الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > المثقف التونسي أمام مهزلة 2004
المثقف التونسي أمام مهزلة 2004
10 تشرين الأول (أكتوبر) 2003

تتهيّأ الدكتاتورية النوفمبرية ميدانيا وعمليا لموعد تنصيب بن علي رئيسا "مدى الحياة" بعد أن أعدّت العدّة "التشريعيّة" بتفصيل الدستور على مقاس الحدث. ومعلوم أنّ بن علي يستنفد مدّته الرئاسية في نوفمبر 2004 ومن المفروض أن يترك الحكم ويفسح المجال لانتخابات رئاسية حرّة ونزيهة لو كان يؤمن بدولة القانون والمؤسّسات ويحترم سيادة الشعب ويراعي أحكام الدستور (البائسة) لكن هيهات! وسعيا إلى إضفاء شرعية على هذه الفعلة النّكراء تتّجه مساعي الجوق النوفمبري نحو بعض فئات المجتمع بالدمغجة والكلام المعسول (زيادة على القمع الذي هو خبزها اليومي) ومنها فئة المثقفين لإطلاق ألسنتهم بالولاء والتأييد أو لإسكاتهم وجعلهم يقبلون الأمر الواقع صاغرين، طامعين أو خائفين. وتجد هذه المساعي عند "مثقّفي الأمير" التقليديين (بعضهم كان يتمعّش من مدح بورقيبة ورجال دولته) الآذان الصاغية فهم الذين يحتلّون الآن المواقع في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية وفي مختلف المنابر "الحسّاسة" بحماية البوليس ورعاية الإدارة وهم الذين يشكّلون نواة التطبيل والتزمير والحمد والشكر وهم الذين يحرّرون لافتاته وشعاراته ويصوغون أغانيه ونشرات أخباره وتعاليقه ومقالاته، يساعدهم على ذلك انتهازيون ركبوا موجة النضالات الشعبية (الطلابية والعمالية خاصّة) أو جرّبوا "المعارضة" ثمّ لمّا اشتدت الأزمة وتعثّرت الحركة استثمروا رصيد المزايدة لنيل الحظوة عند السلطة التي بادرت بخصيهم حتى لا يبقى لهم وجه مع النضال والمعارضة ثم أعطتهم بعض الفتات مقابل ذلك، ووسّمت بعضهم بوسام الإذلال. وهؤلاء ينحدرون من أوساط الغناء والموسيقى والمسرح والسينما والأدب والبحث والرسم وموجودون في الصحافة والتعليم والمحاماة والطب وسائر أوساط المثقفين.

هذا الرهط من المثقفين شهد انتعاشته في أوائل عهد بن علي ثم تراجع تدريجيا وتقلص نطاقه بافتضاح سياسة الرجل وتبخّر وعوده وتزايد عزلته دوليا بعد تصنيف تظامه ضمن أنظمة التعذيب والتزوير والاستبداد والفساد.

ورأينا عديد المثقفين، حتى الذين سبق أن خدموه وانخرطوا في جوقه الحكومي وفي تشريع سياسته القمعية ينسحبون من الجوق ويقتربون من المعارضة ويؤازرون الحركة الديمقراطية.

إنّ من يملك ذرّة حياء ويتمتّع بحدّ أدنى من الحسّ النقدي والوعي التاريخي في الفنّ أو الفكر الذي يتعاطاه لا يقبل بدور الطرطور ولا يسمح لأعوان دولة التعذيب، ودوس حقوق الإنسان وتزييف الإنتخابات وملاحقة الأحـرار ونهب الثروات أن يكون لهم سلطان على ريشته أو ركحه أو صوته أو قلمه، على فكره ووجدانه.

وهل يملك المثقف، متى دعاه داعي الحرية، سوى إعلان الرّفض، وهل في حوزته غير كلمة "لا" يواجه بها الطغاة والمستبدّين والقتلة؟ وهل يلوذ أحرار المثقفين التونسيين، ذوو التقاليد الراسخة في النضال، بالصمت أو بالجحر وهم يشاهدون السلطان يضحك على أذقان شعب ويمارس أكبر عملية نصب واحتيال على دستور بلاد حتى يضمن لتفسه ولعائلته "المالكة" والعصابات المافيوزية مزيد البقاء والاستيلاء؟

إنّ أمام المثقفين التونسيين موعد فرز جديد، يختلف عن سائر المواعيد، فإمّا التورّط في خيانة عظمى موصوفة وإمّا الوفاء للأموات والأحياء من المبدعين وحملة الأنوار في تونس وفي الوطن العربي والعالم. أمام ضمائر الفنانين والكتاب والباحثين وكافة المشتغلين بالفكر والوجدان والقيمين على سلّم القيم الجمالية والإنسانية لحظة اختيار حاسمة يفترض أنّها بدأت ولو أنّ موعد الفعلة لم يحن بعد، فإمّا خيار الحرية وإمّا خيار العبودية، ولكلّ موققف استتباعاته وتداعياته، فهل يتحمّل أحرار المثقفين من أبناء بلدنا مسؤولياتهم ويلوون العصا في يد الدكتاتورية الغاشمة، ويفوّتون عليها فرصة شراء ضمائرهم ويقولون "لا" فيربحون عالما بأكمله؟!



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني