الصفحة الأساسية > البديل الوطني > أسباب الفيضانات في بوسالم
أسباب الفيضانات في بوسالم
7 نيسان (أبريل) 2004

نشرنا في العدد الفارط من "صوت الشعب" نصا تحليليا حول الفيضانات التي اجتاحت منطقة الجديدة خلال هذه السنة والسنة التي سبقتها. وفي ما يلي محاولة أخرى وصلتنا من أحد المواطنين يتعرض فيها لفيضانات منطقة بوسالم. و"صوت الشعب" ترحب بكل المساهمات التي تتعرض لهذه الكارثة التي ضربت العديد من مناطق البلاد.

تنتمي منطقة بوسالم –جغرافيا- إلى سهول مجردة الوسطى. وهي منطقة تتميز بمواردها المائية الهامة، فهي تحتوي على أكبر شبكة مائية دائمة في البلاد وتتمثل في وادي مجردة وروافده (ملاّق، بوهرتمه، تاسة، كسّاب…

وعوض أن يكون توزّع هذه الأودية سببا في ازدهار هذه المنطقة اقتصاديا واجتماعيا، أصبحت هذه الأودية (خاصة في السنوات القليلة الماضية) لا تمثل عائقا أمام تطور المنطقة فحسب وإنما عائقا أمام السير الطبيعي للحياة العامة لسكان بوسالم بسبب الفيضانات. وهو ما يجعلنا نتساءل حول مستقبل هذه المنطقة. ولا شك أن لهذا الوضع عوامل وأسبابا جعلت المنطقة تؤول إلى ما آلت إليه. فما هي العوامل الأساسية التي خلقت هذا الوضع؟ وما هي الحلول التي ارتأتها السلطة؟

1 – العوامل الطبيعية:

يمثل وادي مجردة الذي ينبع من الأراضي الجزائرية ويصب في البحر أهم الأودية في البلاد التونسية إذ يبلغ طوله حوالي 600 كلم منها 400 كلم في التراب التونسي. ويعتبر وادي ملاق أهم روافده إلى جانب تاسة وبوهرتمة.

أ – ديناميكية المجاري:

لقد ساهمت ديناميكية المجاري في تعقيم التربة إذ تعمل على تقليص سمكها وتجريدها من المواد العضوية والناعمة فتتدنى خصوبتها. كما تسببت في فرش كميات من المواد يمكن أن تؤدي إلى دفن التربة الصالحة وخنق المزروعات بل وحتى الشجيرات (وهو يحصل الآن بأكثر حدة) كل هذا يجعل غطاء الأراضي الصالحة للزراعة يتقلص ويتدنى فتُلحق بالأراضي الجدبة.

ب – توحل السدود

إن توحل السدود وضعف إمداد المائدة الجغرافية وتواتر الفيضانات ناتج عن أن المواد بمختلف أحجامها من طين وغرين ورمل وحصى تجرفها المياه الجارية وتحملها الأودية باتجاه السافلة لتساهم في توحل بحيرات السدود التي شيدت على هذه المجاري فتتقلص مدة صلوحيتها وتعمل على طمرها (وهو ما حدث لسُد ملاق الذي انتهى عمره الافتراضي). فوادي ملاق مثلا تقدر مساحة حوضه السفحي بـ10 آلاف كلم مربع في حين تفوق نسبة النحت 400 طن/كلم مربع/سنة. ولتوحّل السدود تأثير في توفير كميات المياه المخزونة وبالتالي في تراجع المساحات المروية وصعوبة تموين السكان بالماء الصالح للشراب. والنتيجة هي إلقاء كميات هامة من الماء في البحر. وفي طريقها إلى البحر تغمر هذه المياه مناطق جندوبة وبوسالم ومجاز الباب والجديدة وتتحول إلى فيضانات كارثية). وتقدر كميات المياه التي تسيل باتجاه المنخفضات المغلقة والبحر بأكثر من 3 مليار متر مكعب سنويا دون احتساب السنوات الممطرة.

ج – الانجراف المائي:

يتسبب الانجراف المائي في الفيضانات أيضا لأن ظهور هذه الكارثة وتواترها خلال العشريات الأخيرة (فيضانات 69و73و82و90و2000و03) ساهمت فيه كما دلت عديد الدراسات رصّ التربة وضعف قابلية تسرب المياه فيها وانجرافها إذ أن هذه الظاهرة تزيد في سرعة السيلان خلال فترة نزول الأمطار.

د – الانعكاسات:

لقد سببت هذه الكوارث تدهور ظروف الحياة وفاقمت الأمراض الاجتماعية (بطالة، نزوح، هجرة، إجرام…). ذلك أن تآكل الرصيد التربي وتبديده بسبب الانجراف المائي وبسبب تنشيط ظاهرة التقويض الجانبي لحافات مجاري الأودية يؤدي إلى تراجع المحصول الزراعي وهو ما يساهم في تقلص دخل الريفيين لاعتماد أغلبهم على الفلاحة. والجدير بالملاحظة أن جميع الباحثين اعتبروا في كل الحالات دور المناخ ثانويا من جملة بقية العوامل، والتناقضات السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي التي أثرت في نمط استغلال الأرض وطرق حمايتها.

2 – العوامل السياسية:

أ – نمط الاستغلال:

تنتشر في سهول مجردة الوسطى زراعات ممتدة موروثة منذ عهد الاستعمار الفرنسي وهو استغلال غير كاف لامكانيات الوسط الطبيعي. وهو ما تسبب في تراجع تربية الماشية. وساهم في إقصاء الفلاحين الصغار من السهول واستقرارهم في الأراضي الضيقة والفقيرة للسفوح المجاورة.

ب – سياسة بناء السدود:

إن سياسة بناء السدود والخزانات تسعى إلى تعبئة قسم كبير من المياه المتنوعة المتوفرة وخلطها للتخفيض من ملوحة بعض المحطات. ولكن مما يزيد في مشكلة الملوحة هو أن قسما هاما من السدود المنجزة موجهة لتزويد مدينة تونس بالماء الصالح للشراب ولذا فإن المنطقة لا تستفيد منها. فالسدود الجاهزة على الأودية العديدة موجهة إما لتوفير الماء الصالح للشراب لتونس العاصمة أو للري وتتمثل في سُد "بني مطير" الذي يخزّن ما يقارب 6 ملايين متر مكعب وهي موجهة كليا لمدينة تونس، وسد وادي كساب (80 مليون متر مكعب) المخصص للاستعمالين الزراعي والحضري (العاصمة ونابل والحمامات). أما سد وادي هرتمة (55 مليون متر مكعب) فهو مخصص للزراعة فقط.

ومن ناحية أخرى فإن وادي ملاّق والرافد الأيمن لمجردة جُهّز بسد قديم يمكّن من خزن حوالي300 مليون متر مكعب مخصصة لتغذية وادي مجردة في فترات الجفاف وفي فصل الصيف لتدعيم الري في منطقة مجردة السفلي وذلك لأن مياه ملاق مالحة نوعا ما. ولكن السلطة لا ترى مانعا في تغذية وادي مجردة بمياه سد وادي ملاق في فصل الشتاء مما تسبب في فيضانات ديسمبر وجانفي 2003 في كل من بوسالم والمجاز والجديدة.

لقد مثلت الملكيات الكبيرة ولا تزال العائق الأساسي أمام إنجاز مشروع تهيئة منطقة جندوبة بوسالم رغم أن المياه متوفرة ومستغلة بنسبة 10% فقط في السقي رغم أن السدود تطلبت استثمارات هامة من أموال الشعب ولكن فوائدها تعود على الأقلية المستغلة والجشعة.

ج – الانعكاسات:

اختارت السلطة إخلاء مدينة بوسالم (ما يفوق 400 عائلة ستهجّر) من سكانها ومعاقبتهم عقابا جماعيا من أجل أعمال لا ناقة ولا جمل لهم فيها. فمصالح البلدية هي التي منحت السكان تراخيص البناء في مناطق معرضة للفيضانات، مسبّقة مصالح بعض المتنفذين على مصالح المواطنين.

وقد أعدت السلطة مشروع تهيئة منطقة الروماني وهي تبعد بضع كيلومترات عن مدينة بوسالم. أما السكان المهجرون قسرا فقد صنفوا إلى ثلاثة أصناف. يشمل الأول الذين سيحصلون على مساكن يبنيها "صندوق الصدقات" (26-26) ولكم أن تتصوروا نوعيتها رغم أن العديد من المباني التي تقرر هدمها تقدر قيمة الواحدة منها بعشرات الملايين. أما الصنف الثاني فيشمل الذين سيقع تعويض قيمة مبانيهم (علما وأن القيم حسب ما راج لا تتماشى مع الأسعار المتداولة في السوق العقارية ببوسالم). في حين يشمل الصنف الثالث الذين سيتدبرون أمرهم بأنفسهم (يدبروا روسهم ويتصرفوا!).

وهكذا فإن سياسة الدولة في هذه المنطقة ساهمت إلى حد بعيد في حدوث الفيضانات بمنطقة بوسالم وإخلاء سكان المناطق المتضررة حتى توفر لأصحاب رؤوس الأموال كميات هامة من المياه يستغلونها في زيادة أرباحهم وفي مزيد تفقير الشعب في مناطق منسية وخاصة حوض وادي مجردة الأوسط رغم ما تتميز به هذه المنطقة من إمكانيات طبيعية وبشرية هامة.

ونتساءل لماذا لم تختر السلطة الحل الثاني (وإن كان لا يحل المشكلة تماما لأن المسألة أعمق) وهو إقامة قناة تمتد على طول 8 كيلومترات تقريبا تربط منطقة "زاما" و"بوزيد" بالقرب من سيدي علي الجيني حتى يتحول المجرى وتتوزع المياه على مجريين عوض مجرى واحد. ويبدو أن اعتراض أحد الملاكين الكبار ببوزيد من جهة وكلفة المشروع (أكثر من 27 مليار مليما) من جهة أخرى جعل السلطة تختار تهجير السكان. وهكذا تتجلى "عناية سيادته بمنطقة بوسالم".

لقد انعكس هذا الوضع سلبا على أهالي مدينة بوسالم الذين أصبحوا دائمي التوتر لتهديد حياتهم وممتلكاتهم في أية لحظة خاصة والسدود والأودية مملوءة وهو ما يزيد من احتمال حدوث فيضانات جديدة تأتي على الأخضر واليابس نظرا للكميات الهائلة المخزنة من المياه والتي لن تتحملها لا المجاري ولا السدود عند نزول أمطار أخرى.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني