الصفحة الأساسية > البديل النقابي > حملة تجديد النقابات الأساسية والرّهانات الحقيقية
حملة تجديد النقابات الأساسية والرّهانات الحقيقية
10 كانون الثاني (يناير) 2004

بعد أيام قليلة ستنطلق حملة تجديد النقابات الأساسية التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل ومعها ستنطلق حملات التجند والحسابات والتحالفات و"المعارك" الخفية والظاهرة حول المواقع داخل المنظمة النقابية. وإذا كان لهذا التجند وهذه الحسابات والصراعات والتحالفات ما يبررها فإن ما يجب التذكير به هو الطابع المبتذل واللامبدئي الذي اتخذته هذه المظاهر منذ مدة والذي وجب اليوم التباين معه. أي أنه إذا كان من المشروع لكل مناضل أو ناشط نقابي حق الدفاع على حظوظه للفوز بأصوات الناخبين للعودة لتشكيلة النقابة الأساسية، وإذا كان من المشروع له أن يدّعي أنه الأكفأ من غيره في الدفاع على مطامح ومطالب زملائه، وإذا كان من المشروع له أن يحسب لخصومه كل الحسابات اللازمة وأن يتحالف مع من يختار من المزاحمين، وإذا كان من المشروع له أن يدافع على حظوظه كأشرس ما يكون باعتبار أن الفوز في النقابة الأساسية هو من أهم البوابات لخوض غمار انتخابات النقابات الجهوية والفروع الجامعية والجامعات والاتحادات الجهوية وحتى المكتب التنفيذي للمنظمة النقابية لاحقا، إذا كان كل هذا مشروعا فإن ما يجب التنبيه له هو أن انتخابات هذه المرة ينبغي أن تكون مغايرة عن سابقاتها لأكثر من سبب.

1 – وضع اجتماعي جديد

لقد شهد الوضع الاجتماعي في تونس ترديا لم يسبق له مثيل يشبه إلى حد بعيد وضع ما قبل أحداث 26 جانفي التي نحن على أبواب إحياء ذكراها الخامسة والعشرين. ويتجلى هذا التردي في تفاقم ظاهرة البطالة التي تمس أكثر من 30% من الذين هم في سن الشغل في بلادنا. ولا تعني هذه الظاهرة طالبي الشغل الجدد فقط وإنما تطال كل يوم أكثر عمال وموظفي المؤسسات الخاصة والعمومية التي ما تنفك تغلق أبوابها وتسرح أفواجا متزايدة من عمالها. وفي غياب استثمارات جديدة وفي ظل هيمنة منطق توظيف الرساميل في القطاعات الخدماتية غير المنتجة وانتشار أنماط التشغيل الهشة (المناولة ...) أصبح حق الشغل مهددا بصورة جدية. وعلى خلاف ما تدعيه السلطة والبيروقراطية من تحسينات في المقدرة الشرائية عبر المفاوضات الثلاثية المتتالية فإن حملات الزيادة في الأسعار وارتفاع نسبة التضخم دهورت المقدرة الشرائية للأجراء ولعموم الشعب أكثر من ذي قبل. وبصورة موازية لذلك كثف الرأسماليون، أصحاب المؤسسات والدولة، من هجومهم على ظروف العمل وصعّدوا من وتائر استغلال العمال للتقليص من كلفة الإنتاج والزيادة في الأرباح وتم في هذا الإطار التراجع في عديــد المكاسب الجزئية التي فرضتها نضالات الماضي وتضمنتها تشريعات العمل العامة والقطاعية والخاصة.

إن تشجيع الدولة لطفرات الاستهلاك والتهافت على الإنفاق والتداين لا يمكن أن تحجب تفاقم ظاهرة الفقر وانتشار ظواهر التسول والفساد، كما أن الدعاية الرسمية حول تحسن مؤشرات الاقتصاد والرفاه العام لا يمكن أن تغطي على المآسي التي يعيشها المواطن في مجالات النقل والصحة والسكن والتربية والدراسة والثقافة والمعيشة اليومية. ويحق القول اليوم أن نمط التنمية الرأسمالي الليبرالي الذي اتبعه النظام التونسي لم يؤدي إلا لمزيد ارتهان اقتصاد البلاد للخارج وللعوامل الطبيعية فضلا عن هشاشته وضعفه وتفككه ولم يجن منه الشعب غير مزيد من الأتعاب. وليس من المبالغة في شيء القول بأن النظام التونسي على أبواب مأزق اجتماعي كبير. وحري بالنقابيين أن يدركوا هذه الحقيقة قبل غيرهم باعتبار الصفة التي تحملهم مسؤولية خاصة في التعاطي اليوم وغدا مع تطورات الواقع الاجتماعي. وأحرى بالذين يتأهبون لخوض معركة تجديد النقابات الأساسية وضع هذا الاعتبار في صدارة انشغالاتهم وعلى رأس برامجهم النضالية لينالوا بحق شرف ثقة القواعد فيهم.

2 – فشل المدرسة البيروقراطية

واحد من أهم الفوارق بين واقع اليوم وظروف ما قبل 26 جانفي 78 هو تخلف العنصر الذاتي داخل الحركة النقابية، ونقصد هنا بالعنصر الذاتي تخلف حالة معنويات الهيكل النقابي ووعي النقابيين ككل. فقبيْل 26 جانفي واجهت المنظمة النقابية المأزق الاجتماعي للدولة بإرادة نضالية أفضل وباستعدادات كفاحية أكبر وبرغبة أشد في الاستقلالية وبوفاء أبرز لمصالح الشغالين بصرف النظر عن الحسابات والمناورات السياسية الأخرى.

أما اليوم فإن ما يزيد عن 14 سنة (أي منذ صعود السحباني على رأس الإتحاد) من تدجين المنظمة ووضعها تحت نفوذ المنطق البيروقراطي وهيمنة السلطة المباشرة أودت بها إلى حالة من الترهل والضعف والعجز لم تعرفه من قبل إلا في الستينات. والخطير في ذلك أن الرؤية النقابية المخربة والمعادية للعمال لم تعد من خاصيات القيادة فحسب وإنما أضحت مرضا شائعا ومتفشيا داخل المنظمة وعلى أوسع نطاق ينخرها من فوق إلى تحت أفقدها مناعتها ومقدراتها النضالية.

لقد أرست المدرسة البيروقراطية على شاكلة السحباني قواعد مفهوم نقابي متعاون وشريك مع السلطة يساعد على تمرير اختياراتها ويبرر مخططاتها ويزكي قراراتها وتشريعاتها بدرجة تحول الاتحاد إلى حليف أساسي لنظام الحكم السياسي وركيزته الاجتماعية وأداته الرئيسية إلى جانب القمع في ما يتباهى به من سلم واستقرار اجتماعيين. وغاب عن رموز هذا التوجه أن الفتات الذي أغدقته عليهم السلطة إنما هو ظرفي ومرتبط بالظروف وأنها لن تتوانى على حرمانهم منه حالما تتيقن من أن المنظمة اهترأت ولم يعد بها ما يسمح لهم باستعمالها كأداة للضغط على مصالح الحكم. ولنا في ما آل إليه السحباني خير دليل على هذه الحقيقة. ولنا أيضا اليوم في الاحتقار الذي تعامل به السلطة قيادة الاتحاد أدلة إضافية على ما نقول وإلاّ ما يعني أن تمرر السلطة مشاريعها في "مدرسة الغد" وفي التأمين على المرض وغيرهما من الملفات وما يعني ما تتخذه من قرارات بالزيادة في الأسعار وبالتفويت في المؤسسات وما يعني ما تصدره من قوانين وأحكام تخص أحيانا وضعيات نقابية داخلية بحتة (حالة التعليم العالي مثلا) وما يعني ما تأمر به من إجراءات تعسفية ضد الهياكل النقابية والنقابيين غير أنها لم تعد تعير للمنظمة النقابية أي اعتبار لا لشيء إلاّ لأنها مدركة أن هذه الأخيرة أصبحت غير قادرة اليوم على الاحتجاج والضغط.

إن التخريب الممنهج للوعي النقابي وللمنظمة من الداخل الذي سار عليه السحباني ثم تداول عليه خلفه بعد ذلك في ما يسمى التصحيح بدأت أثاره تنقلب على هؤلاء بعد أن ألحق بالنقابيين وبالعمال أبلغ الأضرار. وباتت المنظمة النقابية مهددة بأزمة أعتى من أزمات الماضي لأنها وليدة سيرورة تخريب داخلي أملته السلطة ونفذته أيادي نقابية من الداخل.

3 – افتضاح التصحيح المزعوم

إن الشعور بهذه الحقيقة ليس وليد اليوم فحسب وإنما هو قناعة عدد غير قليل من النقابيين منذ سنوات غير أن ما يسمّى بحركة التصحيح أدخلت شيئا من التشويش على أذهان البعض منهم وغالطتهم بشعارات اقتبستها من احتجاجات معارضي السحباني ومطالبهم وفتحت لهم آفاق أمل كاذبة سرعان ما افتضحت على حقيقتها. وإذا كانت دعوى "محاسبة السحباني لاسترداد أموال المنظمة التي سرقها" بتعلة الغيرة على الشفافية المالية كذبة مجردة ولم تنطل على أحد فإن ما رفعه دعاة "إعادة الاعتبار للديمقراطية النقابية ومعالجة المظالم المرتكبة في عهد السحباني أخذت وقتا أطول لكي تتضح على أنها هي الأخرى مجرد كذبة "لترويم" النقابيين. ولعل ما "دوّخ" بعض النقابيين مجريات مؤتمر جربة الذي بدا وكأنه ديمقراطي اُحتُرِمت فيه إرادة النواب ومن ورائهم القواعد العمالية. والحقيقة أن مجريات الانتخابات القاعدية والجهوية والقطاعية التي سبقته وكذلك توزيع النيابات والتي حصلت خلالها تصفيات وإقصاءات وتجاوزات كثيرة كانت هي الشروط التي سمحت لفريق التصحيح بعقد المؤتمر الاستثنائي – الذي رفضوه قطعيا في البداية وعندما نادى به النقابيون الراغبون في تصحيح حقيقي – بعد أن اطمئنوا على نتائجه.

لذلك لم يكن مؤتمر جربة غير حلقة في مسار من إعادة ترتيب البيت من زاوية تفكير وتخطيط السلطة والبيروقراطية النقابية للحفاظ على المنظمة النقابية في الموقع والدور الذي وضعتاها فيه. والدليل على ما نقول سلسلة المواقف التي اتخذتها البرقراطية من مختلف القضايا الوطنية والنقابية المطروحة. ويعلم الجميع أن قيادة جربة وقفت ضد مطلب العفو التشريعي العام وسرعان ما تراجع جراد على تبنيه له كما أن ذات القيادة عادت لموقفها المناوئ لرابطة حقوق الإنسان بل وهددت نقابيي جندوبة بإحالتهم على لجنة النظام لمجرد سماحهم بعقد مؤتمر فرع الجهة في الاتحاد الجهوي هناك. وقيادة جربة هي التي وقفت ضد إضراب الساعتين الذي قرره المؤتمر مناصرة لانتفاضة الشعب الفلسطيني الشقيق وهي التي رفضت احتضان الاتحاد للمظاهرات والتجمعات المساندة للعراق وهي التي تراجعت عن مشروع بعث منتدى اجتماعي مع بقية جمعيات ومنظمات المجتمع المدني ترضية لتعليمات السلطة. ولا نخال النقابيين نسوا تحوير المسؤوليات داخل المكتب التنفيذي لتأديب رضا بوزريبة لا لشيء إلا لأنه بدا وكأنه وراء تجرئ عدد من أعضاء الهيئة الإدارية رفضوا الانصياع لما يسمى بقائمة الأمين العام عند انتخاب لجنة المراقبة المالية رغم أنها هيئة غير ذات سلطة قرار. ومن غير المستبعد أن يلقى عبيد البريكي ذات المصير إثر الخلاف الذي نشب بينه وبين الأمين العام – وبالطبع بقية المكتب التنفيذي أو على الأقل غالبيتهم الساحقة - . وغير هذه الأدلة كثير وكثير.

هذا ما يدل على أن الذين أعلنوا الانقلاب على السحباني بدعوى "التصحيح" وأعيد انتخابهم في جربة افتضحوا على حقيقتهم. لقد افتضحوا على أنهم نتاج نفس المدرسة ولا يمكن أن يتصرفوا ولا أن يقودوا المنظمة إلى في السياق الذي قادها فيه السحباني من قبل بل وبصورة أتعس وأفضع.

4 – تردي الأوضاع النقابية

وبالنظر لكل ما سبق تبيانه أصبحت المنظمة النقابية في وضع لا يحسد عليه وباعتراف قادتها أنفسهم. فهي في علاقة بالعمال شبه منعزلة تقريبا لأنها لم تعد تواكب ما يحصل من تطورات على الساحة الاجتماعية وخاصة ما يطرأ على عالم الشغل من تحولات. ومن أبلغ الدلائل على ذلك انحصار تأثيرها في القطاع الخاص الذي أضحى يستوعب أكثر من ثلثي اليد العاملة في بلادنا وكذلك غيابها عن وسط العاملين في القطاع الهش بل وإصرارها على التمسك بأشكال عمل وتأطير قديمة لا تتماشى إلا وظروف التشغيل الكلاسيكية في الوظيفة العمومية وبالكاد في القطاع العمومي. ويقر عدد غير قليل من الكوادر النقابية أن عدد المنخرطين في القطاع العام تراجع بصورة مفجعة وهو في القطاع الخاص لا يزيد عن خمسة بالمائة باعتراف جراد نفسه. وزيادة على هذا لم يعد للنقابات الموجودة مصداقية كبيرة لدى قواعدها ولا نفوذ في مؤسساتها ولا وزن لدى أرباب العمل والمسئولين في الإدارات. وقد تمكنت هياكل غير شرعية من افتكاك أدوار كثيرة كانت النقابات تضطلع بها مثل الشعب المهنية ولجان المؤسسات. ومن الظواهر الجديدة أن العمال أصبحوا غالبا ما يدخلوا في نضالات عفوية دون علم هياكلهم النقابية –الغائبة على الساحة- للدفاع على مصالحهم ومن الأمثلة البارزة في ذلك ظاهرة إضرابات الجوع التي تنجر النقابات لتبنيها انجرارا لتسجيل حضورها لا أكثر أو كي لا تفلت منها الأمور أكثر.

لقد تحولت النقابات – باستثناء قلة قليلة منها – إلى هياكل جوفاء اختصاصها التفاوض والمساومة تعيش على وقع صراعاتها الداخلية وأضحى النقابيون خبراء "تكمبين" وتسويف. كما أصبحت المسؤولية النقابية بمثابة ترقية اجتماعية ومصدرا للامتيازات للفاشلين مهنيا ومحدودي الكفاءة. ولو استعرضنا أعضاء الهيئة الإدارية الوطنية لأحصينا عدد غير قليل من الذين نالوا مناصب ومسؤوليات إدارية عليا في مؤسساتهم الأصلية وأحيانا في قطاعات غير قطاعاتهم لا يمكن أن يحلموا بها لولا مسؤولياتهم النقابية.

وبطبيعة الحال لا يمكن في مثل هذه الأوضاع وبمثل هذه الذهنية أن تكون الانتخابات القاعدية القادمة غير مناسبة لإعادة إنتاج التخلف والرداءة بعد أن تكون محطة تلهى فيها محترفو المواقع بصراع القوائم واغتصاب الأصوات. وفي هذه الحالة أي موقع سيكون للمنظمة النقابية من متطلبات الوضع الاجتماعي السائر نحو مزيد التأزم وأي جدارة ستكون للإطارات النقابية لدى الحركة الاجتماعية الآخذة في النهوض؟

5 – نهضة الحركة الديمقراطية والاجتماعية

شهدت السنوات الأخيرة عودة الحياة تدريجيا للحركة الديمقراطية التي فرضت بعض التحركات والأنشطة وخلقت بعض فضاءات العمل ورفعت شعارات لم تكن قادرة على رفعها طوال سنوات خلت وحققت مكاسب ولو جزئية ومحدودة تعتبر مهمة وثمينة لا محالة. وهناك اليوم مؤشرات كثيرة ظهرت في الأيام الماضية تدل على أن الحركة الديمقراطية قادرة على المضي قدما نحو آفاق جديدة كي تصبح رقما مهما في موازنات الوضع السياسي ببلادنا. وتبقى نقطة ضعفها الكبرى انعزالها على الحركة الجماهيرية والحركة الاجتماعية بخاصة. ونقصد بالحركة الاجتماعية هنا كل مظاهر المطالبة والتحرك والاحتجاج – وحتى التململ – لجماهير الشعب ابتداء من التذمر من غلاء المعيشة وصولا إلى الاحتجاج على مخلفات الفيضانات.

بارقة الأمل هي تلك التحركات التي تندلع هنا وهناك في شكل إضرابات واعتصامات وإضرابات جوع دفاعا على حق الشغل وظروف المهنة مثل ما حصل في قصر هلال وبن عروس ونعسان وسقانص والرديف وغيرها. وهي أيضا إضراب عمال مؤسسات المناولة وإضراب أساتذة التعليم العالي والإضرابات المنتظرة في جهة بن عروس الشهر القادم.

هذه التحركات على محدوديتها ورغم طابعها المطلبي الصرف وموقعها الدفاعي تؤكد أن جذوة النضال لم تمت وأن مشاريع القضاء المبرم على شكل الإضراب لم تبلغ غايتها بل أن الطبقة العاملة مازال في مخزونها الكثير من التصميم والقدرة على النهوض ولو من تحت ركام الخرابة التي أقامتها السلطة بتواطئ من البيروقراطية.

إن الظروف الموضوعية ناضجة اليوم لاندلاع نهضة نضالية عمالية لأن الأزمة الاجتماعية بلغت درجة لا بأس بها من الاحتدام من حيث تفاقم البطالة والتعدي على حق الشغل ومن حيث دهورة ظروف العمل والتعدي على الحق النقابي ومن حيث اهتراء المقدرة الشرائية وغلاء الأسعار واتساع رقعة التذمر الشعبي ومن حيث انتشار مظاهر الفقر وتعمق الفوارق الاجتماعية وبين الجهات. ولا ينقص اليوم غير أن يتحمل النقابيون مسؤولياتهم لا فقط في صياغة برامج النضال اللازمة حيال هذا الواقع وإنما خاصة في التخلص من قيود عقلية التهادن والجرأة على المقاومة.

6 – العودة للأصول ومسؤولية اليسار

لقد نشأ العمل النقابي رغم طابعه الإصلاحي نضاليا وراكمت الطبقة العاملة في العالم كما في بلادنا رصيدا فكريا وخبرة نضالية غنية جدا في مضمار تطوير مضامين وأشكال النضال النقابي.

لكن البرجوازيون، حكومات وأرباب عمل، واكبوا هذا التراكم بتجديد مستمر لطرق تدخلهم وتخريبهم ومغالطاتهم كي تظل النقابة دوما جهازا من أجهزة إعادة إنتاج نظامهم لصالحهم حتى وإن اقتضى الأمر ذلك بعض التنازلات للحفاظ على جوهر امتيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومن أبرز مناوراتهم توصلهم دوما إلى استمالة القيادات النقابية وشرائها بامتيازات خاصة تحوّل عناصرها تدريجيا إلى شريحة من درجة مميزة، شريحة الأرستقراطية العمالية، تستعملها لتخريب النضالات وقمع التحركات وبث الأوهام والمغالطات والأكاذيب. وللنجاح في هذه المهمة تحوّل هذه القيادات المنظمات النقابية إلى أجهزة بيروقراطية واقعة تحت نفوذها تسيرها على طريقتها وتتحكم في عملها كي لا يتسرب لها المناضلون الصادقون الذين يرفضون اقتراف جريمة خيانة زملائهم مقابل فتات من الامتيازات الخاصة. ولذلك لا تتوانى هذه القيادات المتبقرطة والمتبرجزة عن محاصرة هؤلاء المناضلين بل وعن طردهم إن لزم الأمر مرة بدعوى " منع تسييس المنطمة" و"استغلال المنظمة النقابية لأغراض حزبية" ومرة بتعلة "خرق القانون" وأخرى بسبب "تجاوز قرارات الهياكل القيادية" وهلمجرا من التبريرات.

ولقد كان النقابيون اليساريون أكثر المناضلين عرضة لهذا التعسف الذي كان القصد منه دوما قطع الطريق أمامهم والحيلولة دونهم والقواعد العمالية حتى لا "يبثوا جرثومة الوعي العمالي الثوري" الذي لا يخضع لمغالطات القادة المتواطئين مع العدو الطبقي.

والمناضلون اليساريون الذين عاشوا جدلا فكريا، نظريا وسياسيا، حول موجبات ودواعي الدخول في المنظمات النقابية حسموا هذا الجدل في العالم كله كما في بلادنا لصالح الالتحاق بها والتأثير في توجهاتها لصالح الجماهير العمالية والتدرج بهذه الأخيرة نحو درجات وعي أعمق وأشكال نضال أرقى.

ومعلوم أن انخراط الاتحاد العام التونسي للشغل في النضال من أجل الحريات العامة والفردية والمطالبة بالعفو التشريعي العام مثلا كان الفضل فيه لمناضلي اليسار منذ موفى السبعينات حتى الآن. ومعروف أيضا أن أفضل التجارب النقابية في قطاعات كالتعليم العالي والثانوي والأساسي وكالبريد والسكك الحديدية وقطاع المالية والصحة وكمؤسسات الرفاهة والأثير سابقا كان الفضل في بعثها وتطويرها لمناضلي اليسار أيضا. وليس من الغرابة في شيء أن تستشرس السلطة والبيروقراطية في مواجهة هذه التجارب وفي أن تتولى قيادة الاتحاد منذ زمن طويل طرد رموزها ومناضليها مثل ما جرى في التعليم الثانوي في السبعينات وفي التعليم والبريد والرفاهة والسكك وتونس الجوية وغيرهم في الثمانينات (حملة التجريد) ومثلما حصل خاصة في البريد في التسعينات. وحتى اليوم نسمع من حين لآخر اعتزام قيادة الاتحاد شن حملة "تطهير" داخل المنظمة مرة لأن "شرذمة من عناصر اليسار" أفسدت حفلا أقامه الاتحاد في المسرح و مرة لأن ذات الشرذمة رفعت شعارات "مناوئة للمنظمة" بمناسبة إحياء احتفالات غرة ماي (ماي 2001) ومرة لأن ذات "المشاغبين" رفعوا شعارات ليست من شعارات المنظمة بمناسبة إحياء ذكرى اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد ( 4 ديسمبر 2003 ). وإن لم تذهب القيادة في نواياها إلى النهاية ففقط لأن أوضاعها الداخلية لا تسمح بذلك من جهة ولأن "هذا التنطع" اليساري ليس غير شاذ بما أن عموم سلوك اليسار في الاتحاد أقرب منه لمسايرة الخط العام أكثر من معارضته.

إن مكاسب تجربة اليسار في الحركة النقابية وفي الاتحاد بالذات لا مجال لنكرانها ولكن ذلك لا يجب أن يحجب عنا حجم وخطر الضرر الذي ألحقه اليسار نفسه بالحركة النقابية في السنوات الأخيرة حين اندمج مناضلوه بمسار التهافت على المواقع دون أدنى اعتبار للمبادئ النقابية النزيهة. لقد تحوّل عدد غير قليل من غلاة التجذر اليساري داخل الاتحاد إلى أبواق دعاية ومنظرين للتمشي البيروقراطي بل قل أصبحوا نواة بيروقراطية ناشئة ومن طراز جديد. ومما لا شك فيه أن اليسار خسر كما هائلا من طاقاته النقابية التي انفصلت عنه والتحقت بالصف البيروقراطي وصار البعض منهم ميئوسا من انتشاله من التفسخ الطبقي والفكري رغم تشبث البعض بالقشرة اليسارية للتمويه والمزايدة وللتغطية على مواقفهم ولخيانتهم لمنطلقاتهم ولمنحدراتهم الفكرية.

واليوم ونحن على أبواب حملة تجديد النقابات التي سيكون لمناضلي اليسار فيها بصمة أكيدة يتعين إعمال غربال الفرز بين من يدعي اليسارية ومن مازالوا أوفياء لها أو على الأقل مستعدين لتقييم ونقد سلبيات تجربتهم. وحري بكلمناضل يساري من كل الاتجاهاتوالمجموعات اليسارية دون استثناء أن يضع دخوله معركة الانتخابات المقبلة في ميزان المعادلة التالية : فإما الدخول للنقابة من أجل الإضافة الحقيقية والصادقة دفاعا وصونا لشرف اليسار وإما التنصل طواعية من هذه الجبة والالتحاق في الوضوح بالبرقراطية دون خجل. وصون شرف اليسارية يعني اليوم خوض معركة الانتخابات على قاعدة برامج انتخابية نضالية ومواثيق تحالف وعمل يساري مشترك قوامه اقتران المقولات المتجذرة بالممارسة الجريئة والفاعلة.

إن ما يميّز مناضلي اليسار كما نشأ في الجامعة وفي الحركة النقابية هو الالتصاق بالجماهير ومعايشة مشاكلها والانصهار في صفوفها في مواقع العمل وفي ظروف حياتها اليومية والعمل الدءوب معها لفهم منشأ المآسي التي تعانيها والتقدم لها بمقترحات ملموسة ومخاطبتها بلغة دعاية تستوعبها وترتقي بوعيها لا بمزايدات لفظية تعقد طلاسم الواقع أمامها أكثر. إن مناضلي اليسار مطالبون بهجران مقرات التفرع النقابي وحانات ومقاهي و"حلق" النقاشات البيزنطية والمثقفاتية التي تزيد في عزلتهم كل يوم عن العمال أكثر.

إننا كلنا وبدرجات متفاوتة واعين على الأقل بالضرر الجسيم الذي ألحقه مناضلو اليسار بالحركة النقابية وعلى وجه أدق الإضرار بالإضافة التي كان ينبغي أن يقدموها لها عند مجيئهم لحقل النضال العمالي. ولنا في حملة الانتخابات القادمة فرصة من ذهب لنتدارك الأمر وإلا فإن الآتي سيكون أتعس.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني