الصفحة الأساسية > البديل العالمي > الفكرة العلمانية والحضارة العربية (5)
ماذا تعرف عن العلمانية ؟:
الفكرة العلمانية والحضارة العربية (5)
10 آذار (مارس) 2007

تحدثنا في الحلقة الماضية من هذه المقالة (صوت الشعب، العدد 250، 17 أكتوبر 2006) عن كون الفكرة العلمانية وليدة التطور التاريخي الذي شهده المجتمع البشري ونتاج تحولات تاريخية أكدت حاجة البشر إلى إدارة شؤون الاجتماع والسياسة بأدوات وآليات عقلانية وأرضية وبالتعاقد الذي يقع الاتفاق عليه دون تدخل أي قوة متعالية. وكانت الثورة البورجوازية القائمة على نمط الإنتاج الرأسمالي وبنيته الفكرية والثقافية والقيمية هي التي آذنت بوجوب رفع القيود المادية والمعنوية المكبلة للإنسان بما فيها القيود التي فرضتها المؤسسة الدينية وضربها الفكر الغيبي، وضرورة إقرار حرية المعتقد والنظر إلى الدين باعتباره شأنا شخصيا ومسألة خاصة تحسم بين الإنسان ومعبوده، ولا دخل لأحد فيها، جماعة كان أو فردا. ولقد نكصت البورجوازية بعد ذلك كما هو معروف وغلبت عليها، وهي تنزع منزع القوة الرجعية المحافظة، نزعة استغلال الدين لصالحها واستحضار أرواح العالم القديم أملا في تأبيد نفوذها وكبح جماح القوى الصاعدة التي تهدد بتجاوزها.

أما علاقة الفكرة العلمانية بالثقافة العربية الإسلامية عبر تاريخها الطويل فهي لا تحتاج إلى دليل رغم وجود من ينفيها ويزعم –بناء على نفيها- أن مجد الحضارة العربية الإسلامية قام على أسس ودعائم دينية.

لكن الإقرار بوجود الفكرة وتأثيرها في مجرى تطور هذه الحضارة وفي منع لحظات إشعاعها وقوتها ليس من شأنه أن يدعو إلى القول بأن تلك الفكرة كانت متبلورة ومكتملة منذ البدء لأن الأمر كان أقرب إلى التحسس وينبغي أن ينتظر نضج المعطيات واستعداد البيئة الحاضنة وصعود التركيبة الاجتماعية الحاملة كي يتشكل في رؤية واعية وهو ما تم إبان الثورة البورجوازية قبل قرون من الآن. لقد تحسس المتعقلون والمتنورون وأهل الرأي والاجتهاد من بناة الحضـارة العربية قيمة الفصل بين الشأن الديني والشأن الدنيوي حتى يستوي أمر المدينة المنشودة وسوغوا ذلك، في ظل النظام الإقطاعي وإيديولوجيته الدينية، بذرائع وحيل مثل "مراعاة أسباب النزول" و"مراعاة أحوال الوقت" و"الحيلة الشرعية" و"دفع المضار" الخ.. وغالبا ما مورست القناعات ذات النسق العلماني من دون تبريرات نظرية سوى ما كان من قبيل الخطوات والتلويحات سواء تم ذلك في ميدان العلوم أو الأدب أو الاجتماع أو السياسة. ونريد أن نستدل على دور المنظور العلماني في تطور الحضارة العربية الإسلامية بما بلغته هذه إبان العصر الوسيط، الذي كان ظلاما على أوروبا والغرب (بعد استثناء إسبانيا الأندلسية). وبالعودة إلى تراث الحركة الشيوعية التونسية الحديثة نفسه في سنوات الثمانين من القرن الماضي وإلى المساحات التي قابلتها بالحركة الأصولية حول موضوع الدين والدولة، وقضية المرأة، نقرأ في سياق الحديث عن العلمانية وفضائلها ما يلي، وهو من صميم مضمون هذه الحلقة:" ينبغي البحث عن سر تطور الحضارة العربية إبان العصر الوسيط لا في الإيديولوجيا الدينية نفسها ولكن أولا وقبل كل شيء في الواقع المادي للعرب الذين انتقلوا نهائيا مع مجيء الإسلام إلى المجتمع الطبقي وشهدوا منذ الدولة الأموية تركز النظام الإقطاعي (...) وإذا أمعنا النظر في الجانب الفكري لهذا التطور الحضاري فإننا نجد أن المنطلقات التي ارتكز عليها هي في تناقض مع الإيديولوجيا الدينية الإسلامية القائمة على تفسير ميتافيزيقي للكون والمجتمع. إن أهم عنصر فلسفي تطور في هذه الفترة وحكم بالتالي تطور العلوم والثقافة هو العقلانية المبنية على بعض التصورات المادية. وكمثال على ذلك نذكر المعتزلة وابن سينا والمعري وابن رشد لقربهم من أذهان القراء. فالمعتزلة هم أصحاب نظرية القدرية (نسبة إلى القدرة لا إلى القدر) التي تؤمن بحرية إرادة الإنسان ضد الجبرية الإيديولوجية الإسلامية في ذلك الوقت (...) أما المعري فالجميع يعلم أنه اعتـبر أن "لا إمام سوى العقل..."(...) وطور ابن رشد العناصر المادية في فكر أرسطو فأكد أن المادة والحركة خالدان ولم يقع خلقهما كما أنكر خلود الروح والحياة الآخرة (...) ومن جهة أخرى طور ابن سينا المعارف التجريبية القائمة على التجربة والملاحظة والحجة المنطقية (...). إن الخيط الرابط بين جميع هذه المواقف هو الصراع بين الفكر المادي والفكر المثالي الذي يجسمه الفكر الديني أجلى تجسيم. وقد شق هذا النزاع حتى المعارف اللغوية فانقسم اللغويون إلى قسمين: القائلون بأن اللغة ظاهرة اجتماعية تاريخية وبالتالي من صنع البشر والقائلون بقدمها وبكونها من خلق الله. إن جميع هذه العناصر المادية العقلانية هي في الحقيقة الأساس الفلسفي لذلك التطور الحضاري الذي عرفه العرب في العصر الوسيط وفي ظل الهيمنة الإقطاعية. وما أن استنفذ النظام الإقطاعي إمكانياته التاريخية حتى دخل بدوره في أزمة خانقة...". (في اللائكية، حمه الهمامي، 1988، ص59 – 61).

تعمدنا إطالة الشاهد الذي يستجيب لحاجة هذا المقال والذي يذكر بما سبق من إسهامنا الفكري في القضايا التي نراها تعود عودا على بدء اليوم، وإن كان الشاهد يبقى مقتضبا ومجملا ولا يغني من العودة إلى الكتاب، فأمثلة التمشي العقلاني والرؤى "العلمانية" كثيرة في التراث العربي الإسلامي ومن الممارسة الواقعية سواء تعلق ذلك بسياسة الساسة أو بأدب الأدباء ونقد النقاد وقضاء القضاة أو بغيره، حيث كان يوجد من يعتبر هذه الأنشطة "الدنيوية" بمعزل عن الدين، وأن تديينها يزيدها فضيلة على سواها. وأمام الراغب في التوسع والتزود جهود جمة عربية وتونسية، داخل الجامعات وخارجها، لباحثين حرصوا، وإن بتفاوت ومن مواقع ومنطلقات غير متجانسة، على الاقتراب من الحقيقة وإصابة الموضوعية في قراءة ومعرفة التاريخ وإعادة فتح الملفات المحنطة ومعرفة أسباب التطور وعلله وأسراره.

(يتبع)



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني