

إن مصلحة الشعب العراقي وبقية الشعوب العربية وقواه الثورية والتقدمية والوطنية تكمن اليوم أكثر من أي وقت مضى في تمتين العلاقات بالشعب التركي وقواه المعادية للامبريالية والرجعية والصهيونية لمواجهة المخاطر المشتركة. إن حكومة تركيا "الإسلامية" من عهد أربكان إلى عهد أوردغان قد وضعت هذا البلد في وضع معاد بشكل سافر للشعوب العربية: معاهدة استراتيجية مع الكيان الصهيوني (في عهد أربكان) ومشاركة في احتلال العراق واضطهاد شعبه (في عهد أوردغان).



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني