الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > "مناضل رغم أنفه" لعبد الجبّار المدّوري نموذجًا (3/3 الأخيرة)
أدب السّجون في تونس:
"مناضل رغم أنفه" لعبد الجبّار المدّوري نموذجًا (3/3 الأخيرة)
20 شباط (فبراير) 2010

ب- المباشرة:

الكتابة القصصيّة فنّ مخصوص له مقوّمات محدّدة تميّزه عن المقال الصحفي والخطاب السياسي والمنشور الحزبي. ومن ثمّ تقتضي هذه الكتابة طرائق على الكاتب تمثـّلها وامتلاكها ليوفـّر لنصّه قدرا كبيرا من النجاح. فالقاصّ مدعوّ إلى تنويع أساليب الكتابة من قبيل الإيحاء والرمز والمزاوجة بين الواقع والخيال والتصرّف في أفانين الكلام حتّى يجد القارئ متعة تفتقر إليها النصوص التي تلتزم التصّريح والتفصيل والإسهاب.

ولكن عندما يتقيّد الكاتب بأسلوب واحد قوامه المباشرة والخطابة باسم الواقعيّة وإيصال الفكرة للقارئ العادي وتجنّب الغموض والنخبوية ونبذ التعالي فإنّه، بالتزامه هذا المنحى، يضعف جانب الإبداع ويحوّل نصّه إلى نصّ خال من الطرافة. وقارئ نصّ" مناضل رغم أنفه" يلاحظ أنّ الخطاب المباشر هو الخطاب المهيمن على نسيج السرد والطاغي على مظانّ النصّ ممّا قرّب هذا الأثر من الكتابات السياسية المباشرة إذ يندر أن نجد مقاطع سرديّة تنقل القارئ إلى عالم الخيال وتحثـّه على قراءة ما بين السطور وتدفعه إلى التأمّل في ظاهر الفقرة وباطنها.

والمقاطع السرديّة التي تحوّلت إلى خطب سياسية مباشرة كثيرة وتمتدّ أحيانا على أكثر من صفحة. مثل النقاش الذي دار خلال اجتماع حزبي، سرّي، وتمحور حول سياسة السلطة الحاكمة تجاه حزب العمّال: خطب مباشرة وحديث عن الحرّيات السياسية وإدانة صريحة للنظام وتشهير بالقمع وتحدّ صارخ للسلطة الحاكمة..

وتتكرّر مثل هذه الفقرات التي كُتبت بأسلوب مباشر خال من المجاز والتورية. ففي مقطع مطوّل تحدّث محمود عن العذاب الّذي تعرّض له وعن المطالب التي رفعها باعتباره سجينا سياسيا من قبيل تجميع المساجين السياسيين في غرفة تتوفر فيها الظروف الصحية الملائمة والحقّ في قراءة الصحف والمجلاّت وفي العلاج وزيارة الأهل ونظافة الأكل ورفض تحيّة الأعوان وإجراءات التفتيش المهينة واحترام كرامة الإنسان... وهكذا افتقر "مناضل رغم أنفه" لأهمّ مقوّم. ذلك أنّ النص الروائي هو بالأساس نص تخييلي. وعندما ينتفي عنصر التخييل يفقد النص مشروعية انتمائه إلى عالم القصّ ويصبح ارتباطه بالنصوص الروائية واهيا جدّا بل يقترب كثيرا من أشكـال الكتابة الأخرى. والمباشرة تُضعف مقوّمات النص الفنّية لأنّها تستجيب لضغط الإيديولوجية وتجسّد الواقعية الداعية إلى إيصال الفكرة على حساب المستوى الفنّي.

والتخييل عمدة النصوص الناجحة وضرورة لكلّ إبداع يسعى إلى التميّز والتفرّد. يقول حنّا مينه: "والتخييل ضروريّ جدّا ولا بدّ منه باعتباره توسيعا للخيال حول المادّة المشغول عليها وظلالا فكريّة متخيّلة لا تجانب الواقع ولا تقوم مقامه بل تعطيه نكهته، حلمه، نغمته، أفقه الواسع" (حنّا مينه- حوارات وأحاديث في الحياة والكتابة الروائية -دار الفكر الجديد 1992 – ص193).

والنصوص الروائية الخالدة هي تلك التي ينجح كتّابها في صياغتها صياغة تُقيم معادلة متوازنة بين المباشر والمجّرد والواقعي والخيالي والطّارف والتّالد .وهي معادلة تنأى بالنصّ عن الموروث وتميّزه عن السائد وتجعله نصا متفرّدا يشدّ القارئ إليه شدّا ويُحدث في نفسه متعة وأيّ متعة. وفي الحقيقة خلا هذا النصّ من هذه المقوّمات.

ولم يكتف الراوي بالمباشرة لتقريب الفكرة من ذهن القارئ بل عمد أيضا إلى توظيف العاميّة.

ج- العاميّة:

أثارت ثنائية الفصحى والعامية ولا تزال جدلا وتباينا بين النقاد والقرّاء كلّما التجأ إليها مبدع. وقد طُرح السّؤال على النحو التالي" :هل نتنزّل بالفصحى إلى اللغة العاميّة التي يجري بها التخاطب: لغة الجمهور؟ أو نتسامى بالجمهور إلى الفصحى التي تجري بها الأقلام: لغة الخاصّة ولسان الثقافة...؟" (محمود تيمور- دراسات في القصّة والمسرح- المطبعة النموذجية - ص191).

وقد رأى المحافظون والصّفويّون في استعمال العاميّة خطرا يهدّد اللغة العربية الفصحى وعابوا على مستعمليها إفساد لغة القارئ وذوقه وأكّدوا ضرورة الكتابة بلغة توحّد العرب مشرقا ومغربا وتيسّر التواصل بينهم خلافا للعاميّة التي لا تتجاوز حدود القطر الواحد ولا تصلح أن تكون لغة تَخاطُبٍ يفهمها العربي أينما وُجد. ورغم هذا الاعتراض فقد حفلت نصوص سرديّة عربية منذ ما لا يقلّ عن قرن باللهجة الدّارجة وأرجع الكتّاب هذا الاختيار إلى أنّ العامية تترجم المستوى الذهني للشخصيّات (العامل، الفلاّح، العاطل عن العمل والأمّي...) وتعكس ثقافتها المكتسبة وتجنّب الكاتب التعسّف والإسقاط في حين تعتبر الفصحى لغة المثقـّفين القادرين على التخاطب بها...

والمطّلع على هذا النصّ يلاحظ جنوح الكاتب المطرد إلى استعمال اللهجة العامّيّة في مواطن كثيرة وفي فقرات عديدة بل إنّ الفقرة السردية الأولى من مفتتح الرواية تضمّنت ثلاث كلمات دارجة مثل "مرمّاجي" و"الشوانط" و"شانطي".

والمتمعن في ثنايا هذا النصّ متوقّفا عند استعمال الكاتب هذا الرصيد اللغوي الغزير يخرج بجملة من الاستنتاجات:

أ- تردّد هذا المعجم على ألسنة الراوي وجابر والجلاّدين فكان معجما ثريّا مختلفا اختلاف الشخصيّات متنوّعا تنوّع المجالات التي اُستُعمل فيها عاكسا حقولا دلاليّة شتّى.

ب- لقد نجح الرّاوي في انتقاء العبارة الدّارجة المشحونة بدلالة مخصوصة قد لا تعبّر عنها المفردة العربية الفصحى. ويتعلّق ذلك أساسا باللغة السوقية أو مصطلحات التعذيب التي اعتاد الجلاّدون استعمالها مع السجناء واستحالت لغة التخاطب اليومي. وهي لغة قوامها الأمر والنهي وهدفها التوعّد والترهيب من قبيل "بلّع فمّك" أو "الفلقة" أو "طبّس كحّ" أو "الفرّوج"...

ج - نجد معجما خاصاّ بفضاءات السجن والمسؤولين عنها وأشكال التعذيب المتّبعة هناك مثل "الآريا" و"الشنبري" و"الكنتينة" و"كبران"، و"كرفي"...

إلاّ أنّ المبالغة في توظيف العاميّة قادت الكاتب إلى استعمالات لا هي دارجة ولا هي فصحى من نحو "الروائح الغاطّة" فالروائح تكون كريهة ولا تكون غاطّة، أو قوله "كنّا نفذلك"، نقول فـَذْلَكَ الحساب: أنهاه وفرغ منه أو "زريطة الفرامل" وهذه الاستعمالات مجانيّة لا تُضيف شيئا خاصّة وأنّ مقابلها الفصيح يؤدّي المعنى ويُغني رصيد القارئ اللغوي ويُيسّر الفهم.

تلك هي جوانب من هذا النصّ ركّزنا عليها لأنّها أدّت وظيفة مزدوجة. فبقدر ما أعطت للنصّ نكهة خاصّة أضعفت مقوّماته الفنّيّة. فهل تُعدّ هذه الرواية شهادة على التاريخ؟

2 – النص الروائي والوثيقة التاريخية:

النص الروائي وثيقة لا ترتقي إلى مصاف الوثائق التاريخية ولكنـّها قد تضيف معطيات وتقدّم معلومات يصوغها الروائي بطريقته الخاصة وقد يغفل عنها المؤرّخون. و"مناضل رغم أنفه" فيه إشارات كثيرة إلى وقائع شتى:

أ – الرواية إدانة صريحة لسلطة حاكمة تمارس القمع الأعمى الذي لا يستثني أحدا أكان راعيا أم مثقّفا. وهي وثيقة تنضاف إلى الوثائق الأخرى التي أصدرتها هيئات حقوق الإنسان الأهلية والدولية مندّدة بالسياسة القمعية التي تنهجها السلطة الحاكمة في البلاد التونسية والتي مسّت في تسعينات القرن العشرين الأحزاب العلنية والسرية والمنظمات الحقوقية والحركة الطلابية والشخصيات الوطنية. وهذا الأثر يؤكّد أنّ الأدب بوسعه أن يسهم في فضح النظم التعسّفية ويكشف طبيعتها اللاديمقراطية وزيف الشعارات التي ترفعها زورا وبهتانا.

ب – يحتوي هذا الأثر شخصيات لا تخفي انتماءها الحزبي. ولعلّه أوّل أثر أدبيّ يشير بصريح العبارة إلى حزب العمّال. فمبرّر اعتقال محمود وجابر هو توزيع حزب العمّال مناشير تندّد بسياسة السلطة الحاكمة، والمقاطع السرديّة التي ذكر فيها الحزب عديدة، وخطّ الحزب الإيديولوجي والسياسي واضح وجليّ. ومن ثَمَّ دخل اسم هذا الحزب في المجال الأدبي بفضل نضالات مناضليه الذين أبوا إلا أن يسجّلوا اسمه اعتزازا بتجربة خاضوها تحت رايته ودفاعا عنه وعن جملة من المبادئ اعتنقوها واقتنعوا بها.

ج – وشائج القربى كثيرة بين السيرة الذاتية وهذا النص الروائي. فعبد الجبار المدّوري هو مناضل سياسي، عاش السرية، وعرف التعذيب والسجن، وقد يكون هذا الرصيد النضالي منطلقا لتدوين هذه التجربة وكتابة هذا النص. لذا لا عجب إن اقترب وصف الأحداث من التسجيل الحيّ لأحداث معيشة، ولا عجب إن كانت شخصية الكاتب مقسّمة بين شخصيات النص. ومن ثمَّ أصبح هذا النص مرجعا لا غنى عنه كلّما رُمْنَا الحديث عن واقع القمع في ظل هذه السلطة الحاكمة التي صادرت حرية التعبير ولاحقت الرافضين للأمر الواقع.

خاتمة

تلك هي قراءتنا الإيديولوجية لهذا النص. وهي قراءة لم نكن نرغب فيها ولكنّنا دُفعنا إليها دفعا. ذلك أنّ حمولة الرواية الإيديولوجية صريحة ومقصودة. ولكن تبيّن لنا بعد التأمّل أنّ بعض النقاط تحتاج إلى مزيد التعميق .وهو تعميق لا يقلّل من قيمة الأثر الذي يُعدّ فتحا مبينا في الأدب السياسي الذي ولّدته تجربة السجن الرهيبة والمريرة. وقد تميّز الكاتب بالجرأة فتناول موضوعا محظورا يخشى الكثير الاقتراب منه. وحسبه أنّه فتح بابا موصدا بإحكام وكشف ما يدور بين الأقبية ووراء القضبان.

محمد بن صالح



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني