الصفحة الأساسية > البديل الوطني > حجر الزاوية في مفهوم الهوية
ذاكرة «صوت الشعب»:
حجر الزاوية في مفهوم الهوية
10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

حجر الزّاوية في مفهوم الهويّة وفهمها أنها ليست مقولة جامدة، ولا كلاّ منسجما، ولا هي تتحقق في زمن دون سواه، بل مقولة تاريخية، حية، يشقّها التناقض وتتسع للقديم والجديد ولمن يشارك في بنائها دون استثناء بسبب لون أو عرق أو جنس، فالهوية العربية الإسلامية تضم القائلين بالنقل والقائلين بالعقل، أهل الحديث وأهل الرأي، الأشاعرة والمعتزلة، المتوكل والمأمون، أبا نواس وأبا العتاهية، ابن هانئ وأبا الطيب، صاحب «الحيوان» وصاحب «طوق الحمامة» صاحب «تهافت الفلاسفة» وصاحب «تهافت التهافت» ، ابن خلدون والمسعودي، ابن بطوطة الرحالة وابن البيطار الصيدلاني البحاثة وسواهما، الطهطاوي وقاسم أمين والكواكبي والحداد ومخالفيهم، البيضان والسمران والسودان وبقية الألوان، العرب والمستعربين، المشارقة والمغاربة، ولا يصح اختزال الهوية أو تجميدها في مذهب واحد، وكما تشكل نسيجها من نزعات محافَظة وتزمت بناء على منظور فلسفي مثالي تشكل أيضا من نزعات تحرر وتسامح، بناء على منظور فلسفي مادي، فهي في المحصلة بؤرة صراع ومحط تجاذب بين قوى متعارضة، بعضها يقدس الماضي وينسج حوله الأوهام ويختزل الهوية في خضوع الرعية للراعي والمرأة للرجل والصغير للكبير والمصلّي للإمام وغير المسلم للمسلم و»الكافر» للمؤمن ويصل به ذلك إلى حد إخضاع العالم للجاهل وحصر العلم في علوم الدين فضلا عن كونه يفرغ الهوية من مضمونها النيّر والمتطور ولا يُبقي إلا على ما يخدم شرعة الاستبداد والقهر المتجلبب بالدين، وما يغذي التكاره والتباغض داخل الدين الواحد وبين الأديان ويذكي الروح النحلية والطائفية ويسبب التقاتل بين النحل والملل والطوائف على نحو ما هو مشهود اليوم في بقاع عديدة من العالم الإسلامي حيث الدم وديان أحيانا وضحايا القتل والقتل المضاد بالآلاف وحيث الشبهة كافية لقطع الرأس وبقر البطن وسمل العين وإزهاق الروح.

وإزاء هذه القراءة الأحادية الرجعية للهوية، الخادمة لمآرب دولة الإكليروس ومصالح أمكر السياسات وأشدّها ظلما، قرأ المتنورون وزعماء الإصلاح الهوية تلك القراءة التي تصبّ في مشروع التنوير والتحرير وتراعي الإنسان في كرامته وحقوقه فوقعوا منها على العناصر الدافعة وهي كثيرة كالتعايش بين الأديان والمعتقدات والأعراق والأجناس في ظل ما يشبه التعاقد الاجتماعي الذي عرفته حواضر المسلمين الذين لم تزدهر حضارتهم ولم تنفع الغرب نفسه غب عصور انحطاطه إلاّ بفضل تلك العناصر التي شكلت أساسا من أسس نهضته والتي شكلت في سياسة الدولة العربية الإسلامية زمن صعودها وفي فكر أهل الرأي والعلم والفلسفة والأدب بذرة وخميرة لما نسميه اليوم بالعلمانية، فما كان ليتم لهم اختراع وإبداع وإشعاع واستشراف لآفاق الحرية لولا المكانة التي بات يحتلها العقل والتمشي العقلاني والاختبار والشك والتجريب والتحقيق في الإجابة عن الأسئلة المعرفية والاجتماعية والسياسية ومنها سؤال علاقة الحكمة بالشريعة والأرض بالسماء والحاكم بالمحكوم والمحكوم بالمحكوم [2]. وحصيلة ذلك أن ليس هناك تعارض وتضارب بين العلمانية والهوية، بين أن تكون علمانيا وتتمسك بهويتك الحضارية وخصوصيتك الثقافية، وأن تكون مؤمنا وفي الوقت ذاته نصيرا لقيم الإنسانية والتقدم، أي تفصل بين الشأن العقدي الخاصّ الذي يُحسم فرديا والشأن الاجتماعي والسياسي العام المتطوّر المتغيّر باستمرار والذي يخضع للتعاقد بين المواطنين.

إن العلمانية لم تولد دفعة واحدة ولم تعرف بذورها في تربة الحضارة الغربية والديانة المسيحية دون سواهما بل كان لباقي الحضارات والثقافات وبالخصوص العربية الإسلامية دورها في نشوء بذرتها وارتقائها وحتى دولة الإقطاع القائمة على الإيديولوجية الدينية فإنها اضطرت وهي تصطدم بالواقع إلى توخي بعض السياسات ذات الطابع العلماني حتى تقدر على البقاء وتلقى الحلول للمعضلات المجتمعية التي تواجهها لكنها تظل مع ذلك أسيرة الأفق الديني الذي يُضفي الشرعية على سياسة الطبقة الماسكة بزمامها والقداسة على أفعال وأقوال ساستها وحكامها.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني