الصفحة الأساسية > البديل الوطني > الأزمة إلى تعمّق والنضال إلى تجذّر
الأوضاع الاجتماعية في تونس:
الأزمة إلى تعمّق والنضال إلى تجذّر
30 أيلول (سبتمبر) 2010

لا يمكن أن يختلف عاقلان في تونس حول مدى التدهور الذي تعرفه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا، كما لا يمكن أن يختلف عاقلان من كون الاختيارات الرأسمالية الوحشية المتبعة من قبل الماسكين بالدولة هي المسؤولة عن هذا التردي، وفي كون المعالجة الأمنية الموغلة في العنف والبطش زادت الطين بلة، وهي وإن قدرت مؤقتا على الحد من فورة الغليان ودرجة الاحتجاج، فإنها لم تقض عليه، بل إن المؤشرات الأخيرة تؤكد أن سياسة العصا أصبحت تعطي النتائج العكسية لما يراد بها أي الخوف والتراجع.

لقد أقدمت السلطة في بداية شهر جوان 2008 على إطلاق النار على انتفاضة الفقراء في الحوض المنجمي الذي حوّل إلى "منطقة عسكرية مغلقة" يحتلها البوليس والجيش، وكان الهدف من هذا الهجوم القمعي هو توجيه رسالة واضحة مفادها أن أي محاولة للمسّ من هيبة الدولة بالاحتجاج عليها أو رفض سياساتها أو عدم الخضوع لمشيئتها يكون مصيرها الوأد. ولم تكن الرسالة موجهة إلى أهالي الحوض المنجمي فقط بل إلى كل شعب تونس وفقرائه الذين بدأ البعض منهم في "مناوشة" الدولة مثل ما حدث وقتها في بن عون (سيدي بوزيد) وسبيبة وجدليان وتالة (القصرين) احتجاجا على البطالة والفقر وعلى غلاء علف المواشي... واعتقدت الدولة وجوقة اليائسين والمحبطين أن الأمر استتب لصالح مصاصي الدماء، لكن أشهرا قليلة بعد ذلك كان الاحتجاج يضرب موعدا مع العاطلين في المحرس ثم جبنيانة ثم الصخيرة (صفاقس) والرقاب، ثم المكناسي والأرياف القريبة (سيدي بوزيد) ضد غلاء علف المواشي وفقر الأهالي وبطالة أبنائهم. وفي بداية الصائفة الأخيرة كان غضب صغار الفلاحين في الرقاب وبعض المناطق المجاورة لها ضد سياسة التسليف البنكي وتورط الدولة في التحيّل عليهم من أجل جعلهم يبيعون أراضيهم الخصبة لكبار المضاربين وكبار الملاكين من العائلات المتنفذة. وفي أواخر الصائفة كان الانفجار في بن قردان، هذه المنطقة الحدودية التي يعيش أبناؤها على ما توفره لهم الحدود مع ليبيا من تهريب سلع. لقد خرج كل المتساكنين حين أقدمت الدولة على فرض ضريبة عليهم عند اجتياز الحدود. وحين أقدمت السلطات الليبية من جهتها على حجز سلعهم التي يقتاتون من الاتجار بها، علما وأن العديد منهم يجتاز الحدود بشكل دائم ومكثف. وقد فهم الأهالي أن الهدف من كل هذا هو فسح الطريق لكبار المهربين من المتنفذين المتزعمين للسوق السوداء والمتحكمين فيها بحماية الدولة ومصالحها، بما يعني تجويعهم وقتلهم. فكان الرد الطبيعي هو الخروج الجماعي للشارع دفاعا عن لقمة العيش. ورغم البطش وحرارة رمضان فقد نظم أبناء الشعب منازلة حقيقية أرعبت الدولة وفرضت عليها التراجع ولو مؤقتا بإطلاق سراح الموقوفين وإعلان حذف الضريبة الجديدة، والسماح بمرور السلع. وفي سيدي على بوعون اندلعت "معركة" لم تأخذ حظها من الإعلام لما قام أعوان بوليس باستفزاز شبان بمناسبة مهرجان المدينة، فما كان منهم، مصحوبين بعديد الأهالي، إلا أن ردّوا الاستفزاز على مطلقيه دفاعا عن كرامتهم. ورغم التعزيزات الكبيرة التي قدمت من المدن المجاورة فإن الأهالي لقنوا أعوان الفاشست درسا لن ينسوه.

إننا إذ نسوق هذه الأمثلة الحية، فلكي نؤكد أن أبناء الشعب قادرون على تنظيم المنازلات والمعارك دفاعا عن حقوقهم الأساسية. كما نريد إبراز أن سياسة العصا لم تعد تجدي نفعا ولم تعد تمنع الناس من إطلاق الصراخ والخروج إلى الشارع. كما أن حقيقة أخرى أكدتها هذه الأحداث وهي أن الحركة الشعبية غير الواعية وغير المؤطرة تجاوزت كل الأطر القائمة من نقابات ومنظمات وأحزاب. وهي مسألة يجب الوقوف عندها من قبل المعنيين بحاضر ومستقبل النضال الشعبي، ونعني هنا طبعا القوى الثورية والتقدمية التي تستمد مبرر وجودها من عدالة النضال الطبقي وشرعيته، ولا نعني طبعا البيروقراطية النقابية والأحزاب والمنظمات الرجعية التي يهددها النضال الشعبي كما يهدد رؤوس الأموال لأن وجودها مرتبط باستمرار حالة الصمت والاستقالة، أما الحركة والنشاط فهو يهمّشهم ويكشف حقيقتهم للناس وينتهي بالقضاء عليهم.

الدرس الآخر الذي تؤكده الأحداث الأخيرة هو أن الدولة تنتظرها جولات أخرى من الصراع الذي من المرجح أن يكون ضاريا من الجهتين، من جهة الشعب دفاعا عن قوته ومن جهة الدكتاتورية دفاعا عن كيانها وعن مصالح الطبقات التي تعبر عنها.

إن المؤشرات الاقتصادية الخارجية والمحلية تؤكد أن صعوبات جدية تنتظر اقتصاد البلاد. فمحاصيل القمح لهذا العام تضاءلت إلى نصف محصول العام الماضي، بما يعني جنوحا آخر للزيادة في أسعار الحبوب ومشتقاتها وهي المواد الأساسية بالنسبة للمواطن، وهو أمر يضاف إلى التوجهات الحالية التي اتسمت بالتذبذب من ذلك إيقاف العمل بالمخطط 11 للتنمية قبل سنتين من انتهائه (يعني قرابة نصف مدته) بدون تقديم أيّ تفسيرات أو تبريرات (سوى نية "سيادته" في تطبيق برنامجه الانتخابي الذي هو الآن المرجع الأساس في سياسة الدولة)، وأيضا النزوع أكثر إلى مزيد تحميل تبعات هذه الأزمة إلى الأجراء والشغالين من خلال مشروع مراجعة سن التقاعد الذي لا مغزى له سوى ما ذكرنا وذلك بمزيد استغلال الأجراء ومزيد التنقيص من الانتدابات على ضآلتها، هذا طبعا دون نسيان "الملفات" الاجتماعية الأخرى مثل تبعات الخوصصة التي تطال الآلاف المؤلفة من القوى العاملة، وأوضاع عمال المناولة، وأوضاع الصناديق الاجتماعية التي تنبأ بأزمة عميقة في الأشهر القليلة القادمة، فضلا عن أوضاع المعطلين بمن فيهم خريجو الجامعات ومدارس التكوين المهني.

إن أياما صعبة وعسيرة تنتظر دولة البرجوازية العميلة في بلادنا، فأوضاع الجماهير بلغت من السوء ما أصبحت آلة الدعاية الرسمية عاجزة عن إخفائه، وتغوّل أدوات القمع والبطش من بوليس وشعب دستورية ومخبرين أصبح عامل تحفيز للتحدي لا عامل تخويف وإرهاب.

إن علامات احتجاج قادم تؤكد أن هذه السنة ستكون سنة نضال، وقد دشنت نقابة التعليم الثانوي هذا التمشي بالدعوة لإضراب قطاعي يوم 27 أكتوبر 2010 القادم احتجاجا على ما بلغته أوضاع الأساتذة من تدهور وسوء، كما أن الأساتذة المطرودين لأسباب نقابية (محمد المومني ومعز الزغلامي وعلي الجلولي) قد أصدورا بيانا بمناسبة العودة المدرسية أكدوا فيه أنهم مستعدون لخوض كل أشكال النضال دفاعا عن حقهم في العودة لعملهم، كما أن طرد أمين عام اتحاد الطلبة عز الدين زعتور والقيادي السابق بالاتحاد بوبكر الطاهري من العمل كأساتذة بعد تلفيق قضية ضدهم، وتواصل طرد قادة احتجاجات الحوض المنجمي والمناضلة زكية الضيفاوي فضلا عن تواصل سجن الصحفي الفاهم بوكدوس والمناضل، الصحفي، مراسل البديل، حسن بن عبد الله كلها عوامل توتر ونضال آت لا ريب فيه.

إن مهمة القوى الثورية هي القدرة على الارتباط بالحركة الشعبية الناهضة لا التذيّل لها ورصدها من بعيد (ولا القفز والهروب عليها طبعا) والاكتفاء بإصدار بيانات المساندة. إن جدية هذه القوى هو في مدى قدرتها على رصد هذه المؤشرات وتطويرها وتزويدها بالوعي والتنظيم وهي مهمة ممكنة لو تحلت هذه القوى بالجدية والشجاعة مثلما هو جار في عديد مناطق العالم في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية أين تلتحم القوى المنظمة بما فيها بعض القوى الإصلاحية والنقابات الصفراء بنضال الناس وتحركاته. إن نضال الشعب لن ينتظر القوى الغائبة بل يتجاوزها ويسبقها، فهل ستتحمل القوى السياسية والاجتماعية مسؤوليتها في الالتحام بنضال الشعب كي تتمكن من عناصر القوة والشعبية حتى تدك الدكتاتورية وتفكها؟



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني