الصفحة الأساسية > البديل الوطني > مـن يوقف تدهور أوضاع التعلـيم ؟
مـن يوقف تدهور أوضاع التعلـيم ؟
10 تشرين الأول (أكتوبر) 2003

بعد العطلة الصيفية تعود الأسئلة المحرجة والمصيرية حول أوضاع التعليم إلى طرح نفسها على كل ذي ضمير من أبناء الشعب المقهور لتضغط عليه بكل قوة وتضعه وجها لوجه أمام لوحة قاتمة لهذه الأوضاع فيتساءل: هل من باب العبث أن تكتوي أجيال متعاقبة بنار الاستعمار القديم والجديد وتضحي مئات الآلاف من العائلات بكل غال ونفيس على امتداد عقود طويلة لتقف في النهاية على هذه الحصيلة المشوهة لمستوى تعليم بات أقرب إلى محو الأمية؟ أي منزلة لـ"المعلم" الذي "كاد أن يكون رسولا" في فترات تدني الرفاه؟ وأي مرتبة له اليوم في عصر المعلوماتية والتقدم؟ أين ذهبت كفاحات الشبيبة المعادية للامبريالية وتوقها اللامحدود للحرية والانعتاق؟ ومن أجهض نضالاتها وغدر بأحلامها وصحر ساحاتها وميادينها؟ أي مستقببل علمي وأي ديمقراطية تعليم تنتظر أبناءنا وبناتنا في ظل أحذية الجنرالات الحديدية والمخبرين وعصابات المافيا والباصمين بأصابعهم وأشباه الأميين من المشرفين على خراب البلاد وتدجين العباد؟

لن نقف طويلا على مظاهر تدهور التعليم في بلادنا وانحداره إلى قاع ليس له قرار فقد كتبت حوله آلاف المقالات وعشرات الدراسات والأطروحات لأهل الاختصاص ناهيك أن أغلبية العائلات المفقرة تعيش يوميا هذا الواقع الأليم وتتلظى بنار كلفة التعليم في صمت.

لن نطنب كذلك الحديث عن انعدام التجهيزات وتآكلها والاكتظاظ الرهيب في الفصول وسوء التسيير والتسيب وانعدام التأطير المدرسي وضعف التأطير البيداغوجي وانبتات البرامج وبطالة الخريجيين وتحويل المؤسسات التربوية إلى محتشدات والمدرسين إلى أعوان تنفيذ فذلك قد تكفلت به النقابات وأطنبت في شرحه، ولكننا علاوة على تحميل السلطة المسؤولية الرئيسية في تخريب وتدمير وتهميش التعليم سنتناول المسألة من زاوية أخرى لنحمل بعضنا البعض، نحن معشر الديمقراطيين، المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع المتدهورة للتعليم.

إن سلاح النقد لا يغني عن نقد السلاح ومن أيسر الأمور أن نحلل دور الصناديق الدولية النهابة في ضرب مجانية التعليم، ودور الامبريالية العالمية والشركات المتعددة الجنسيات في خوصصته، والأنظمة العميلة المعادية أصلا للعلم والمعرفة في النزول به إلى الحضيض. هذه التحاليل بقدر صحتها وراهنيتها فهي لا تعنينا من الزاوية التي نريد طرق الموضوع منها.

نحن اليوم في حاجة إلى نقد برامجنا البديلة وطرق مواجهتها للسلطة. وإذ ننزل السياسة التعليمية في سياقها العام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ولا نفصل فصلا ميكانيكيا بين الظواهر فإننا في حاجة إلى إعادة النظر في آليات ووسائل عملنا لإفشال سياسة السلطة في حقل التعليم بالذات.

إن خطاب الديمقراطيين في حقل التعليم ظل مجردا لفترة طويلة من الزمن وغلبت عليه لغة التشهير والتنديد وافتقر إلى الروح العملية، المبادرة والبديلة. كما ظلت التعبئة في جماهير التعليم بكل فروعه موسمية وانخرطت في ردات الفعل على برنامج السلطة (الزيادة على النصاب، المعلمون الوقتيون، نظام الخراطيش، الكاباس...) دون رسم للأولويات وتبويب للمطالب ودون الحد الأدنى من التنسيق بين مستويات التعليم الملائمة.

كما لعبت الجملة الثورية والخطب الرنانة دورا سلبيا في القفز على الواقع وتغذية الصراعات الفئوية التي ظلت بمنأى عن الجماهير الواسعة المنتسبة لحقل التعليم. صحيح أنها ساهمت في شحن المعنويات وتحفيزها ولكنها ظلت تزول بسرعة حالما تنتهي مدة الشحن ويتراجع المد النضالي لهذا الفرع من القطاع أو ذاك.

أما عن وسائل الدعاية والتحريض فتكاد تكون منعدمة خارج الاجتماعات النقابية التي نراجعت بدورها كما وكيفا. كما انعدمت الاجتماعات داخل المؤسسات وهي التي كانت تمثل إحراجا وضغطا على الإدارة.

أين ذهب تدخل الأساتذة في الأقسام وإثارة النقاشات الفكرية وتربية أبنائهم على النقد والحجاج الديمقراطي الذي طبع فترة السبعينات؟ لماذا تخلى هؤلاء عن دورهم وافتقروا إلى الجرأة المعهودة وتركوا تلامذتهم فريسة سائغة للجهل والخرافة والفكر السائد الاستغلالي والرجعي والبرامج المنبتة؟ لماذا يستبطنون الخوف وهم الذين ظلوا يمثلون الخوف بعينه للسلطة؟ أين تقاليد ترويج الكتب العلمية والأشرطة المتزمة؟ لماذا لا يعيدون بعث النوادي الفكرية المستقلة وجمعيات أحباء الكتاب بالرغم من معارضة السلطة؟ ألا يعمل الديمقراطيون ورجال التعليم والطلبة على إحياء تجارب نوادي السينما من جديد؟

إن إرساء المجتمع البديل والتعليم البديل في قضية الحال على وجه الخصوص عملية يومية مضنية ولا تقتصر على الواجهة النقابية والمهنية بل تتسع لتشمل كل أوجه الحياة الفكرية والسياسية والفنية ورجال التعليم معنيون بهذا الشأن قبل غيرهم.

إن نقابات التعليم في مستوياته الثلاثة إضافة إلى اتحاد الطلبة وما تزخر به هذه الأطر من منخرطين وطاقات يقفون اليوم أمام مسؤولية تاريخية جسيمة ولا يعفيهم نقد السلطة من نقد أنفسهم وأطرهم، إذ هم شهود عيان يعيشون يوميا تدهور الأوضاع المادية والمعنوية للتعليم ويباشرون كل ساعة برامج غير راضين بل رافضين لمحتوياتها. ويعملون في ظروف مادية مهينة. ألا تحرك هذه الرداءة ساكنا في نفوسهم؟ أينتظر رجال التعليم هيئة إدارية قد تمن وقد لا تمن بها عليهم بيروقراطية خائنة تابعة وذليلة كي يتدارسوا أمرهم في مؤسستهم أو في قطاعهم؟

يدرك كل ذي متتبع للشأن العام أن أجزاء كبيرة وواسعة من قطاع التعليم (طلبة، معلمون، أساتذة...) بدأت تركن إلى عقلية الاستقالة والحلول الفردية وتدبير الراس إما يأسا أو خوفا... ومن هذه الزاوية فقد حققت الضغوط الايديولوجية وحرب المعنويات انتصارات على عموم الشعب وجمهور التعليم كجزء منه معرض للخلخلة والاهتزاز في سلم قيمه ومثله أكثر من أي شريحة أخرى.

ومن هذا المنطلق أيضا وجب على مهندسي الأرواح من هذه الشريحة أن يعيدوا الأمور إلى نصابها وينظموا الهجوم المعاكس كي يقرأ لهم ألف حساب. فتاريخهم حافل بالنضالات الجماهيرية وبالمكاسب الاجتماعية التي ضحوا من أجلها. ومن هذه الزاوية أيضا وجب الرجوع غير القابل للتردد للاجتماعات داخل المؤسسات والربط مع تقاليد الماضي التليد كترويج الكتب الثورية والأشرطة الملتزمة وبعث النوادي المستقلة وتنشيط نوادي السينما والتدخل والدفاع الفكري على التعليم البديل.

كما يتعين على نقابات القطاع الإحاطة اليومية والفعلية بهموم المنخرطين والمسك بالمطالب الرئيسية التي تفتح قنوات الاتصال مع الحركة الديمقراطية وعموم الشعب والمتمثلة اليوم في التصدي لضرب مجانية وديمقراطية التعليم وبيع كامل القطاع إلى الخواص.

إن تحريك قطاعات التعليم بالتنسيق مع فروعه ونقاباته وأطره الممثلة وتنظيم صفوفه وإعادة الروح الوهاجة إليه ليس بالأمر المستحيل رغم عديد العراقيل المنتظرة. كما أن منح الثقة للمرشحين النقابيين، والتجديد النقابي على الأبواب، وسحبها منهم عند الاقتضاء مدخل لتفعيل الهياكل وتصحيح أوضاع القطاع عموما.

وتحتل الأعمال المشتركة (اجتماعات، ندوات، مقررات...) أسلوبا جديا وخطيرا في نفس الوقت. فالسلطة تهاب كل تجميع للقوى وكل تنسيق بين القطاعات. ولما تفكر قطاعات التعليم الثلاثة في هيكل تنسيقي قار أو بديل نقابي يمثل مجمع التربية والتعليم إذا أوصدت البيروقراطية الأبواب أمامه على طول الخط واستحال التقدم بمنظوري القطاعات الثلاثة. فهجمة رأس المال المعولم تقابلها عولمة ضحايا الاضطهاد والاستغلال وتمركز وتجميع نقابات القطاعات. إن الهدف هو إفشال برنامج إعادة هيكلة قطاع التعليم والتصدي للخوصصة فيه. أما الأشكال والوسائل فليست جامدة ومحجرة بل يجب أن تخدم الهدف.

هذا بالنسبة لقطاعات التعليم ونقاباتها ومنظوريها. أما الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني فبالرغم من ان المسألة التربوية تحتل حيزا هاما في برامجها وندواتها وجرائدها فإنها ظلت هي أيضا منحصرة التأثير في هذا القطاع ولا تعدو –في أحسن الأحوال- أن تندد بهذه القرارات أو تلك في بياناتها الموسمية.

إن طرح مسألة الإصلاح الجذري للتعليم على بساط البحث والمعالجة الآنية لمحور من محاور النضال تعد اليوم مسألة وطنية في غاية الخطورة وجب على الأحزاب والمنظمات إيلاءها الأهمية القصوى نظرا لما يتعرض له قطاع التعليم من هجوم خطير من قبل رأس المال الجشع. فالأحزاب الديمقراطية والثورية والمنظمات المستقلة قادرة اليوم رغم ما تعانيه من محاصرة، ليس على معاضدة النقابات ومؤازرتها فحسب بل مسك هذا الملف الشائك والمعقد بيديها وإدراجه ضمن سلم الأولويات في اهتماماتها. ولا تقتصر المسألة على هذا الحد بل المطلوب منها وطنيا ووفاء بالتزاماتها أمام الشعب أن تحول أفكارها إلى أفعال على أرض الواقع فتنظم الندوات وتعقد اللقاءات وتقوم بحملات تحسيسية واسعة النطاق وتستغل ما تيسر من المنابر والفضائيات من أجل خلق حالة عامة من الرفض الشعبي لخوصصة التعليم وضرب مجانيته وديمقراطيته. ولا نخال الأفكار والمقترحات والامكانيات المادية تنقص الرابطة ونقابات التعليم والحزب الديمقراطي التقدمي وحزب العمال واتحاد الطلبة وغيرهم من مكونات الحركة الديمقراطية عندما تتكاثف الجهود. إن ما ينقص هو إطلاق المبادرات وتنظيمها والجرأة على تنفيذها.

إن إجبار السلطة على تحمل مسؤولياتها في نفقات التعليم وثنيها على التراجع عن خوصصته مهمة قابلة للانجاز لو تتظافر الجهود وتعمل سويا في أطر مستقلة ومناضلة تبعث للغرض تقوم بحملات توعوية متواترة تتوج بندوة أو ندوات وطنية تتنادى لها القوى الديمقراطية وتحشد لها الطاقات البشرية الغيورة على تعليم في خدمة الشعب وتنجز أعمالا وأشكالا نضالية جماهيرية كفيلة بفرض التراجع على السلطة.

إن قوة السلطة ليست في بدائلها ولا في برامجها ولا في الأموال التي تغدقها يمينا وشمالا بل قوتها في ضعف الحركة الديمقراطية وتشتيت مكوناتها ومنظماتها وأحزابها.

وفي قضية الحال يمثل قطاع التعليم تربة خصبة ومناخا مهيأ لخوض العمل الديمقراطي المشترك وهو قطاع خارج عن سيطرة السلطة.

إن حملة واسعة النطاق تقوم بها النقابات والرابطة واتحاد الطلبة والأحزاب الديمقراطية ضد الدروس الخصوصية في التعليم توظف لها الامكانيات المادية والبشرية وتقام بعقلية نضالية وقناعات راسخة في درء هذا الخطر كفيلة بفرض التراجع على أصحابها. إذ أن الدروس الخصوصية هي سرطان داخلي يتورم ويتوسع باستمرار ليشمل كافة مستويات التعليم وهو آفة تستنزف الطاقة الشرائية للعائلات وهو الذي سهل على السلطة تشريع الخوصصة في القطاع إذ هي تدرك جيدا الحالة الصحية والمعنوية للقطاع والتجاذبات الأنانية لأعداد غفيرة منه ونوعية الخطاب الذي يدور في أوساطه وحالة الهياكل المؤطرة له وهي اليوم سعيدة ومسرورة بتصريف الأزمة عبر الدروس الخصوصية. ولكن من جهة أخرى وبالمقابل فإن أغلبية منظوري هذه القطاعات ظلوا دوما سباقين للاحتجاجات ومثّلوا دوما العمود الفقري للمفاوضات النقابية والسياسية وأشكال التمرد ويرفضون اليوم دفع فاتورة الأزمة فليتحمل الأزمة المتسببون الحقيقيون فيها ولنطرد الخوصصة من قطاع التعليم ولنسترجع ثقتنا بأنفسنا وفي أطرنا وفي النضال الميداني.

إنها معركة وطنية قادرون على خوضها وتوفير شروط النجاح لها خصوصا وأن ارتباكا في فلول السلطة ووزارات التربية والتعليم بدأ يظهر للعيان (تعليق العمل بالكفايات الأساسية ومشروع المؤسسة...) واختيار صائب لتوقيت شن الهجوم المعاكس بعد الدراسة المستفيضة والدقيقة للأمور كفيل بكسب المعركة، معركة إعادة الاعتبار للتعليم المجاني والديمقراطي والعقلاني، معركة تعليم في خدمة الشعب.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني